سوريا: قوى تتقدم وأخرى تنكفىء وأشلاء وطن تنزف دما وهجرة!
ناجي مصطفى (الأنباء)
26 سبتمبر 2016
عندما أنجز وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية جون كيري وسيرغي لافروف إتفاق وقف إطلاق النار في جنيف حول سوريا دون الافصاح عن مضمونه أو التنسيق المسبق بشأنه حتى مع الأمم المتحدة، إتضح على نحو لا لبس فيه أن المسألة السورية لم تعد شأنا سوريا ولا حتى إقليميا بل باتت بالكامل شأنا دوليا، واميركيا روسيا على نحو أكثر تحديد.
واللافت في الأمر أن الإتفاق الذي أنجز لم يجر إشراك النظام أو قوى الثورة به، إنما جرى إسقاطه على اللاعبين السوريين كما لو كانت سوريا ملعبا دوليا تلعب به القوى الكبرى دون العودة إلى المتقاتلين على الأرض، وهذا يعني أيضا أنه لم يجر إبلاغ الإيراني أو التركي بمضمون الإتفاق رغم أنهما حاضران بقوة وعلى نحو مباشر في الساحة السورية.
ويبدو أن أمر الاتفاق لم يزعج كثيراً الجانب التركي إذ أن أهدافه التي حددها في سوريا آخذة في التحقق بمعزل عن الاتفاق المذكور، فابعاد مسلحي داعش عن الحدود الجنوبية لتركيا جار على قدم وساق وفق الخطة المرسومة من قبلها عبر دعمها لقوى الجيش الحر لوجستيا وعسكريا، وكذلك الأمر في ما خص المليشيات الكردية عبر دفعها إلى منطقة شمال الفرات التي حددتها لها القيادة الاميركية بما يعني أن هدفها القديم بإنشاء منطقة عازلة بعمق أربعين كيلومترا التي إعترضت عليها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا سابقا باتت أمرا واقعا وإن كان بلا إعلان أو إشهار.
الصدمة الحقيقية بالفعل كانت لدى الطرف الإيراني الذي كان يمسك لوحده بكامل أوراق اللعبة في سوريا قبل التدخل الروسي وكان يقرر منفردا ونيابة عن النظام المتهالك كل ما يتصل بشؤون الميدان السوري لدرجة بدا فيها الجنرال في الحرس الثوري الإيراني قائد فيلق القدس قاسم سليماني هو الحاكم الفعلي لسوريا، أو لسوريا المفيدة على نحو أدق، التي رسم حدودها اللاعب الإيراني بما يتماشى مع الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة وخرائطها الممتدة من طهران إلى بغداد فدمشق وصولاً إلى جنوب لبنان حيث مركز الثقل لحليفه الاستراتيجي حزب الله.
الغضب الإيراني من تجاوز دور طهران في سوريا أدركته موسكو بحيث حاولت احتواءه والتخفيف من آثاره عبر تصريحات مقتضبة لا تسمن ولا تغني من جوع عن إستمرار التنسيق مع إيران في ما خص الميدان السوري، لكن الثابتة الأكيدة التي تكرست بعد هذا الاتفاق أن روسيا هي اللاعب الوحيد المقرر في ملعب النظام وحلفائه بصرف النظر عن مدى صمود الاتفاق من عدمه، وهذا ما يقلق طهران التي استثمرت في المنطقة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي لا سيما في سوريا، سواء على مستوى التمويل أو التدريب أو التسليح أم على المستوى العقائدي بتسويق إيديولوجيا الإسلام السياسي الشيعي المعبر عنها بنظرية ولاية الفقيه وفكرة تصدير الثورة التي يتولاها الحرس الثوري الإيراني في سائر أرجاء الإقليم.
لم يصمد إتفاق كيري لافروف إذ عادت الغارات الروسية الأسدية لتدك أحياء مدينة حلب الشرقية بأكثر من ثلاثماية غارة متواصلة وبصواريخ ارتجاجية ذات قوة تدميرية هائلة مع حديث عن مسعى عسكري روسي لتعديل الوقائع الميدانية في حلب عبر السيطرة الكاملة عليها وإن كان ثمن ذلك مجازر غير مسبوقة منذ إندلاع الحرب في سوريا، ولعل موسكو تسابق بذلك موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وإستغلالها إنشغال دوائر القرار فيها بهذا الاستحقاق السياسي ما يعني خلو المجال أمامها لتثبيت موقعها كمقرر أول في مستقبل سوريا لا سيما بعد كل التردد والانكفاء الذي أظهرته إدارة أوباما في تعاملها مع المسألة السورية.
الغارة الجوية الأميركية على مواقع قوات النظام في دير الزور قابلتها غارات روسية مماثلة على قوافل المساعدات التي كانت متوجهة إلى حلب، إنفرط عقد الهدنة قبل أن يتمكن السوريون من إلتقاط أنفاسهم وها هم بستعدون لجولة جديدة من العنف والدم والموت. روسيا التي حددت عنوانا لتدخلها العسكري في سوريا مكافحة الإرهاب المتأتي من داعش والنصرة لا تقصف الا مواقع الثوار السوريين المعتدلين، وفيلق القدس الإيراني يقاتل في كل الجبهات التي ينتشر عليها الثوار دون أن يطلق رصاصة واحدة على جبهة القدس أو جبهات داعش التي ادعى مجيئه لقتالها، واشنطن التي انحازت في البداية إلى جانب قوى الثورة ضد بطش النظام ها هي تتسلل منكفئة تاركة السوريين يواجهون قدرهم القاتم لوحدهم.
إنها المأساة السورية بكل قسوتها وفظاعتها متروكة وحيدة فوق خشبة الدم يحركها لاعبون قساة فيما ضحاياها شعب سوري شقيق لا زال ينزف منذ ستة أعوام دون أن يجد من يضمد جراحه، وكأن قدر السوريين إما أن يبتلعهم حطام الأبنية المدمرة بالبراميل أو لجة البحر في طريقهم إلى المنافي البعيدة…سوريا تموت.. خرائط ترسم بالدم ..عالم يتفرج بلا أدنى إحساس بالمسؤولية.