الدولة العصرية

بقلم د. ناصر زيدان

مع التطور الذي طال شكل الدولة، وتنامي المهام التي تقوم بها؛ اصبح للدولة العصرية مُحددات لا يجوز إغفالها، ذلك لأن الاعتبارات التي تحكم المسؤولية القانونية والاخلاقية للقيِّمين على إدارة الدولة إتجاه المواطنيين اصبح لها معايير قانونية مُلزمة، وغابت المقاربة التي تنظر للحاكم كأنه مُنزَّه عن الاخطاء، كما اختفت النظرية القديمة التي كانت تعتبر ان المواطنيين رعايا للدولة، ويجب ان يكونوا في خدمتها، وبالتالي في خدمة سياسة الحُكَّام، بل اصبحت الدولة ذاتها اداة لخدمة الشعب، والسهر على راحة المواطنيين.

وفي الدولة العصرية؛ إختفت ظواهر تلزيم المرافق العامة لمصلحة اشخاص، بهدف استثمارها، او تشغيلها بمردود مالي لمصلحة الحاكم – كما كان ايام نظام الاقطاع في جبل لبنان القديم – حيث كانت تُلزَّم جباية الضرائب، ورسوم الخدمات العامة، كما مياه الينابيع والطرقات، ليستفيد منها الاقطاعي، ويدفع “الميري” او الجزية للسلطان. الدولة العصرية اصبحت دستور وقوانيين وانظمة، لا يمكن الولوج اليها إلا عبر مسار ديمقراطي يتأكَّد من خلاله؛ ان هذه القوانيين صادرة بإرادة الشعب التي تتكون منه الدولة لتتنفَّذ على الاقليم الارضي المُحدَّد لها.

Sena-011

والمسار الديمقراطي في الدولة العصرية؛ لا يعني بإيِ حال من الاحوال انه عملية اجرائية رقمية، تعتمد على التصويت، او الاقتراع فقط، بل انها عملية مُعقَّدة احياناً، فيها اجراءات مُختلِفة، يمكن ان تكون عبر “التصويت العددي” (اي الإدلاء بالصوت في صندوقة الإقتراع)، ويمكن ان تكون من خلال الاستفتاء الذي يأخذ الطابع الحزبي احياناً، او المُبايعة كما في الانظمة الملكية والاميرية عندما يتم تنصيب الملك الجديد، ويمكن ان تكون عن طريق الديمقراطية المباشرة، اي عبر المؤتمرات الشعبية حيث يتجمَّع الناس في اماكن مُحددة للإدلاء برأيهم في قضيةٍ معينة.

ولكن الغالب الذي تمَّ اعتماده على نطاقٍ واسع في الدول الحديثة؛ هو نظام الديمقراطية بالتصويت – اي تنظيم عملية الاقتراع للمواطنيين – وفق قانونٍ مُحدد لإختيار ممثليهم، او لإعطاء رأيهم في قضية عامة، ويمكن للقانون الذي ينظِّم عملية الانتخاب ان لا يشمل كل المواطنيين، او ان يحمل بعض الشروط الشخصية لحق الإقتراع. وهناك مراحل مختلفة لعملية التصويت ايضاً، بحيث ينتخب المواطنون ممثليهم في اماكن سكنهم، ومن ثُمّ ينتخب هؤلاء المُمثلين نواب عنهم، والنواب ينتخبون رئيس.

حتى الانظمة الملكية، التي تعتمد نظام المبايعة (اي زيارة المكان المُخصَّص لإعلان الولاء) لـتأكيد مشروعية حكمها؛ طبَّقت نظام “التصويت” في نواحي محددة، مثل انتخاب مجالس بلدية او اختيارية مناطقية، كما لإختيار اعضاء مجالس شورى تُعطي مشروعية للقوانيين الذي يُصدرها الملك.

امَّا تجارب الاستيلاء على السلطة من خلال القوة العسكرية، فقد فشِلت، ولم تدوم طويلاً، وما بقيَّ منها من نماذج يتآكل تحت تأثير الوعي الشعبي، وما الانتفاضات التي حصلت في عدد من الدول العربية منذ نهاية العام 2010 حتى اليوم إلا دليلاً على استحالة عيش هذه الانظمة مدة طويلة، عن طريق فرض ارادة الحاكم بقوة السلاح.

والنظام الحزبي الشمولي الذي ما زال مُعتمداً في اكثر من دولة – خصوصاً في كوريا الشمالية، وعلى درجة مُختلفة واقل أُحادية في الصين – فيكاد يفقد قدرته على الاستمرار عندما تغيب القوة العسكرية ذات الطابع العقائدي التي تحميه، فالجيش عندهم؛ هو بمثابة جيش الحزب. واثبتت تجارب بعض الدول؛ ان المشروعية الحزبية التي كرَّستها بعض الدساتير – مثل مقولات الحزب الحاكم –  كانت واهية، وغرقت بمشكلات كبيرة مع المواطنيين، وتخلَّى عنها جمهورها عند اول مفترق.

اهم الخصائص التي تتحلَّى بها الدولة العصرية:

أ_ الحكم الجماعي: ذلك ان الفردية – او الشخصانية – لا يمكن اعتمادها في إدارة الدولة الحديثة، ولم يَعُد شعار ” ما هو لمصلحة القيصر يعني انه لمصلحة الدولة ” قابلٌ للحياة، لأن نظرية المصدر الإلَهي للسلطة التي كان يروج لها بعض الاباطرة والملوك سقطت، والمبايعة المُطلقة غابت الىغير رجعة، فالعصرية فرضت تعدُّد السلطات في الدولة الواحدة مهما كان نوع نظام الحكم فيها ” فالسلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة”. لذلك فإن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية هي مستوجبات عصرية، يجب ان تتوافر كحد ادنى في اي دولة، ولكل من هذه السلطات أُطر ومُحددات لا يمكن ان يقوم بها شخص واحد، بل إنها تفرض وجود عدة اشخاص. على سبيل المثال: مجلس النواب (سلطة تشريعية) ومجلس الوزراء (سلطة تنفيذية) ومجلس القضاء الاعلى (سلطة قضائية) وكل منهم يتألف من مجموعة اشخاص.

1

ب_ فصل السلطات: والحكم الجماعي الذي يتوزع على مجموعة اشخاص في أُطر مجلسية، او الذي يعتمد النظام الرئاسي؛ يفرض فصلاً للسلطات في الدولة، ومن دون هذا الفصل لا يمكن ان تستقيم الامور في الدولة العصرية، لأن تشابك الصلاحيات يؤدي الى ديكتاتورية مُقنَّعة احياناً، والى فوضى ونزاعات احياناً أُخرى، لكن فصل مهام السلطات بعضها عن البعض الآخر، يفرض تعاون بين هذه السلطات لتسيير شؤون الدولة.

ج_ رعاية مصالح الشعب: إضافةً الى نمطية الحكم الجماعي وفصل السلطات؛ يفترض بالدولة العصرية ان يكون لها دور الراعي لمصالح الشعب الذي تمثله. فالدولة التي لا يكون هدفها الاساسي حماية ورعاية مصالح شعبها؛ لا يمكن ان تعيش في يومنا هذا. بعض التجارب التي تقوم على مُرمزات دينية او فقهية او شخصية او إثنية؛ تتآكل. ولكي تحافظ على استمراريتها في بعض الدول تحوَّلت شيءً فشيءً الى المُزايدة في الحرص على مصالح الشعب عن طريق تغذية الشوفينية، او الشعبوية لإعلاء شأن الأُمة، وحفظ مصالحها، لكي تستمر في النمطية المُعتمدة. لكن فرص استمرارها في الوقت الراهن ضئيلة، لكون الاعتبارات الدينية، او العقائدية؛ لا تكفي وحدها لفرض تولِّي مقاليد السلطة. فإلإمتدادات الخارجية للدولة اصبحت ضرورة حتمية لا يمكن تجاوزها، نظراً لترابط الحياة العصرية في كل انحاء العالم.

ودور الدولة في رعاية مصالح شعبها؛ تنامى على شاكلة واسعة، بحيث تداخل فيه الامن مع تأمين فرص العيش، مع توفير مقومات الاستمرار وفقاً لمستوجبات الحياة العصرية التي تطلب الرعاية في شؤون العلم والصحة والانتقال، إضافة الى الحماية الجسدية للناس، وحماية ممتلكاتهم واموالهم، وضمان استمرارهم جزءً من المنظومة المدنية العالمية، اي كفالة مكانة مواطنيتهم بين أُمم الارض.

د _ توفير ظروف انتاج المواطَنة: من ابرز شروط نجاح الدولة العصرية؛ انتاج مسار واضح لتحقيق المواطنة بين ابناء الشعب الذي ينتمي الى الدولة، واحترام حقوق المُقيمين على اراضي الدولة من المواطنيين الاجانب، وفقاً للمحددات التي نصَّت عليها العهود الدولية التي ترعى حقوق الانسان المُختلفة.

التعصب الديني

ان إنتشار التعصب الديني او العرقي او القبلي؛ لا يعني بإي حال من الاحوال ان نموذج التفرقة، او التمييز بين الشعوب؛ هو القاعدة الثابتة، على العكس من ذلك فإن تنامي هذه الظواهر يدلُّ على ضعف الدولة. واذا استعرضنا ظروف بعض الدول التي تنتشرُ فيها ظواهر التعصُّب – ومنها الغريب عن العصر – نرى ان هذه الدول تعاني من انظمة لم تعتمد قواعد حديثة في نمطية الحكم، بل غلَّبت المصالح الشخصية، او الفئوية، على عملها؛ وبالتالي فإنها فشلت في انتاج مواطَنة صحيحة يتحلَّى بها ابناء الشعب كافة، بصرف النظر عن انتمائهم الديني او القومي او العرقي او السياسي. ويمكن اعطاء مثال على هذه المقاربة في حالة سوريا والعراق وغيرهما، حيث كان الولاء للشخص او للحزب او للطائفة هو القاعدة.

لايمكن بناء دولة عصرية من دون الاخذ بالاعتبار التطور الميثولوجي، او ما يمكن تسميتة ” السوسيومودرنية ” التي تعتمد على المعايير العالمية الموحدة للحقوق السياسية والمدنية والشخصية للإنسان، بعيداً عن التمايُز الحزبي او الوطني او الديني.