المقدَّم الشريف… وداعًا!

بقلم الدكتور سوسن النجَّار نصر (الأنباء)

في مسيرة الحياة، يُقاس الرجال، بعضهم في حياتهم، وبعضهم الآخر في حياتهم ومماتهم في آن، إذ تكون رحلتهم كما الطيور المهاجرة، ترفل بالجدّ في عليائها، وإن سقطت، فلبداية جديدة يكتب سطورها الزمن الآتي.
المقدَّم شريف فيّاض… رجل اقترنت حياته بالنضال، وارتبط رحيله الأليم بلوحة فسيفسائيّة راسخة من الوفاء والنبل والإخلاص نَدُر أن نجد مثلها اليوم، وهو الذي حفظ العهد، وكان قمينًا على الرسالة لفترة نافت عن نصف قرن.

رجل المواقف هو، والإنسان الحقّ الذي قرن القول بالعمل. فالواجب لديه مقدَّس، والعطاء خبز يومه، أمَّا النضال، فسجل مفتوح خطَّ فيه سيرته الذاتيّة بماء من ذهب.

أقول هذا وقد حباني القدر بمعرفته شخصيًّا، فكان، إلى جانب المسؤوليَّات الجمّة التي يشغلها، رجل أدب وفكر ناضج، وإنسانًا مفعمًا بالأخلاق العالية، والرفعة والإيثار، وهو خير الفضائل، كيف لا، وهو المنتمي إلى مدرسة المعلِّم الشهيد كمال جنبلاط، وهو الذي واكب وعايش مسيرة الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ منذ العام 1978، ومن ثمَّ تأسيس الجيش الشعبيّ- قوَّات الشهيد كمال جنبلاط، وتدرّج في أحضان الحركة الوطنيّة، فبرز فيها طالبًا نجيبًا، وعنصرًا فاعلًا أُقرَّ له بعمله الصادق، ونزاهته، وتضحيته في سبيل القضيّة التي آمن بها وأفنى عمره في الدفاع عنها، آملًا بتحقيق المبتغى ونصرة الحقّ والحقيقة في معراج اجترحته سياط الصعاب.

وعلى هذا، طوى “المقدّم” صفحات حياته، صفحة تلو الأخرى، وهو يجاهر باعتناقه لقضيّة العرب الكبرى، القضيّة الفلسطينيّة، وبنهجه درب المعلِّم كمال جنبلاط الذي اعتبره نبراسًا وجب اتّباعه وصولًا إلى تحقيق العدالة، والحرّية، والديمقراطيّة الحقيقيّة. وها هو يقول في نتاجه الكتابيّ الأخير “نار فوق روابي الجبل” (2015): “أنا لستُ حياديًّا في ما كتبت. أنا حامل قضية انخرطتُ فيها وقاتلتُ من أجلها حوالي نصف قرن. التقت قناعتي مع فكر كمال جنبلاط بالتمسُّك بهويّة لبنان العربيّة، وباعتبار مرتكزات النظام السياسيّ هي الحريّة والديمقراطية والمساواة، كما التقت مع قناعته بحقّ الشعب الفلسطينيّ في أرضه ووطنه”.

%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%af%d9%85-%d9%81%d9%8a%d8%a7%d8%b6

ولا ننسى وقوفه إلى جانب أسراب الجيل الجديد من الشباب، إن على صعيد الحزب التقدّمي الاشتراكيّ، من خلال منظّمة الشباب التقدّمي، أو من خلال مؤسّسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية، والتي كان على رأسها دعمًا ومساعدة لمدّ الطلّاب بما انتقصته من أيديهم الظروف، فأعانهم لبلوغ برّ النجاح وتحقيق الأحلام والطموحات، عبر إيمانه بحقّهم بالعلم ونيل المعرفة.

وإن كان الحديث عن إنجازات “المقدّم” يطول، فإنَّ جلّها كان مكسوًّا بغاية العمل لأجل العمل، وهو السائر بقول المعلِّم: “اعمل الأشياء إلى أن لا يبقى منها شيء، ولا حتَّى أمل”! وعليه، فإنَّ من عرف الفقيد الكبير واختبر مسيرته الجادّة، المثمرة، لا بدَّ أن ينظر بعين العرفان والتقدير والإكرام لما قدّمته اليد سماحة، فطاب بها القلب المحبّ فرحًا حقيقيًّا زادت من هيبته ووقاره!

فيا أيَّها “المقدَّم الشريف”، أيّها الإنسان الشريف الأبيض الكفّ والسريرة، نودّعك اليوم وقد استودعنا روحك الطاهرة صلواتنا ودعاءنا لك بالرحمة والسلام، وقد عبرتَ الجسر من الموت إلى الحياة، فنمْ قرير العين برفقة المعلّم والشهداء الأبرار الذين نلتَ شرف قيادتهم أيَّام الصمود، وها هم يستقبلونك اليوم نسرًا يسكن روابي الزمن ما طال، وكأنَّنا بنا نسمع أصداء أصواتهم الزاحفة من بعيد: ما مات من آمن بالحياة الحرّة الكريمة! ما مات “الشريف”! فتجيبهم أصواتنا المنتظرة على شاطئ التخبّط والألم: مباركة لكم الحياة! مباركة لكم النجاة!

(الأنباء)