“الأنبـاء” تستذكر الأميرة الراحلة مي أرسلان جنبلاط في ذكراها الثالثة

صعبة هي الكتابة عن سيدة دار المختارة الذي تركت أثراً كبيراً في ثناياه، كما في ثنايا الحياة الوطنيّة اللبنانيّة. وصعبة هي الكتابة عن أميرةٍ ناضلت طوال عقودٍ في سبيل الحداثة وتحرر المرأة وخروجها من القيود المصطنعة والموروثات القديمة التي عطلت مسيرة تقدمها وإشتراكها بدور مكتمل العناصر في المجتمع.

مي أرسلان جنبلاط كانت علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً. كانت بعيدة عن الضوضاء والأضواء، إلا أنها كانت في صميم الأحداث السياسيّة لا سيّما أثناء الحقبات السوداء في الحرب الأهليّة القاسية، تقدم النصح والمشورة لنجلها الأستاذ وليد جنبلاط في المنعطفات المفصليّة ومحطات التحوّل السياسي الكبير.

أن تكون سيدة كريمة أمير البيان شكيب أرسلان وقرينة المعلم كمال جنبلاط ووالدة الأستاذ وليد جنبلاط، فهي ثلاثيّة إستثنائيّة. وبقدر ما أتاحت هذه الثلاثيّة للراحلة أن تكون في قلب الحدث، كما أتاحت لها أن تكون مشاركة ولو عن بعد في صنعه في الكثير من الأحيان، بقدر ما فرضت عليها مصاعب وتحديات وصعوبات.

كمال جنبلاط والأميرة مي

إمتلكت رؤية سياسيّة واضحة وثاقبة. رفضت الاعتراف بإسرائيل، وقالت حرفيّاً: “يستحيل أن أعترف بإسرائيل مطلقاً”. تمسكها بالقضيّة الفلسطينيّة كان واضحاً، وموقفها من عروبة لبنان لا تراجع عنه. ومع إدراكها إستحالة سلخ لبنان عن محيطه العربي، إلا أنها لم تخف قلقلها يوماً من تراجع الحريات، لا بل إنعدامها، في الكثير من البلدان العربيّة، مع ما يعنيه ذلك من إنعكاساتٍ سلبيّة على لبنان الذي دفع دائماً، من وجهة نظرها، أثمان الصراعات الدوليّة والاقليميّة التي كان من مصلحتها إستدامة الصراع فيه.

وملفتٌ جداً ذاك الموقف الشهير الذي إتخذته السيّدة مي أرسلان جنبلاط في مقابلة مع فرنسواز كولين في العام 1988 عندما قالت: “العالم العربي في حالة تراجع تدريجي”، مشيرةً إلى ظاهرة تراجع التيارات الليبراليّة لصالح التيارات الظلاميّة، ومعتبرة أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أن يغيّر العالم العربي ويعيده إلى القرون الوسطى ما لم يتم تدارك ذلك. وفعلاً، لم يتم تدارك ذلك، وهذا ما نشهده اليوم من صراع مذهبي وطائفي متنقل بين الدول العربيّة ترافقه ثقافة التفجيرات الانتحاريّة التي لا تصب إلا في خدمة إسرائيل.

إبنة الأمير شكيب أرسلان، أحد أبرز المفكرين المتنورين الذين تتلمذوا على يد الامام محمد عبده وعاصروا جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وكبار المفكرين والكتّاب العرب والمسلمين الذين رسموا بأقلامهم معالم النهضة العربيّة، بالاضافة إلى معاصرته لأعلام السياسة في تلك الحقبة من أمثال الحاج أمين الحسيني ورياض الصلح والحبيب بو رقيبة وسواهم. كان صديقاً للملك فيصل الأول وعضواً في وفد السلام بين المملكة العربيّة السعوديّة واليمن، واجه الاستعمار بكل أشكاله ورفض قيام وطن قومي صهيوني في فلسطين، كما كان عضو شرف في المجمع العلمي العربي في دمشق ونائباً عن حوران في محلس المبعوثين العثماني، لقب بأنه “كاتب الشرق الأكبر”.

السيدة مي ارسلان جنبلاط

ها هي الخلفيّة الفكريّة والعائليّة التي ترعرت فيها مي أرسلان جنبلاط ما جعلها تتمسك بعروبة لبنان من حيث الارتباط الحتمي للعوامل التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والقوميّة، وأدركت أهميّة ذاك الترابط العضوي الذي جعل لبنان يتفاعل مع محيطه الاقليمي والعربي ويتأثر بموجاته السياسيّة المتلاطمة.

وكانت رؤيتها أيضاً ثاقبة في المقابلة الفرنسيّة إيّاها، عندما قالت أن الحروب تستخدم الدين كسلاح فعّال وقوي لتنمية وتغذية الصراعات المذهبيّة، وهو ما لم يكن قائماً في السابق. وكأنها بذلك تشير إلى تبدل شكل الصراع في المنطقة العربيّة مبدية إمتعاضها الشديد مما وصفته بمذهبة الأحزاب والقوى السياسيّة للصراع ما يحعله يأخذ أبعاداً دمويّة وقاسية.

هذا الموقف الرؤيوي أعلنته مي أرسلان جنبلاط سنة 1988، وقبيل رحيلها، قالت لنجلها الوحيد، وليد جنبلاط، إن “هذا العالم العربي بات مليئاً بالمجرمين والقتلة!”، ما عكس إشمئزازها من دمويّة المشهد في كل البلدان العربيّة الذي شهد تحولات غير مسبوقة ولدتها الديكتاتوريّات التي لطالما إنتقدتها الراحلة بفعل قمع الحريّات وتفريغ المجتمعات السياسيّة من النخب الليبراليّة والديمقراطيّة بصورة منهجيّة.

تمسُك السيدة جنبلاط بالحريّة كان غير قابل للمساومة أو التجزئة. وحرية المرأة بالنسبة إليها أيضاً كانت ركناً من أركان ثقافتها السياسيّة والفكريّة. هي رأت أن الحريّة هي بمثابة فعل إيمان داخلي، تتطلب قناعةً داخليّةً حاسمةً، وأن على المرأة أن تمتلك أولاً حريّة التفكير. وشغلت مسألة الحريّة الاقتصاديّة للمرأة جانباً واسعاً من إهتمامها، إذ إعتبرت أن العوائق الاقتصاديّة للأسر يجب ألا تقف في طريق حريّة الأفراد ومن ضمنها المرأة التي دعتها لتكسير القيود التي قد يفرضها الخضوع لصاحب القرار الاقتصادي.

الأميرة مي مع جنبلاط

هذا النمط الفكري التحرري الذي تميّزت به مي أرسلان جنبلاط هو ما يفسّر شغفها السابق في أن تكون صحافيّة، مبررة رغبتها العارمة في خوض غمار هذا الخيار بأن فيه الكثير من الحريّة مرتبطة بشيء من الخطر على حد سواء. وهذا يعكس شخصيّتها الفذة والقويّة وإرادتها بأن تشجع الآخرين على ممارسة الحريّة، حتى لو جانبت شيئاً من الخطورة. وفي معرض تمسكها العميق بالحريّة، عبّرت عن خوفها من الواقع العربي الأليم واصفة إياه بأنه بمثابة الخروج من سجن للدخول في آخر، ومنه إلى سجن ثالث.

وبذلك، إلتقت مع المعلم كمال جنبلاط الذي رفض دخول “السجن العربي الكبير” ودفع حياته ثمناً لتمسكه بمبادئه ورفضاً للاستسلام لتلك التيارات الظلاميّة التي تحدثت عنها الست مي. صحيحٌ أن السنوات المشتركة التي جمعت المعلم والست لم تكن مديدة، ولكنهما إلتقيا في مسيرتهما الفكريّة المرتكزة إلى الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. كانت تبتعد عن الأضواء لتقترب أكثر من الناس وهمومهم، تشاركهم فيها، وتساعدهم على تخطيها، وتبذل الجهد في كل الاتجاهات لتخفيف الألم عنهم، على طريقتها الخاصة، بهدوء وثبات، بعيداً عن الضوضاء والصخب. بإستقبالها اللبق، ودماثة الخلق، والابتسامة الساحرة، إستقبلت زوار دار المختارة حيث أشعلت ثورات وأطفئت ثورات، وحيث صنع رؤساء وأسقط رؤساء، وحيث تشكلت حكومات وأسقطت حكومات.

بعيد إستشهاد المعلم كمال جنبلاط في السادس عشر من آذار 1977، تلقت الست مي إتصالا من نجلها وليد، طلب منها العودة إلى المختارة التي كانت غادرتها منذ سنواتٍ، وهكذا كان. فكان وقوفها إلى جانبه في أصعب المراحل السياسيّة والعسكريّة له الأثر الكبير في نفسه. لم تبخل عليه بالنصح والمشورة، وحرصت على إبداء رأيها الصريح والواضح بمواقفه السياسيّة سلباً أو إيجاباً.

بقي نجلها الوحيد إلى جانبها طوال فترة مرضها، ذهاباً وإياباً من كليمنصو إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، تجمعهما علاقة متميزة، كرساها من خلال سنواتٍ طويلة من المحبة والاحترام. يفهم وليد جنبلاط معنى الأمومة التي جسدتها الست مي، وفهمت هي أيضاً معنى البنوّة التي مثلها نجلها وليد.

رحم الله “الست مي”.

——————————————

(*) نشرت في مجلة “الضحى” العدد 9 –  آذار 2014