“الأنباء” تنشر كلمة المفتي دريان كاملة في إفتتاح مسجد شكيب ارسلان في المختارة

قال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في افتتاح مسجد الامير شكيب ارسلان في المختارة: “نلتقي وإيّاكم اليوم في رحاب بلدة المختارة وفي رِحاب قصرها، عرين المعلم كمال جنبلاط بدعوةٍ كريمةٍ من الزعيم الوطني وليد بك جنبلاط في ذكرى رحيل والدته (الأميرة مي ابنة الأمير شكيب أرسلان)، تكريماً لها، واحتفاءً بإعادة بناء وافتتاح مسجد المختارة عن روحها الطاهرة، والذي أطلق عليه اسم (مسجد الأمير شكيب أرسلان)” .

أضاف: “منذ العقدين الأوّلين للقرن العشرين، كان لقب (أمير البيان) قد صار ملازماً للأمير شكيب أرسلان. والبيان، يتناول الشّعر والنّثر، كما يتناول القدرة على التصرف في الفنون الأدبية والتاريخيّة، خطابةً وكتابةً وترسّلاً وتأليفاً، ولكن منذ عشرينيَّات القرن العشرين وثلاثينيَّاته، كان أمير البيان قد صار علماً كبيراً في مجالات النِّضال، من أجل الاستقلال العربيّ، والنّهوض والإصلاح الإسلاميّ. وعندما توفاه الله عام ١٩٤٦ بعد شهورٍ على عودته من المنفى الذي استمر حَوالى الثلاثة عقود، كان يساوره ارتياح عميق للاستقلالات التي توالت في لبنان وسورية، ومصر والعراق والمغرب، يساوره في الوقت نفسه قلق عميق، لأن الوحدة العربيةَّ لم تتحقَّق، ولأن المشهد في فلسطين ما كان يبعث على الاطمئنان”.

تابع: “في العام ١٩١٦ ذهب الأمير شكيب للقتال في ليبيا ضدّ الغزو الإيطاليّ. وفي العام ١٩٢٥ ناضل بالكِتابة والتوعية، والدَّعم السياسيِّ والماديّ، إلى جانب الثورة السورية  وفي ما بين العامين ١٩٢٦ و ١٩٢٩ ثابرَ على دعم ثورَة الرِّيف المغربيّ، بقيادة الأمير عبد الكريم الخطَّابي”.

أضاف: “وفي العام ١٩٣٦ ناصر الثورة الفلسطينيَّة على الاستعمار البريطانيّ، والاجتياح الصهيونيّ. ولعل أحداً في تاريخ العرب الحديث، ما استعمل الصّحافة والتأليف والعلاقات السياسية، بقدر ما استعملها الأمير شكيب أرسلان، من أجل استقلال العرب وحرِّيّاتهم، ومن أجل اجتراح مشهدٍ آخر للإسلام، في معركة النّهوض الحضاريّ والثقافيّ”.

تابع: “إنَّ هذين الملفَّين، ملفّ الاستقلال العربِيّ ، وملفّ النّهوضِ العربيِّ والإسلامِيّ، ما يزالان يمتلكان أولويةً في الوعي والواقِع، وسط هذا المَخَاض الهائل، الذي تشهده المنطقة والأُمَّة في العقدين الأوَّلين من القرن الحادي والعشرين. وهذان الأمران، كانا في وعي الأميرِ شكيب أرسلان وعمله، منذ طروحاته الواسعة في (حاضِرِ العالم الإسلاميّ)، (ولماذا تأخَّر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟)، وإلى سائر مؤلَّفاته وكتاباته طَوَال أربعين عاماً. ومن أجل ذلك، استحقّ أمير البيان، هذا التقدير الكبير، الذي توارثته أربعةُ أجيالٍ من مُثَقَّفي العرب، وأهل الرأي فيهم”.

قال: “ومن أجلِ ذلكَ كلِّه، لم يكن الأمير شكيب أرسلان مجرّد زائد واحد، إلى الأمراءِ الأرسلانيين، أو إلى الأمراء العرب. بل كان أميراً من أمراء الإسلام أيضا وقبل كلّ شيء  وكان اسمه أنشودةً يردّدها مسلمو الشرق والغرب”.

أضاف: “تعرفه شعوب المغرب العربي صوتاً عالياً، دفاعاً عن حرياتها ضدَّ الاستعمارِ الذي كانت تعانيه. ويعدّه إخواننا في دول المغرب العربي ملهِماً لثوراتهِم التحرّريّة ضدّ الاحتلالين الإسبانيّ والفرنسيّ. فكان من خلال كتاباته الصِّحافية في أوروبا، وفي سويسرا تحديداً، ومن خلال اتصالاته السياسيةِ الوثيقةِ والواسعة، يدافِع عن حقوقِ المسلمين وعَن حرِّياتهم، حتى أصبح قدوةً ومثلاً أعلى للقيادات الوطنية العربية، التي حملت مَشعلَ تحرير أوطانها. ولا يزال اسمُه حتى اليوم، محفوراً في ذاكرة الأجيالِ الجديدة، مَرجِعاً إسلامياً، وبطلاً قوميَّاً، وقدوةً في الإخلاصِ والتّفاني”.

أردف: “ومنذُ أن أجاب سيّد البيان،  رحمَه اللهُ تعالى،  عن سؤالٍ لقارئٍ إندونيسيّ من قرَّاءِ مجلةِ المنار، فإنَّ جوابَه لا يزال حتى اليوم، موضِع اهتمام العالَم الإسلاميّ مِن أقصاه إلى أقصاهُ. فقد سأل القارئ الإندونيسيّ: لماذا تقدَّم الغرب وتأخَّر المسلمون؟.. وأجابَ الأمير شكيب أرسلان عنِ السؤال، في دِراسةٍ موسَّعة، نشرت أولاً في المجلة، ثم في كتيِّب خاص. ولا يَزال الجواب صالحاً اليوم كما كان بالأمس. ذلك أنَّ الأمير شكيب أرسلان، كان مؤمناً صادقاً، ومثقفاً واعياً، ومناضلاً مخلصاً، وقَف حياته للدِّفاعِ عنِ القضايا الإسلامية والعربية، في المحافل الدَّوليّة .. وكان بثقافته الواسعة، على مَعرِفةٍ بخفايا لعبةِ الأمم، والعلاقات بين الدّول. وقد أقامَ صداقاتٍ مع العديد من كبار المفكِّرين، وأصحاب الرّؤى في المجتمعات الغربية، ووظَّف تلك العلاقات في خدمة المسلمين والعرب”.

أضاف: ونظراً لتَرَفّعِه عن الطموحات والمصالح الشخصية، فقد كان يتمتَّع بجرأةٍ في تحليل أوضاع العالم الإسلاميّ، كما كان يتمتَّع برؤيا نورانيَّة، تجسَّدت في التحليلِ العِلميّ الذي تضمَّنه جوابه، حول كيفية الخروج مِن نَفق التأخّر إلى رحابة التقدّم والرّقيّ. وهو ما تحتاج إليه اليوم مجتمعاتنا التي تعاني الانغلاق والتعصّب، والجهل والتطرُّف .

تابع: “وعندما انتقل الأمير شكيب أرسلان إلى رحمة الله، نعاه مسلمو الشرقِ والغرب. وَفَقَدت الأمة الإسلامية بوفاتِه مؤمناً صادقاً، ومناضلاً مخلصاً، وقيادياً مُترفِّعاً عن مكاسِب الدنيا الفانية، ورُكناً مِن أركان نهضتها. وقد صُلِّي عليه في المسجد العُمرِيِّ الكبيرِ في بيروت، كما تليت صلوات الغائب عن روحِه في مساجد المسلمين، في العديدِ مِنْ دُول آسيا، وشَمَالِ إفريقيا، وكأنَّه واحد مِن كبار رجالاتها “.

قال: “كم نفتقِد الأمير شكيب اليوم، رحمه الله، في فكره ونهجه وإخلاصِه. لقد حمل لواء الإسلامِ في الغرب، الذي يشوّه صورتَه اليوم متطرّفون، يمارِسون تطرُّفهم بالعنف والإرهاب، وحمل لواء الحريّة والسيادة الوطنية في الشرق، الذي يعاني اليوم خطر الاستبدادِ والتشرذم والتفتيت. كما حمل لواء العروبة هويَّةً قومِيَّة، وهي الهويَّة الجامعة التي تحاول سيوف الإرهابيين اليوم نحرها .. أو إحراقها في قفص حديدي من الجهل والعصبيّة العمياء”.

أضاف: “لقد أتينا اليوم إلى الحاضرة المختارة إذاً لِثلاثة أسباب:

أولها: تجديد ذِكرى عملِ شكيب أرسلان ونِضالِه، في سبيلِ النُّهوضِ العربيِّ والإسلامي، مِن خلال المَسجِد الجميل، الذي أقامه الأستاذ وليد جنبلاط، لذكرى جدِّه لِأُمّه، تعبيراً عن التقدير، وعنِ الإيمانِ برسالة النُّهوضِ والتقدُّم العربيّ .

وثانيها: الاحتفاء باللقاءِ بين فرعي هذه الدَّوحة الباسِقة من آل جنبلاط، مِن خِلال اقتران كمال فؤاد جنبلاط، بالسيدة ميّ شكيب أرسلان، لِتَستَمِرَّ وتزدهِر دوحة مجد بني معروف، بوليد بك جنبلاط وأنجاله، وبالأمير طلال أرسلان، ولِيظلّ عبق العراقة ممتزجاً بعبق المهِمَّة والرّسالة، رسالة النُّهوضِ العربيّ، ورسالة الإسلام الشاسع والمستنيرة”.

تابع: “أمَّا السبب الثالث لهذا الحضور الكبيرِ اليوم: فهو تجديد العهد وتجديد الأمل، وتجديد النّضال من أجل المهمَّة الكبرى التي عاش مِن أجلها شكيب أرسلان، واستشهد من أجلها المعلم كمال جنبلاط، ونتشارك نحن جميعاً، إلى جانب وليد بك جنبلاط في استمرار الإيمان بها، وهي مهمَّة العرب والعروبة والحرّية. فلا حرّيَّة بدون انتماء، ولا انتماء بدون حريَّة. لقد ربَّانا عليهما – أعني العروبة والحريّة – آباؤنا، ونربّي عليهما أبناءنا، وليس باعتبارهما عِبئاً يثقل الكواهِل، بل باعتبارهما شرطِيّ وجود، وشرطيّ دخول إلى إنسانية الإنسان”.

اضاف: “إننا نشهد تغوّلاً على ديارِنا وأدْيانِنا وانتمائِنا العربيّ، وإنسانِنا  الذي يحمِل هذه القِيم والمعاني جميعاً. مرّة نهجّر ونقتَل لأننا إرهابيون. ومَرَّةً نهجَّر ونُقتل لأننا عرب. ومرَّةً نهجَّر ونقتل لأننا مسلمون. ومرّة يهجَّر ويقتَلُ المسيحيون لأنّهم مسيحيون. ونحن كنّا وسنبقى عرَباً مُسلمين ومسيحيين، ما بقيت كنِيسة المختارة، وما بقِي مسجدها”.

وقال:”سمِعْت الشهيد المعلم كمال جنبلاط عام 1977، وقبل مقتله بثلاثة شُهورٍ أو أربعة، يقول للمفتي الشهيد حسن خالد، كان خالد بن الوليد يقول: اُطلبوا الموت توهب لكم الحياة، وأنا أقول، (يعني المعلم كمال جنبلاط): نبقى معاً فتكون وحدتنا قيامتنا!

أضاف: “سنبقى معاً يا وليد بك كمَا كُنّا دائماً، لأنَّ وطننا واحد، ولأنَّ انتماءَنا واحد، ولأنَّ أمَّتنا وَاحدة، وقبل ذلك وبَعده، لأنَّ حرّيَّتنا واحدة، والحريَّة نسب بين أهلها “.

تابع: “من هنا، ننبّه إلى خطورةِ الصّورة القاتمة التي تبدو في الأفق في وطننا لبنان. فلُغة الحوار معلّقة، والمجلس النيابيّ معطّل، والحكومة مشلولة، وجلسات انتخابِ رئيس للجمهورية، من تأجيل إلى تأجيل، ورُغم كلّ هذه السّوداويَّة، لن نتخلّى عن إيمانِنا بالله القادر على تغيير مسار الأمور، وأنّ الظلام بلا جدالٍ سينبلج عنه صُبح منير، وأنَّ العسر يعقبه اليُسر، وأنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.

قال: “من مِنبر المختارة، نعوِّل على حكمة القياداتِ السياسية، ومساعي المُخلِصين، ودعاء رؤساءِ الطوائفِ اللبنانية، أن تنفرج أزمتنا السياسية، بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، فالتأخير بعد اليومِ انتحار، والى متى الانتظار حتى انهيار الدولة ومؤسساتها بالكامل. أمّا الحوار الوطنيّ المعلّق، فنأمُلُ من القادةِ السياسيين التفاهم لتنطلق عجلة الحوار من جديد، لأنَّ هذا مطلب اللبنانيين جميعاً. وحكومتُنا ينبغي أن تبقى صامدةً صابرة، وأن تعملَ جاهدةً لاستئناف جلساتها بحضورِ جميعِ وزرائها رأفةً بلبنانَ واللبنانيين”.

أضاف: “وليد بك.. سلامتك مِن سلامة الوطن.. ومحاولة اغتيالك، عمل إجراميّ صرف، يراد به النيلُ مِن وحدة اللبنانيين وسلمهم الأهلي، وزعزعةُ الاستقرار والأمان في لبنان، ويأتي ضمن المؤامرة التي تحاك ضدَّ لبنان وشعبه”.

قال: “حبيبك يا وليد بك، وحبيبنا الرئيس سعد الحريري، وصف بالأمس خبر استهدافك بالمخطّطِ الإجرامي، ونحن معه، نعدّ استهدافك استهدافاً للوطن. والرئيس الحريري يخاف عليك كما يخاف على الوطن، فأنت رفيق المسيرة، ورفيق رفيق الشهيد، الرئيس رفيق الحريري رحمه الله تعالى، وستبقى بإذن الله، وسيبقى لبنان سيداً حراً عربياً مستقلاً”.

أضاف: “إننا بافتتاح مسجد الأمير شكيب أرسلان في المختارة، الذي أسّس على التقوى إن شاء الله، نرفع رايةَ الإسلام السّمح المعتدِل، التي رفعَها الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، ونرفع راية العروبة الجامعة، التي كان الأمير شكيب رائداً مِن روَّادها، وركناً من أركانها. وبذلك نأمل في أنْ تتعزّز وحدةُ المسلمين ووحدة اللبنانيين، ليكون لبنان، نموذجاً يحتذى في العيشِ الأخويّ والوطنيّ المشترك، ولِيكون قدوةً صالحة، تبدِّد غيوم التفرقة والعصبية التي تخيّم فوق ربوع بعض أقطارنا العربية الشقيقة”.

قال: “رحم الله الأمير شكيب أرسلان، على كلّ ما أعطى وقدَّم؛ وأجزى اللهُ وليد جنبلاط كلّ خير لبناءِ هذا المسجد، الذي يحمِل اسم أحد كبار روَّاد النَّهضة الإسلاميّة والقومِيَّة، التزاماً منه بمواصلة المسيرة الجنبلاطِيَّة الأرسلانية، في الدّفاع عن قيم الإسلام السّمح، والعروبة الصافية”.

وختم قائلا: تحيةً لأهلِ المختارة الكرام، أهل هذه القلعة الوطنية التاريخية، الوفيَّة لقوميّتها ولوطنيَّتها”.