لبنان: ديوان المظالم

د. قصي الحسين

لبنان اليوم، ديوان المظالم، يسجل فيه يومياً آلاف الشكاوى والدعاوى. يسجل المظلومية الواقعة عليه: أرضاً وشعباً ومؤسسات. ومظلوميته على الأرض، أعظم من أن تختصر باقتطاع إسرائيل مزارع شبعا أو السطو على القرى السبع أو سرقة نبع الوزاني أو وضع يدها على قرية الغجر، أو مد الشريط المكهرب على الحدود داخل الأراضي اللبنانية أو توغل طراداتها العسكرية داخل المياه الإقليمية اللبنانية أو تحليق طيرانها فوق الأجواء اللبنانية، أو وضع المناطيد التجسسية فوق سماء الجنوب. أو نشر الكاميرات التجسسية في المغاور والكهوف وعلى الطرقات وفي القمم وفي الصخور التاريخية الدهرية أو زرعها في السهول والانهار والوديان والأشجار، وربما في هواتف الزعماء الكبار أو في لعب الأطفال الصغار، لا فرق. غير أن العدو هو العدو. وأعماله التجسسية المدانة والخرقاء، يمكن أن تحال إلى الهيئات الدولية المختصة لرفع المظلومية عن لبنان وشطبها من ديوان المظالم بخصوص لبنان وإسرائيل.

فمظلومية لبنان على أرضه إذن، أعظم من أن تختصر بتعدي إسرائيل عليها: لماذا ننسى نهش الشركات والكسارات الوطنية والأجنبية لجباله. ولماذا ننسى بل نتناسى شفط الرمول من بحره وأنهاره. وننسى سرقة سكك الحديد ومجاري الأنهار وشواطئ البحار: بحر عكار وبحر المنية والبداوي. وبحر طرابلس وبحر شكا والبترون. وبحر جبيل وبحر جونية وبحر بيروت وبحر الجية وصيدا والزهراني وصور.. ننسى سرقة الأحراج، وسرقة المشاعات وسرقة الطرقات وسرقة الأرصفة وسرقة المستديرات وسرقة العقارات التي غاب أهلها عنها. بل سرقة زوايا الشوارع في المدن وسرقة أرصفة البلديات وشبكات المجارير وشبكات الكهرباء وشبكات الهاتف، جهاراً ونهاراً من قبل الأقوياء علينا في السلطة وفي خارج السلطة ومن قبل الزعماء والقادة المتنفذين، والضاربين بسيوف السلاطين.

والمظلومية الواقعة على شعب لبنان أدهى وأشد: سرقة حقوق أطفاله في رعايتهم وصحتهم وتعليمهم ومدارسهم ومستشفياتهم وأدويتهم وكتبهم وحقائبهم المدرسية. سرقة حقوق أطفاله في حضانتهم ورعايتهم وأبوتهم وهويتهم. وسرقة حقوق الأطفال في انتمائهم وأمنهم العائلي والأسري والوطني.

وإلى ذلك نضيف سرقة حقوق شبابه، في جامعاتهم وفي وظائفهم وفي انتمائهم وفي بقائهم في وطنهم وقرب عائلاتهم وزوجاتهم وأزواجهم وأهليهم. وداخل قراهم ومدنهم وسهولهم وجبالهم. وسرقة أحلامهم في العيش الكريم، والوطن الكريم والبلد الكريم والعشرة الكريمة. ناهيك عن سرقة حقوق الشابات اللبنانيات في الزواج والاختلاط والانتماء والهويات لعيالهم وأطفالهم.

أمّا سرقة الأباء والأمهات، في حقوق الرعاية لأسرهم في الانتماء والأمن والاطمئنان والعيش الكريم، داخل لبنان، فحدّث عنها ولا حرج، من دون أن تروعهم حادثة من هنا واعتداء من هناك وجحافل هوج، وشوارع وساحات تهتز وتموج. ومن دون أن تسرق الرواتب والمداخيل والحقوق في الطبابة والاستشفاء والتعليم لهم ولعيالهم، بالعدل والمساواة: لا أبناء ست ولا أبناء جواري. ومن دون أن تسلب جيوبهم بالضرائب و TVA والضريبة التصاعدية عن التخلّف عن الضريبة. ومن دون أن تسرق الأتعاب والمكافآت والتعويضات في صناديق الأجهزة والإدارات.

وأما المظلومية الواقعة على المؤسسات في لبنان، “فلا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا مر على قلب بشر”: سبي الإدارات، من أصغرها شأناً إلى أعظمها شأناً. وسلب المراكز واقتطاعها حصصاً بين الأركان، على حساب الجدارة والكفاءة والعلم والمسؤولية. ناهيك عن استباحة الوظائف والقوانين والأنظمة المرعية الاجراء. واستباحة السجلات والعقود وقلم التوقيعات والدواوين المترابطة والمتدرجة، وإخراج الميت من الحي، والحي من الميت.

وأعظم ما ابتلي لبنان من مظلومية: مظلومية الشغور، من اصغر كرسي في الإدارة إلى أعظم كرسي في الجمهورية. لا بدافع التوافق والعدالة والديمقراطية والمساواة والحفاظ على الصالح العام والمال العام والحق العام، وإنما بدافع المحاصصات الطائفية والمحاصصات الزعامتية والمحاصصات الدولتية، والمحاصصات المناطقية والحزبية والجهوية وربما الإقليمية، وما يتصل بها ويتفرع عنها من قوى ميليشياوية بسلاح ظاهر وبسلاحٍ مخبأ ومرهون ومركون ومموه، حتّى تؤذن الساعة.

وأعظم ما ابتلي به لبنان من مظلومية، أن يتعرّى أمام أمم العالم بلا محاسبة وبلا موازنة وبلا حوكمة وبلا محكمة وبلا حكومة وبلا رئيس وبلا مجلس وبلا قيادة. أعظم ما ابتلي به لبنان، أن يتحول الوطن إلى سفينة هوجاء في بحر العواصف: تهجيراً وتقتيلاً وأسراً وتنكيلاً وخطفاً على رؤوس الجبال أو رؤوس الأشهاد، فوق جبال النفايات وجبال النكايات، لترسو على اللبنانيين في لبنان كأعظم ديوان للمظالم.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث