أن تحميهم من أنفسهم

سمير عطاالله (النهار)

ممن أراد غاندي أن يحمي الهنود؟ طبعاً أراد أولاً أن يحررهم من الاستعمار الأثقل من البعوض. أما الحماية، فأراد أن يحميهم من أنفسهم. يقول سوكيتو ميهتا: “لو لم يضبط المهاتما في نفوسهم غريزة العنف لكانت تلك أكثر معارك الاستقلال وحشية في التاريخ”. عندما تُركوا إلى غرائزهم في ما بعد، انصرف الهنود إلى ذبح بعضهم بعضاً، ومن ملايين الجثث في الشوارع، اصبحت الهند بلدين، احدهما باكستان، ثم اصبحت هذه دولتين، احداهما بنغلادش.

القائد النبيل لا يلتحق بغرائز اتباعه، بل ينقذهم منها. الحرب أسهل بكثير من السلم. عود ثقاب ويشتعل العالم. بوسطة، في مكان خطأ، وتنفجر الغرائز في كل الجهات. بوق أهبل، أو شرير، أو رخيص، وتهب الدهماء مثل الجوارح على فريسة. وفي امكانك أن تكرر ذلك عشرات المرات. اياك أن تصدق خرافة الاتعاظ. الجهل عدو الحكمة، عدو كل شيء، وإذا ما هاج، فبأي عقل يمكن ان يهدأ؟

تحتاج الدهماء دائماً إلى منقذ ولو فوق مرتبة الغريزة، وفي مرتبة العقل. رجل في أرفع الصدق الوطني وفي أرفع الادراك معاً. كائن لا يريد شيئاً لذاته سوى كرامة الآخرين. غاندي و “نوله”، أو مانديلا الذي كان في امكانه أن يحكم إلى الأبد، لكنه لم يبق يوماً واحداً بعد انتهاء الولاية. أو جارنا ذات يوم، شارل ديغول، الذي من أجل أن يوسع الحديقة في كولومبي، قايض مع كاهن القرية قطعة أرض بقطعة أرض. متر بمتر وسياج بسياج.

التاريخ مليء بالصغار. لذلك، عندما يمر به العمالقة والجبابرة، يحوله إلى مزارات، ويتوقف عند ذكراهم متأملاً، تاركاً للغبار أن يعلو ويهبط، تعيده زخة مطر إلى موقعه. بعد الاستقلال ذَهَبت الهند إلى الديموقراطية وحزب الاستقلال وإرث غاندي ونهرو وطاغور، وذَهَبت باكستان إلى الانقلابات العسكرية، مرة ترسل رؤساءها إلى الاعدام، ومرة تفجّرهم. جميع أفراد عائلة بوتو، ماتوا قتلاً.

ثمة شيء واحد أكثر بشاعة من القتل في السياسة، الفساد. لذلك، للنزاهة قاعدة لا تخطىء، إما البيت في كولومبي، إلى جانب كاهن الضيعة، وإما بنوك سويسرا. التجارة حق في الربح، الحكم واجبه الترفع. كل خيار بين بين ، هوغطاء للتزوير، وبطانية ارتكابات وصفقات ومزابل، ظاهرة وخفية.

قال البريطاني مالكولم ماجريدج عن الادلة التي كانت تقدم في المحاكمات الستالينية “إن كل شيء فيها صحيح، إلا الحقائق”. عندما يدخل السياسي في زور صغير ينتهي في جبال من الزور. لها شكل مزابل بيروت الطليقة وألوانها وروائحها. هذا العفن العام، أو شبه العام، يأتي عادة من الترهل الذي تصاب به الجماعات. اكتشف منظمو حملة دونالد ترامب أن معدل الأعمار عند الاميركي الأبيض قد انخفض، ليرتفع عند “الاقليات”. والاقليات هو المصطلح المتحفظ بدل الإشارة إلى الافرو اميركيين بـ”السود”. أو الهيسبانيين. أي ذوي البشرة غير البيضاء.
الترهل الذي اصاب بعض الجماعات اللبنانية بظهرها، خطأ، وكأنها أصيبت بالعقم ايضاً. وتوصف الديموغرافيات بالعقم عندما تنضب فيها مظاهر العبقرية والتميز وتكثر سطحياتها ويتحول فكرها إلى ملصقات. وإذ يتكاثر الغث، يبتعد المؤهلون بأنفسهم، ويختار الصالحون الانزواء، وتنزلق الجماعة برمّتها إلى التدهور.

أول ما يفعله التخلف محاولة الغاء كل ما مضى. كل عهد سابق عند الانظمة هو “عهد بائد”. لا قبل ولا بعد. عندما قرر القذافي اعادة كتابة التاريخ الليبي، قرر التوقف عند المرحلة الرومانية. وإلى الآن ليس هناك كتاب تاريخ “موحد” للبنان، لأن كل جماعة تعتبر نفسها مظلومة، وكل أخرى ساطية وظالمة.

ليس هناك شيء يدعى التاريخ. هناك المستقبل ودورك فيه. الماضي ضريح، لكن الأفضل أن يكون بماء الذهب، في أي حال. أو بدموع الندم، كما هو حالنا البائس مع فؤاد شهاب وهذا البلد اليتيم. الجنرال الذي رفض أن يحكم لحظة واحدة من دون مسلمين، ورفض أن يجدد، ثم رفض أن يعود، معتبراً ان السياسة – مثل العسكرية – مهمة، لا مهنة ولا وسيلة.

إلى متى سوف نظل نتأسى على فؤاد شهاب؟ ربما إلى الأبد. ذات مرة كتب غسان تويني، المعارض، في إحدى الافتتاحيات التي كانت تهز لبنان من أجل دعم بنائه، أن فؤاد شهاب بلا ابناء. وكعادته العاطفية، ندم بعدها على ذلك.

ولكن من مصادفات التاريخ في لبنان ان يكون فؤاد شهاب ايضاً من دون ابناء. واخوته منعهم من الظهور. وكل من يحمل اسم العائلة كان ممنوعاً من استخدامه إلا في تذاكر السفر. ومعاونوه الأقرب كانوا على الدوام مسلمين. ولم يسمح مرة بحكومة مخلَّعة لا تمثل كل لبناني، في أهم جامعة أو آخر جرد.

كان فؤاد شهاب، الأمير الذي عمل مباشر محكمة، يعرف بقرب وعمق، أن بناة لبنان الحقيقيين واصحابه الأحق، هم الذين بنوه ثلماً ثلماً وجلاً جلاً ومدرسة وسنديانة. رجاء مسامحة الذاكرة المتعبة، ان كنتُ ذكرتً ذلك من قبل: قرأنا جميعاً في الماضي كتاب “اسمع يا رضا” للدكتور انيس فريحة على أنه حكايات القرية القديمة: صاج وتنور وقراديات اميل مبارك.

لم تكن هذه القرية اللبنانية. من رأس المتن، كان أنيس فريحة يجوب القرى البعيدة والمجاورة حاملاً على كتفيه الجلود يبيعها في الساحات. وكانت رأس المتن كلها عرقاً وكداً وملحمة يومية في وجه العواصف، أو القرّ، أو الحرّ. ومنها سوف ينزل انيس فريحة إلى الجامعة الأميركية استاذاً. ومن عزلة القرى سوف ينزل فيليب حتي ليصبح سيد المؤرخين العرب. ومن الشوير سوف يذهب المعمرجي خليل حاوي إلى كايمبردج ليصبح استاذاً فيها وشاعراً على القومية والحداثة. ومن زحلة نزل سائق التاكسي ميشال عاصي ليصبح رئيساً للجامعة اللبنانية في كرسي فؤاد افرام البستاني، موسوعة التاريخ والآداب والمؤسس الذي لم يتكرر.

مثل هذا لبنان، لا يسلّم بسهولة إلى الدلع والتدلل. لقد بني بمشقة كبرى من اجل أن يكون جرماً في مدار الحضارات، لا حلقة في متاهات الذات الدائرية. ولا بد أن هناك من سوف يظل يدافع ضد ذوبانه، أو ضياعه بين الاقدام. لقد أمضى قروناً يقدم عقولاً، لا اقداماً. أجمل تكريم للأمير شكيب ارسلان – وللمختارة – أن اقيم له مسجد في المختارة. سمّها ذكاء، سمها العقل الدرزي المولود. سمها الحكمة، سمها وليد جنبلاط في استواء تجارب العمر، فإن اسمها الأصلي معاني لبنان. سوف يؤذن في قلب الجبل مؤذن يذكّر السامعين بالأمير الذي ملأ عالم الاسلام بياناً وسحراً. ولا يهم عدد المصلين. فالرسالة في المئذنة، لا في المصلى.

عندما تنشأ في بيت تاريخي، تحرص على موقعه وموقعك في التاريخ. شكيب ارسلان كان من أعلام عصر النهضة وسادة اللغة. وفي الفكر والسياسة والديبلوماسية كان طليعة الرعيل الذي ضم عارف النكدي وفؤاد حمزة ونجيب علم الدين، الذين ساهموا في الدول الفتية يومها، السعودية والأردن، حتى أن فؤاد حمزة لم يبق مستشار الملك عبد العزيز فحسب، بل اصبح سفيره إلى تركيا وفرنسا.

مسجد شكيب ارسلان في المختارة حدث من احداث الجبل، وليس خبراً اجتماعياً كما مرّ في الصحف التي يبدو أنها دخلت، مثل الجميع، في اليأس والملل. فلم يعد في لبنان قبلة تتجه إليها الناس بالتظلم أو بالرضا. كانت لشكيب ارسلان أعمال ادبية لا تُحصى إذ كان موفور الانتاج على نحو نادر. ومن دلالات النفس في أعماله تحقيق كتاب “محاسن المساعي في مناقب الامام ابي عمرو الاوزاعي”. وقد عاش عبد الرحمن الاوزاعي، المولود في بعلبك في القرن الثامن، وكان “مفتي الديار الشامية”. وأمضى سحابة عمره في الفقه وفي الدفاع عن المسيحيين. ولم يقاربه في هذا القصد سوى الامير عبد القادر الجزائري الذي حول مقره في دمشق إلى ملجأ للمسيحيين الهاربين من مذابح 1860. وقد ناضل الأمير ضد الحكم الفرنسي في الجزائر، حتى نفي إلى دمشق، لكنه لم يخلط بين الاستعمار ونصارى البلاد. وكان في نية أمين معلوف قبل سنوات أن يحول شخصيته الاسطورية إلى كتاب على طريقة “ليون الافريقي”. ولا أعرف لماذا لم يستكمل المشروع.
يُطرد المسيحيون الآن من ديارهم الأم في سوريا والعراق، كما هاجروا جميعاً من أرض المهد في فلسطين، وحيث كانوا يشكلون نحو 20% لم يبق منهم سوى 4%. وهؤلاء الذين تقدموا شهداء الأرض والقضية، يشير اليهم المناضل جبريل الرجوب اليوم بأنهم “شعب الميري كريسماس”.