العلاقة بين دار المختارة وآل الخازن: منذ أيام سعيد جنبلاط سنة 1860 وتستمر…

عزيز المتني (الأنباء)

الانسان اللبناني، اذا لم يكن يعرف تاريخه الصحيح، فكيف له أن يتلمس معالم حاضره الصواب والسليم، وبالتالي مستقبله المتقدم الهادف إلى قيام الوطن المعافى والدولة العادلة والقادرة التي تؤمّن له الأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية المنشودة.

جالت في خاطري هذه اللمعات من الفكر والتفكير وانا أقرأ، ظهر يوم الثلثاء 19 تموز 2016 فيما كنت جالسا في مقعدي في طائرة شركة طيران الشرق الاوسط العائدة بنا في رحلة من جنيف السويسرية إلى بيروت، خبر زيارة الزعيم الوطني وليد جنبلاط الى بكركي برفقة النائب والوزير السابق فريد هيكل الخازن بهدف دعوة البطريرك الماروني مار بشاره الراعي إلى تدشين كنيسة السيدة في المختارة،  بعد إعادة تأهيلها وتجديدها  في الذكرى المئوية  لبناءها وفي ذكرى مرور 15 سنة على تكريس المصالحة في الجبل مع زيارة البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير  في أب من عام 2001 الى  دار المختارة ومنطقة الجبل بدءا من بلدتنا الدامور الى بيت الدين ودير القمر.

وعادت بي الذكريات إلى العام 1960 يوم دعي المعلم كمال جنبلاط للمشاركة في اول حكومة تؤلف في عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب، في اثر إجراء الانتخابات النيابية ربيع سنة 1960.

 جنبلاط وشهاب

اصر كمال جنبلاط يومها على تولي حقيبة التربية الوطنية والتعليم العالي لأنه كان يملك مشروعا  متكاملا لتحديث وترشيد مناهج التعليم في الاتجاه الذي يوفر بعدها الإنساني وفاعليتها وجدواها في تأمين فرص العمل للأجيال الشابة والسعي إلى توحيد كتاب التاريخ اللبناني الذي يجمع إلى وثائق ووقائع  وحقائق  اذا التاريخ.

وبادر  كمال جنبلاط يومها إلى تأليف لجنة برئاسة البرفسور قسطنطين زريق لتولي هذه المهمة.  ﻹنجاز المهمة… ولربما كانت مسألة السعي الى انتاج موحد تاريخ موحد لتاريخ لبنان هي التي اسهمت في نسف الحكومة تلك بعدما عارضها بشدة بعض أولئك الذين وصفهم كمال جنبلاط سنة 1961 أنهم: “يجهلون أو يتجاهلون تاريخ بلادهم: إما ﻷنهم لم يتعلموه في المدارس، وإمّا ﻷنهم لا تعلق في ذهنهم  المكتئب إلا هذه المرحلة من سيرتنا التي تعتبر في الحقيقة نكسة عابرة مؤامرة على البلاد سافرةً.

وﻹلقاء الأضواء على تاريخ وحقيقة العلاقة بين دار المختارة وآل الخازن عدنا ونعود الى المنابع التاريخية الموثوقة وفي مقدمها: “مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سوريا ولبنان” من سنة 1840 على سنة 1910. قام بكتابة وتأليف هذا الكتاب المؤلف من مجلدين وبتعريب المحررات والوثائق هذه الاخوان فيليب وفريد الخازن صاحب جريدة “الأرز” الصادرة عهدذاك. وتم طبعها في جونيه.

مجموعة المحررات

وللدلالة والتوكيد نقول أن جزاء الأخوين المناضلين فيليب وفريد الخازن كان في اعتقالهما من قبل السلطات العثمانية وإصدار المحكمة العرفية في عاليه حكم الإعدام بحقهما شنقا. هذا الإعدام الذي نفذه جمال باشا السفاح في حق الأخوين الخازن وقافلة من الصحافيين والمناضلين الوطنيين اللبنانيين صبيحة يوم السادس من أيار سنة 1916 بواسطة تعليقهم على أعواد المشانق في ساحة البرج في بيروت التي صار اسمها في ما بعد ساحة الشهداء. ماذا يقول كتاب الأخوين الخازن عن تاريخ نشوء العلاقة بين داره المختارة وآل الخازن؟

jamal-basha-alsafah1961

يقول كتاب “المحررات السياسية” ان هذه العلاقة بدأت سنة 1860 مع سعيد جنبلاط. سعيد جنبلاط مع شقيقه نعمان هما ولدا بشير جنبلاط الشهير. باني دار المختارة والملقب بـ ” عمود السما”.

وقد جرى نفي الاخوين سعيد ونعمان الى مصر بعدما تم إعدام والدهما بشير شنقاً من قبل احمد باشا الجزار والي عكا ومصادرة أمواله. وقام احمد باشا الجزار بفعلته المنكرة تلك بعد سعي الأمير بشير الشهابي الملقب  بـ “الكبير” بالشيخ بشير لدى والي عكا.  والسبب الأول وفق بعض المؤرخين ان بشير جنبلاط يتمسك بالوضع الخاص للجبل الذي كفلته الدول العربية الكبرى عهد ذاك فيما كانت السلطات العثمانية ممثلة بواليها على صيدا تطمع في وضع يدها على الجبل وإلغاء كل الامتيازات التي كان يتمتع  بها أهله.  ومعروف أيضا ان بشير جنبلاط عارض حكم الأمير بشير الشهابي الظالم والمستبد والمتقلب.

????

عاد سعيد جنبلاط من مصر الى لبنان بعد عزل العثمانيين للأمير بشير ونفيه الى الاستانة حيث توفي، وبعد موت احمد باشا الجزار والي عكا. وتسلم مقاليد الزعامة الجنبلاطية خليفة لوالده بشير.

 يقول كتاب الاخوين الخازن: “إن سعيد جنبلاط قد استشف سنة 1860، وما سبقها وتلاها، بواطن المكيدة التي افتعلها الولاة العثمانيون، وخورشيد باشا الوالي العثماني على الأخطى، وأدرك كنه غوائلها فبدا له أنه يستدرك الشر قبل وقوعه واستفحاله، فاستقدم اليه الشيخ فارس خطار الخازن، وعهد اليه شؤون المسيحيين في اقطاعيته. إلا أن ذلك لم يحل دون وقوع الفتن المتنقلة بتحريض من الولاة العثمانيين ومن سواهم من المراجع الاجنبية كقناصل انكلترا وفرنسا وبعض معاونيهما من العسكريين ومن أبرزهم الكولونيل روز..”.

 وتقول المحررات السياسية ان العثمانيين كانوا قد عزلوا خليفة الأمير بشير المسمى الأمير قاسم وعينوا بدلا عنه عمر باشا (وهو مسيحي نمساوي الاصل اعتنق الاسلام) عاملاً على الجبل… لكن الدول الغربية الكبرى الضامنة امتيازات اهل الجبل عارضت قرار التعيين ورفضته وسعت لدى الدولة العثمانية حتى عزلته. وبه بدأت وانتهت ولاية الأتراك العثمانيين على جبل لبنان.  على ان توالى النكبات والدسائس على إمارة لبنان قد سلبتها منعتها، فلم تستعد وحدتها، وإنما قسمت الى قائم مقاميتين: واحدة للمسيحيين وثانية للدروز.

وقالت مجموعة “المحررات السياسية” للأخوين الخازن: “إن الولاة العثمانيين قد استمروا، ما بين عام 1842 و 1860 وما تلاها، على نهجهم في زرع الشقاق والاحقاد والفتن بين أبناء الجبل حتى كان ما كان وحدث ما حدث. وأسهموا هم، أي الولاة مع جنودهم وأتباعهم في أعمال القتل والسلب والنهب، وإحراق القرى والمزورعات والغلال”.

المعلم كمال جنبلاط

وفي هذا المنحى أذكر جيداً أن كمال جنبلاط حدثني أكثر من مرة، وبإطراء وإعجاب عن جده سعيد جنبلاط ووصفه بأنه كان صاحب عقل راجح نيّر وسيرة حسنة، واشتهرعنه أنه كان يتعامل مع الناس المتواجدين في منطقته بالعدل والانصاف والاستقامة. كما أخبرني كمال بك أن جده سعيد استضاف عائلات مسيحية لجأت الى دار المختارة وأمن لها الحماية والرعاية وحسن الضيافة.

وسعيد جنبلاط هو والد فؤاد كمال بك والست ليندا، ووالد علي جنبلاط والد حكمت ونجيب. والمعروف ان حكمت تزوج من الست ليندا وان الست نظيرة تبنت ترشيحه للنيابة، وعين وزيرا للصحة. لكن داءً عضالا ألمّ به فتوفي سنة 1943. وفي تلك السنة تسلم كمال جنبلاط مقاليد الزعامة الجنبلاطية وانتخب نائباً للمرة الأولى.

 واستمرت العلاقة ما بين داري المختارة وآل الخازن أيام فؤاد بك وعقيلته الست نظيره التي خلفته في تولي الزعامة الجنبلاطية بعد اغتياله في وادي عينبال سنة 1921. ثم استمرت هذه العلاقة المميزة مع كمال جنبلاط ووليد جنبلاط.

 وما اذكره ايضا في هذا المجال أنه وفي خلال سنة 1966 فوجىء كمال جنبلاط بوصول الشقيقين الشيخين رشيد وهيكل الخازن الى دار المختارة وطلبهما الإقامة لديه. فاتصل بي كمال جنبلاط وطلب مني الاستفسار من العقيد غابي لحود رئيس الشعبة الثانية في الجيش عهدذاك عن حقيقة الحادث الذي جرى في كازينو لبنان بين مديره العام أرتور جدي والأخوين رشيد وهيكل الخازن.  صباح اليوم التالي توجهت الى المختارة ونقلت المعلومات الكاملة الى كمال بك فأجرى إتصالين: الأول مع العقيد لحود والثاني مع السيد أدريان جدي رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي يومها مالك أكثرية الأسهم في شركة كازينو لبنان.

 ونتيجة للمساعي الخيرة توجه السيد أدريان وأرتور جدي الى دار المختارة حيث استقبلهما كمال جنبلاط وجمعهما بالتالي بالشيخين رشيد وهيكل الخازن وتمت المصالحة الحبية بين الفريقين برعاية  كمال بك الذي طلب من الأخوين جدي تلبية مطالب الأخوين الخازن وعلى الأخص لجهة توظيف بعض أنصارهما في دوائر الكازينو.

كنيسة آل الخازن- المختارة

 وصفحات التاريخ مليئة بأخبار العلاقات الجيدة والحسنة التي أقامتها دار المختارة مع المسيحيين منذ أيام بشير جنبلاط، كما في ايام خلفائه على الزعامة الجنبلاطية. وسيكون لنا إضاءات لاحقة على هذه العلاقة في كتابات مسنده الى الوثائق والحقائق التاريخية التي يجب اعلانها والتشديد عليها في سعي دائم لمعرفة كنه التاريخ الصحيح لهذا الجبل الذي مثل ويمثل صورة وضاءة عن هذا الوطن الصغير- الكبير الذي نتمسك به مثالاً للعيش المشترك بين عائلاته الروحية ونسيجه الوطني الشعبي المتميز في هذه المنطقة من العالم، بل وربما في العالم بأسره.