حضر الرئيس الجديد… اللبنانيون في انتظار جمهوريته

عزت صافي (الحياة)

وُلد العهد اللبناني الجديد وفي رحمه «كتلة الورقة البيضاء» المعارضة، وهي شهادة انتماء الى عالم الديموقراطية على هامش زمن عربي يتفجّر ببراميل أنظمة قمع الحريات والأنفاس، في شراكة جهنمية مع جحافل التكفير والإرهاب الخارجة من كهوف الظلام والشر.

إنها الأعجوبة اللبنانية تتكرر، وتؤكد، أن هذا الشعب الصغير، بعدده النسبي، المثقل بنكباته المتراكمة، والمتناقلة، من عهد إلى عهد، والملزَم وطنياً، وأخلاقياً، وإنسانياً، بالمشاركة في حمل أعباء نكبات بني قومه وأهله، من الفلسطينيين، ثم من السوريين، لا يزال يملك القدرة المعنوية على تحمّل نظام سياسي يكرّر له، من عهد إلى عهد، وعده بأن يفيه حقه من العدالة، والإصلاح، والعيش الكريم في مثلّث من الحرية، والديموقراطية، والأمان.

في المسيرة الطويلة التي قطعها الرئيس الجديد الجنرال ميشال عون تاريخان لا ينفصلان: 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990 و31 تشرين الأول 2016.

هل هي لعبة القدر، أو الحظ، بين الرقم (3) والرقم (1) في مسيرة الجنرال الذي غادر القصر الجمهوري في بعبدا قبل 26 عاماً بصفة «أسير»، ليعود إليه رئيساً لجمهورية لبنان؟ وحده الرئيس الجنرال بإمكانه أن يستخلص العبرة.

في الساعة الرابعة والربع من بعد ظهر يوم الإثنين 31 تشرين الأول الماضي، جلس الجنرال عون على مقعد الرئاسة في بهو القصر الذي اختار له اسماً آخر: «بيت الشعب» بدل «القصر الجمهوري».

كانت معركته أطول معركة رئاسية، ليس في تاريخ لبنان فحسب، بل في تاريخ الدول التي تُغيّر رؤساءها بالانتخاب، بقطع النظر عن معنى الديموقراطية وأصولها وأساليبها، وفي هذا المضمار، لبنان مثال لا شبيه له، ولا دولة تتمنى أن تتشبّه به. فمنذ تلك الليلة من أيلول (سبتمبر) 1988 التي وقّع فيها الرئيس الأسبق أمين الجميل مرسوم تعيين الجنرال ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية من ستة ضبّاط (استقال ثلاثة منهم فوراً) اعتبر الجنرال نفسه رئيساً للجمهورية، وذلك استناداً إلى حق طائفته بالرئاسة، والى سابقة مرّت في نهاية عهد الرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري في أيلول 1952 عندما استقال رضوخاً لإرادة الشعب اللبناني الذي ثار ضُدّه، فكان أن عيّن قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب رئيساً لحكومة موقتة على أمل أن يعبر من خلالها الى رئاسة الجمهورية.

لكن الجنرال الشهابي تمنى على الرئيس المستقيل أن يعفيه من المهمتين: رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وكانت أسبابه واضحة وصريحة، وهي أن الجنرال ذا النشأة العسكرية على قواعدها وأصولها (الديغولية)، لا يجد نفسه، إلا في الثكنة، تحت العلم اللبناني، وبين السيوف، متأهباً على الدوام لتلبية نداء الواجب. ثم إن الجنرال شهاب ذهب أبعد من ذلك، فقد همس في أذن الرئيس الشيخ بشارة منبهاً: إذا انتقلت من قيادة الجيش الى القصر الجمهوري أعطي كل ضابط ماروني أملاً بأن يصبح قائداً للجيش، ثم رئيساً للجمهورية.

هذه الواقعة في مسيرة رئاسة الجمهورية اللبنانية معروفة، بل إن الاستشهاد بها مكرر في الموضوع اللبناني الرئاسي، مع العلم أن الجنرال شهاب عاد ووافق على تقلّد منصب رئاسة الجمهورية في العام 1958، متجاوباً مع تمنيات قيادة عربية ممثلة بالرئيس جمال عبد الناصر، وتمنيات قيادة دولية ممثلة برئيس فرنسا الجنرال شارل ديغول. حدث ذلك بعد انتفاضة شعبية مسلّحة ضد حكم الرئيس كميل شمعون في السنة الأخيرة من ولايته (1957– 1958). وهذه أيضاً واقعة تتكرر في الموضوع الرئاسي اللبناني.

لكن، في المعركة الرئاسية التي خاضها الجنرال ميشال عون، الأمر مختلف، في الأسباب، والمراحل، والتفاصيل. فالجنرال الرئيس بدأ معركته قبل ثمانية وعشرين عاماً من القصر الجمهوري. وكانت معركته طويلة بكلفة عالية على الجيش، وعلى الحكومة (وقد صارت حكومتين). لكن، صمد العلم، والنشيد الوطني، والليرة اللبنانية، والبنك المركزي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل تجاوزها اللبنانيون برعاية عربية تولت إدارتها المملكة العربية السعودية، وصولاً الى اتفاق الطائف الذي وضع حداً لعذاب الشعب اللبناني، وحدّاً لانهيار الجمهورية التي حظيت بتعاطف دول الخليج العربية، حرصاً على بقاء «النموذج اللبناني» المدني سالماً كمثال للاستقرار والحياد، والمصالحة مع جميع الدول العربية، لتعود بيروت جامعة العرب، ومنتدى العرب، ومنبراً للثقافة والعلوم، ولتعود مصايف لبنان وجهة السفر لتمضية عطلة صيف مواطني دول الخليج.

ولم يمض وقت طويل حتى تحرّر جنوب لبنان من الوجود الإسرائيلي بفضل الجيش ومقاومة شهد لها العالم العربي، والشعوب الأجنبية، بالبطولة والتضحية والانضباط والوفاء.

وأخيراً آن للبنانيين أن يستعيدوا الدولة، والشرعية، والاستقرار بحماية الجيش المؤتمن والقادر على حماية الحدود وتأمين الاستقرار والطمأنينة في الداخل مع قوى الأمن الداخلي، ولتستعيد بيروت أنوارها المشعة في «الأسواق» التي تهيأت بأبهى حللها النموذجية لاستقبال وفود السياح تتقاطر من جميع أنحاء العالم لتشهد إحياء أسطورة طائر الفينيق، وتعود بيروت عاصمة الشرق.

هل تيسّر للرئيس الجنرال عون أن زار وسط بيروت «الجديدة» التي قامت على أنقاض بيروت التاريخية التي طمرتها الحرب؟

لقد خسرت بيروت الكثير من جمالات تراثها، وعراقة عمارتها، بالهندسة والألوان، وبمشاعر الألفة والطمأنينة في زوايا شوارعها الضيقة وواجهات أزيائها التي كانت تسبق الموضة التي تطلقها باريس وميلانو.

أسواق بيروت تستحق زيارة الرئيس الجنرال، إن لم يكن قد زارها. فلعله يأمر بإطلاق خطة سياحية لاستعادة أمجاد عاصمة سبق صيتها تاريخ بلادها وشعبها.

هذا يعني استعادة اللبنانيين الذين هاجروا في السنوات الأخيرة بحثاً عن مورد رزق. ويعني استعادة ربيع لبنان وصيفه وأهله العرب من دول الخليج، حيث صار يقال أنهم هناك «صنعوا لبنانهم الربيعي والصيفي».

أحلام بسيطة في وصفها لكنها صعبة جداً في جعلها حقيقة. فلبنان وفي القسط الأكبر من واجبه بطرد العدو الإسرائيلي إلى ما وراء الحدود. والجيش اللبناني بدعم من المقاومة جاهز بالمرصاد. وما على الدولة في العهد الجديد إلا أن تستعيد هيبتها واحترامها، بدءاً من وظيفة الحارس، صعوداً إلى مقامات كبار الموظفين والوزراء، وهذه «ورشة» طويلة الأمد، وكلفتها المادية والسياسية عالية، لكنها القاعدة التي يُشاد عليها مشروع بناء الجمهورية الجديدة التي يتوقعها اللبنانيون، أو يحلمون بها.

سوف تتراكم ملفات المشاريع أمام الرئيس الجنرال عون. بعضها عاجل، وبعض آخر على مراحل. لكن، هل يخطر للرئيس الجنرال عون أن يبدأ من فوق إلى تحت؟

وهل يمر في باله ما هو الأمر المعجل الذي تتطلّع إليه عامة اللبنانيين إذا كان لها أن توجه طلباتها إلى الرئيس؟

جملة أمور بسيطة، أولها أن يعيش اللبناني في بيئة نظيفة، وأن يفتح حنفية الماء فلا يخيب أمله. وأن لا تغيب عنه الكهرباء، وأن تعود إلى المناطق والى شوارع بيروت أوتوبيسات النقل العام لتيسير المواصلات بكلفة معقولة. وأن يدخل اللبناني إلى دائرة رسمية لإجراء معاملة فلا يضع يده في جيبه قبل أن يلقي التحية بأدب.

أما البطالة وندرة فرص العمل والوظائف لأفواج الشباب الطالع من الجامعات، فأزمة تدخل في صلب برنامج العهد لمستقبل الأجيال الطالعة.

وتبقى ملاحظة لا بد منها، وإن كانت صعبة على من يعنيه الأمر، وهي تتعلق بما يسمى «إعلام العهد». ففي المعركة الطويلة التي خاضها الجنرال يتطلّب الأمر الكثير من البراعة في الكتابة، والخطابة، عبر المقروء، والمرئي، والمسموع، حتى خيّل للبنانيين أنهم يسمعون تلفزيون «الزعيم الأوحد».

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟