بعض هواجس تركيا والمنطقة

د. بهاء أبو كروم (الحياة)

لا تضمن رعاية الولايات المتحدة والحكومة العراقية الحملة العسكرية على الموصل، بل تزيد، المخاوف من تغيير ديموغرافي يطاول ثاني أكبر مدينة في العراق لها امتدادها نحو تركيا وسورية بما يهدد الأمن الإقليمي في كل المنطقة. ما يدفع تركيا إلى الأخذ، حينما تتطلع إلى تداعيات ذلك، بالبعدين الجيوسياسي والأيديولوجي معاً في تعاطيها مع معركة الموصل.

أردوغان مُطالب بالتأثير في نتائج هذه المعركة، وظروفه الحالية تتيح له ذلك، بخاصة أنه بعدما عدّل قواعد «رضوخه» لرغبات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وطبّع تفاهماته مع الجانب الروسي، أخذ يرسم لتطلعاته في الخارج آفاقاً جديدة، وأدخل على استراتيجية الأمن القومي مفاهيم محدّثة تتعلق بقواعد العمل الاستباقي. وكل خطاباته الأخيرة تتضمن معاني تبريرية لما يمكن أن يقدم عليه في المستقبل.

عقب القمة الأولى في سان بطرسبورغ بين الزعيمين بوتين وأردوغان، التي طبّعت العلاقات الاقتصادية، بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية بنيران تركية، خرجت تركيا من حدودها في عملية درع الفرات على الجهة السورية، وبعد القمة الثانية على هامش الدورة الـ23 لمؤتمر الطاقة العالمي في اسطنبول، كشّرت تركيا عن أنيابها وراحت تستعد للذهاب أبعد من ذلك وإلى وجهات مختلفة هذه المرة، بهدف «القضاء على الخطر من مصدره»، وفق تعبير أردوغان.

طبعاً لهذا التوقيت دلالاته، فالاستجابة الروسية لحاجيات أمن تركيا القومي تضمن مروراً آمناً للنفط، الذي يشكل عصب الاقتصاد الروسي، عبر الأراضي التركية، وهي الممر الوحيد المتبقي لبوتين تجاه السوق الأوروبية، إذّاك يمكن التساؤل عن مفاضلة الروس في حال نشوب صراع بين تركيا وإيران في محيط الموصل. وبعد تسليم روسيا منظومة أس 300 لإيران، فإن الكلام عن التعاون في مجال الدفاع الجوي بين تركيا وروسيا يساعد الأخيرة على الموازنة مع إيران في علاقاتها الشرق أوسطية وعلى الساحة السورية. وبالتالي، فإن العقبة أمام التصعيد التركي هناك لا تأتي من روسيا هذه المرة بل من الولايات المتحدة.

التدخل الإيراني الفاضح في العراق والفوضى الناجمة عنه بدآ يطويان صفحة سيادة هذا البلد ويحوّلانه مُصدّراً للأزمات والهواجس. ولقد استشعرت الإدارة التركية عمليات الفصل الديموغرافي الآخذة في التشكل هناك، بما يؤول إلى فصل تركيا عن مناطق العمق العربي أو السني تحديداً، وبما يصل بالنفوذ الإيراني إلى حدودها الشرقية. ولهذا الطارئ الديموغرافي انعكاسه الجدي والعميق على تطلعات حزب العدالة والتنمية، ما يدفعه إلى الانخراط في شكل استراتيجي في معادلة الصراع السني – الشيعي ومحاولة وقف سلسلة التحولات الديموغرافية قبل الوصول إلى العمق التركي.

طبعاً هذه القناعة لم تأتِ من فراغ، وهي ترتكز على أرضية ثابتة عند الأتراك، فهم يستشعرون ارتفاعاً في منسوب الوطنية لديهم يصل إلى حدود التحضير للانتقال إلى النظام الرئاسي من دون عوائق جدية، مع تماهي أحزاب المعارضة والموالاة في النظر إلى الأخطار الخارجية. في المقابل، يستشعر العرب انخفاضاً في منسوب الشعور القومي لينحازوا أكثر إلى تركيا في سجالها مع حكومة بغداد، وليتحول الرهان على تركيا واحداً من عوامل الحفاظ على كيانات المنطقة وهويتها وثباتها الجغرافي أمام خطر التوسع الإيراني. طبعاً عرب إيران لا يحفزون انخراط الثقل التركي بهذا الصراع، ويتذكرون محاسن القومية بعدما باعوا أنفسهم للفرس!

الهواجس التركية لا تقف عند هذا الحد، وما لم يقله أردوغان بعد يتعلق باصطدامه بجوهر المشروع الإيراني الذي إن نجح في إتمام هلاله الشيعي، فذلك يعني فصل تركيا عما تبقى من العالم العربي وسنة العراق والجزيرة العربية.

في العقل التركي، فإن الموصل وحلب تشكلان امتداداً طبيعياً لعلاقات ثقافية وتجارية مع كتلة كبيرة من الأتراك الذين يصلون إليهما قبل الوصول إلى أنقرة أو اسطنبول، والمُمسك بهاتين المدينتين لديه تأثير كبير في الداخل التركي لطبيعة العلاقات التبادلية، وقد أجاد «داعش» اللعب على هذا الأمر، فشرع في فرض قواعد اشتباك مع تركيا حين اعتقل البغدادي الديبلوماسيين الأتراك من القنصلية التركية في الموصل، علماً أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي كانت تملك قنصلية هناك.

ولهذا الأمر انعكاسه على الداخل، فلتركيا هواجس من اقتراب «الدعوة» الشيعية من المدن المتاخمة لحدودها مع وجود ما بين 15 إلى 20 في المئة من العلويين بين سكانها، ومع أن هؤلاء شكلوا الدعامة الأساسية للنظام العلماني مع أتاتورك، فنموذج تطور حالة الحوثي بين اليزيديين في اليمن شاخص أمام أعين أردوغان وحزبه، لا سيما أن المحافظات المحاذية للمملكة العربية السعودية في اليمن تحولت إلى منصات صواريخ موجهة إلى أراضي المملكة، فالنموذج حاضر في ذهن الأتراك ولا يحتاج الى تكهنات مغايرة. لا بل أن الاشتغال على العامل المذهبي داخل تركيا لديه مفعول مُضاعف لطبيعة الروابط والتعاطف المتبادل مع حزب العمال الكردستاني.

معركة الموصل، أو ما بعدها، تطرح تحدياً جديداً أمام الجميع، فماذا يعني عراق يُصدّر مذهبية ومشاريع ديموغرافية وتسرح في داخله وعلى حدوده إيران وتُقاتل ميليشياته في سورية، بالنسبة الى ما تبقى من دول ذات سيادة ومجتمعات على امتداد المنطقة؟!