بعد ثورات الربيع… أليس لهذا الليل العربي من أخر؟!
ناجي مصطفى (الأنباء)
10 سبتمبر 2016
عندما انطلقت اولى شرارات ما اسمي بالربيع العربي مع احراق محمد بو عزيزي نفسه في تونس احتجاجا على صفعة شرطية له لمنعه من بيع الخضار على عربته التي يسترزق منها، استبشر احرار العرب بالخير، ليس انحيازا لموقف البوعزيزي ازاء تصرف الشرطية بالمعنى الجندري الذكوري للكلمة، بل بمقدار ما لخصته رمزية تلك الصفعة من موقف ضد الاستبداد السلطوي الممارس ازاء المواطن العربي منذ نشوء دول “الاستقلال” عن الاستعمار انطلاقا من خمسينيات القرن المنصرم وحتى اليوم.
احتراق البوعزيزي اشعل الغضب الشعبي المحتقن في غير عاصمة عربية ،من تونس الى ليبيا الى مصر فاليمن وسوريا ،وبدأت تتساقط بعض الانظمة كاحجار الدومينو، تلك الانظمة التي اعتقد المواطن العربي انها عصية على السقوط بالنظر الى اساليب الاستبداد والعسف التي مورست تجاهه على مدى عقود طويلة من الزمن اضافة الى تصورات العنف الممنهج التي اشبعت بها مخيلته عن وحشية النظام الامني للدولة تجاه كل من يفكر مجرد تفكير في توجيه النقد ولو همسا الى الدولة التي اوهمت مواطنيها بانشغالها بقضايا استراتيجية مصيرية، ليس اقلها الصراع العربي الصهيوني ومواجهة الامبريالية ومشاريعها في الوطن العربي، واضعة اي موقف اعتراضي بريء ازاء قصورها عن تلبية متطلبات الشعب واحتياجاته الاساسية في خانة التأمر مع الخارج الذي بذريعته يجري استيلاد مبررات الاخضاع والاعتقال والتعذيب وربما التصفية الجسدية.
أزهر الربيع العربي في اماكن واصابه المحل في اماكن اخرى،ليس لان الارض العربية مجدبة مقفرة لا تنجب احرارا وثوارا ومناضلين، بل لان حجم اطباق المنظومات الامنية في بعض هذه البلدان على الدولة ومؤسساتها كان محكما الى درجة يتعذر معها امكانية نجاح اي تغيير ولو جزئي في بنية النظام بادوات سلمية ديمقراطية، فكانت مظاهر القمع الوحشي هي السمة التي ميزت تعاطي الاجهزة الامنية والعسكرية والمليشياوية التابعة لها في مواجهة الحراك المدني السلمي الذي نادى من خلال التظاهرات الشعبية في غير بلد عربي باصلاحات بسيطة بادىء الامر ،وهي مطالب كان يمكن لهذه الانظمة تلبيتها او التفاوض بشأنها دون اقحام البلاد في دوامة الدم والموت والخراب.
لقد نجحت الثورة في تونس حيث يسجل لزين العابدين بن علي انصياعه لصوت شعبه الهادر فانكفأ من غير دماء،كما يسجل لمبارك استجابته ،وان مكرها، لرغبة الملايين التي احتشدت في ميدان التحرير لا سيما بعدما ايقن حقيقة وقوف الجيش الى جانب الشعب لا الحاكم، والحقيقة انه في كلتا التجربتين المصرية والتونسية، رغم استئثار كل من مبارك وبن علي بالسلطة على امتداد عقدين او اكثر، كان ثمة هامش من الحرية متاحا بما يكفي لتمكين الشعب والاحزاب والصحافة المستقلة من التعبير عن نبض الشارع واتجاهاته التغييرية، ولعل تجربة الصحافة المصرية بمواكبتها لحراك ميدان التحرير وانحيازها الى جانبه غير أبهة لضغوطات السلطة، تعطي الدليل على دور الاعلام وقدرته على تشكيل راي عام واع معارض يعري السلطة وصولا الى اسقاطها.
غير ان السؤال الذي يطرح في هذا المقام هو كيف لحراك شعبي ان ينجح في ساحات عربية ويفشل في ساحات اخرى؟ ولماذا يزهر ربيع تونس ومصر ويصيب اليباس ربيع اليمن وليبيا وسوريا؟
الامر يعود بلا شك الى طبيعة الانظمة تلك ومدى تغول الاجهزة الامنية والعسكرية فيها وتمركزها بيد الحاكم الفرد المطلق، ناهيك عن اطباق كامل لهذه الاجهزة المتعددة على كل مظاهر الحياة العامة السياسية والاعلامية والفكرية والاقتصادية بحيث طبعتها بطابعها البوليسي الاستخباري المتشدد.
فارق اخر غير مركزة السلطة وادواتها بيد الحاكم المستبد هو العامل الخارجي ،فلا مبارك او بن علي رهنا بلديهما الى دولة خارجية دولية كانت ام اقليمية،وهذا يسجل لهما في مفهوم احترام السيادة الوطنية وعدم التفريط بها، اما في المثلين السوري واليمني فان حجم التغلغل الايراني في كل من الدولتين، والذي تجلى في الدعم اللامحدود السياسي والمالي والتسليحي والعسكري المباشر كان له كبير الاثر في اطالة عمر المأساة السورية واليمنية لنحو ست سنوات واكثر.
اما الفارق الثالث فهو تحول كل من الساحتين المذكورتين الى ميدان اختبار للقوى الدولية والاقليمية المختلفة في ظل تزاحم للمشاربع والسيناريوهات من التقسيم الى الفدرلة وما بينهما، ففي المسالة السورية مثلا يبدو جليا سعي روسيا للعودة الى الساحة الدولية عبر بوابة دمشق في ظل انكفاء اميركي ساهم في تمكين الروس من تعزيز حضورهم واوراقهم كما وفي استلامهم دفة الصراع بدلا من ايران المنهكة والنظام العاجز فيما تجهد تركيا لابعاد الخطر المتأتي من الطموحات الكردية بالاستقلال عند حدودها الجنوبية مما بشكل حاجزا جيوبوليتيكيا يعزلها عن المدى العربي الحيوي ،وهذا الجهد الزمها ممارسة سياسة براغماتية تجاه كل من روسيا وايران ومزيدا من الابتعاد عن اميركا رغم انها جزء من الحلف الاطلسي الحاضر بقوة في قاعدة انجرليك التركية.
لكن السؤال الذي يطرح هنا اليس لهذا الليل العربي من اخر؟ وهل ان شلالات الدم التي سالت غير كافية بعد لتروي ربيعا لطالما تطلعت اليه الجماهير العربية بعد طول اختناق واحتباس؟
لقد علمتنا تجارب التاريخ ان تضحيات الشعوب المتطلعة للحرية والتغيير لا يمكن ان تذهب سدى وان كفاحها سيتوج في نهاية المطاف بالانتصار مهما طال الزمن او غلت التضحيات، فبعيدا عن حسابات الاطراف الخارجية المتعددة المنخرطة في هذه الصراعات فان الارض لا يمكن ان تكون الا لاهلها وهم وحدهم من يرسم مستقبلها وشكل النظام الذي يريدون.
هذا هو منطق التاريخ مهما قست شروط الجغرافيا الجاذبة للتدخلات الخارجية المتعددة،والمستقبل لا يمكن ان يكون الا للشعوب المكافحة في سبيل حريتها وتحررها وسيادتها