للتمسّك بالمشروع الأوروبي وتقسيم منطقة اليورو

جوزيف ستيغليتز (الحياة)

دعا جان – كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أوروبا الى موقف قاس لا يلين أمام البريطانيين لثني دول أوروبية أخرى عن الخروج من الاتحاد. وهذا الموقف هو مرآة الافتقار الى رؤية. فهو يوجه رسالة مفادها أن الخوف هو آصرة الاتحاد. وهذا موقف سلبي في وقت يقتضي الدفاع عن المشروع الأوروبي (الاتحاد) مقاربة إيجابية. وأوروبا مدعوّة الى إبرام أمثل اتفاق مع لندن يندرج في سياق مشروع الاندماج الأوروبي.

وأعارض السياسة المالية التي انتهجها يونكر في لوكسمبورغ (كان رئيس الوزراء هناك بين 1995 و2013). ووضع اليد على العائدات المالية والضريبية في دول أخرى هو أسوأ الحلول. فهو (وضع اليد) يكاد يشل عجلة هذه الدول ويقوّض قدرتها على جبي ضرائب تصاعدية، فتتعاظم هوة التباين الاجتماعي.

والمملكة المتحدة لم تنضم الى منطقة اليورو، وهي ترى، من وراء المانش وضفته الأخرى، أن اليورو لم ينفخ في جاذبية أوروبا. وهو يتعثر اليوم. والنمو كان أقوى قبل العملة الموحدة، حتى في دولة مثل اليونان. ومع اليورو، فقد اليونانيون 25 في المئة من ناتجهم المحلي، وبلغت نسبة البطالة 25 في المئة، وفي أوساط الشباب 60 في المئة… وهذا إخفاق لا نظير له. والعملة الموحدة تمس حاجتها الى إصلاحات فعلية وسريعة. لكن مثل هذه الإصلاحات ليس في المتناول. وحين تُجمع دول منطقة اليورو على اتحاد مصرفي، تعارض ألمانيا الجانب الأكثر أهمية من الاتحاد هذا، أي ضمان الودائع المشتركة الذي يحـــول دون هرب رؤوس الأموال من بلدان تتعثر فيها البنوك ويصيبها الوهن. وتضطر هذه المصارف الى تقييد الإقراض، فيتعاظم أثر التقشف العام والركود.

والإجراءات التي أقرت، الى اليوم، متواضعة، وإرساؤها بطيء الوتيرة. ولا تنفك ألمانيا تقول أن الاتحاد الأوروبي هو «اتحاد ترانسفير» (منطقة تبادل فحسب)، وهذا غير مشجع. فنواة الإصلاحات، على تباين مستوياتها، هي المشاركة أو الاشتراك في الدين. فعلى سبيل المثل، يُحدد العجز العام بـ3 في المئة، ويقال أن هذه العتبة هي معيار التناغم (المالي). لكن الخبراء الاقتصاديين يجمعون على أن هذا الكلام ضعيف الصلة بالواقع، في وقت تعلن ألمانيا أن المعيار هذا حيوي ولا غنى عنه. وقد يحسِب المرء أن الخلل مرده الى مبالغة دول في الإنفاق، لذا، يرون أن التقشف في محله. لكن قد يقول قائل أن تقويم الخلل وغياب التكافؤ بين دول اليورو يقضيان برفع الأسعار في ألمانيا، عوض حمل الدول الأوروبية الأخرى على خفض الأسعاره والرواتب. وهذا حل جائز كذلك. ففي وسع ألمانيا رفع راتب الحد الأدنى، ومستويات الإنفاق العام… وهذان النهجان متباينان ولا يلتقيان. وحين يلتقي الأوروبيون ترجح كفة برلين وما تمليه من سياسات على الآخرين. واليونان تغرق أكثر فأكثر في أزمة الكساد. ويبدو أن أوجه الشبه بين هذه السياسات والديموقراطية قليلة. ويبدو أن موقف الألمان على حاله، على رغم أن الاقتصاديين الألمان يوافقونني الرأي. ويشير بروز متطرفي «حزب البديل من أجل ألمانيا» في الانتخابات الأخيرة، الى تعاظم الميل الى لفظ التضامن الأوروبي. والإصلاحات في منطقة اليورو بالغة البطء، وتعرّض أوروبا لأخطار كثيرة. فالبقاء مدة طويلة على مشارف الهاوية، يفاقم أخطار الانزلاق إليها والوقوع فيها. والأحوال في اليونان أسوأ مما كانت عليه قبل عام. ويتوقع معهد «ذي إيكونوميست أنتيليجنس يونيت»، أنها ستنسحب من الاتحاد الأوروبي بين العام الحالي وعام 2020.

وأرى أن الأولوية هي لإنقاذ المشروع الأوروبي، وليس لإنقاذ اليورو. فالاتحاد هو مشروع وازن، على خلاف العملة الموحدة، وهذه وسيلة لبلوغ غاية أسمى: أوروبا قوية. وعلى خلاف الغاية المرجوة، يقوض اليورو الاتحاد الأوروبي ويشق صفوفه. لذا، حري بالساعين الى تعزيز قوة أوروبا، إدراك ما يجري. وقد تقتضي الأحوال وقوع الطلاق الحبي في منطقة اليورو والفراق. وحسبان أن المراوحة في هذه الحال الاقتصادية لا تترتب عليها عواقب سياسية، من بنات الخيال أو استراتيجية مرتفعة الأخطار. ففي الولايات المتحدة، اعتقد كثر أن في الإمكان غض النظر عن معاناة 90 في المئة من الأميركيين شظف الكساد الاقتصادي، لكنهم يرون بأم العين النتائج السياسية (بروز دونالد ترامب) المولودة من رحم هذا الوهم.

ولم يكن النظام النقدي الأوروبي قبل اليورو الأمثل أو لم يكن نموذجياً، لكن الدول الأوروبية لم تعرف أزمة مزمنة مثلما هو الأمر اليوم في إسبانيا واليونان، حيث يعمّهما الكساد منذ 8 سنوات. والأمور في هذين البلدين أسوأ مما كانت عليه في أزمة 1929.

وقبل اليورو، كان النقاش السياسي مختلفاً. ودرجت دول الجنوب على القول أن مستوى عيشنا أدنى من نظيره في دول الجوار. وكانت هذه الملاحظة حاديها الى الإصلاح والتطور. واليوم، في الانتخابات يقترع الناس ضد التقشف. لكن أصواتهم لا تبلغ الآذان. لذا، يشعرون بأن الديموقراطية خاوية الوفاض.

ولم يطالب اليونانيون والإسبان بالانسحاب من منطقة اليورو، على رغم الأزمة العاصفة. فهم متمسكون بالمشروع الأوروبي. وهم يحسِبون أن الجمع بين الوسيلة (اليورو) والغاية (الاتحاد الأوروبي) دليل على هويتهم الأوروبية. لكن السويد دولة بارة من دول الاتحاد هذا، على رغم أنها لم تنضم الى اليورو واحتفظت بعملتها النقدية. وأدعو الى منطقة يورو يسودها اللين، وتسري فيها سرعتان. والقسمة الى مجموعتي دول لا يقصد بها قسم منطقة اليورو الى منطقة دول فقيرة وأخرى ثرية أو منطقة شمالية وثانية جنوبية، بل الى جمع دول تتشابه أحوالها الاقتصادية والسياسية. فعلى سبيل المثل، لا تقضي مصلحة فنلندا التي تعصف بها أزمة عسيرة إثر تعثّر شركة «نوكيا»، بأن تُجمع وألمانيا في مجموعة يورو واحدة. واليونان تغرد خارج سرب المجموعات كلها، وتبقى على حدة منها.