أردوغان اليائس من الاتحاد الأوروبي يتشبّث بالحلف الأطلسي!

عزت صافي (الحياة)

سوف يمرّ زمن طويل قبل أن تتكشف أسرار «الانقلاب» الذي جرى في تركيا وانتهى خلال يوم وليلة (15-16 تموز – يوليو 2016). فهو انقلاب فاشل إذا كان أبطاله هم فعلاً أولئك الضبّاط المغمورون بأسمائهم ورتبهم وأدوارهم، وقد تساقطوا مثل رف طيور مرّ خطأ فوق حقل رماية، وكان الرماة بانتظاره.

لكنه انقلاب باهر بنجاحه إذا كان بطله الرئيس رجب طيب أردوغان وضباط أركانه الذين أعدوا له خطة فائقة الدقة والشمولية والسرعة الهائلة بالسيطرة على كل مفاصل الدولة وكل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية.

وإذا فُتحت صفحة النتائج والتطورات والأحداث التي تسارعت وتراكمت خلال الأسابيع الستة الأخيرة من تاريخ الانقلاب، وما استجدّ بعده من تطورات في حرب سورية، مع انفتاح أنقره على روسيا، وعلى إيران، ثم على إسرائيل، فسوف تظهر أمام المراقبين صورة باهرة للرئيس رجب طيب أردوغان يبدو من خلالها رجل تركيا الثاني بعد أتاتورك، لكن بصفته نقيضه، فلا عسكر في السلطة العليا، ولا علمانيين، ولا ديموقراطيين، بل رئيس جمهورية في مقام «سلطان» من دون عمامة.

ما أنجزه أردوغان منذ فجر ذلك «الانقلاب» حتى اليوم يفوق التصور. ولولا الآلات الحاسبة الإلكترونية لكان الخبراء والعاملون في الأرقام يحتاجون إلى نحو سنة لإحصاء أعداد وأسماء ورتب ووظائف عشرات الألوف من الضباط والجنود، وسواهم من القضاة والإداريين والأمنيين والسياسيين الذين شملتهم تهمة التواطؤ أو الولاء للانقلابيين الذين يُفترض أن يكون عددهم في حدود العشرات، فإذا هم بأرقام خيالية.

ولعلّ أبرز ما يثير الشكوك والظنون في حصيلة نتائج ذلك الانقلاب هو ذلك السؤال: من هي الفرق السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية والديبلوماسية والعدلية التي استطاعت أن تعد كل تلك اللوائح مع إضبارات الاتهام وسرد الوقائع؟ وكيف استطاعت إنجاز مهماتها بكتمان؟.. وكم كانت حظوظ عشرات الآلاف من السجناء عظيمة، إذ إنهم «طردوا من الأقبية والزنزانات إلى الحرية لكي يحلّ مكانهم عشرات آلاف آخرين من المشمولين بشبهة الانقلاب… هكذا فُتحت السجون على الشوارع. أفواج مدانة ومحكومة مطرودة الى الحرية، وأفواج أخرى بريئة تُساق إلى الظلمة.

كأنه انقلاب رئيس على دولته، وعلى جيشه، بالقوة وبالحيلة. أي أن الرئيس هو الذي استدرج الانقلاب حتى تتاح له فرصة التخلّص من كل خصومه بتهمة المؤامرة عليه. وحتى الآن هو المنتصر.

لكن، إذا صحّ هذا التقدير تبدأ الأسئلة: لماذا، ولأي سبب، ولأي غاية؟.. والأجوبة متعددة، وأولها أن أردوغان المتديّن والمحافظ الطامح لتحقيق حلم تركيا بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي، ليس هو صاحب هذا المشروع، فالطلب التركي موجود في ملف الاتحاد منذ العام 1987، لكن منذ ذلك التاريخ وتركيا قيد الدرس والاختبار، وبين دورة وأخرى، تتلقى أنقرة من الأمانة العامة للاتحاد مذكرة تفيد بأن علاماتها في مادة القانون والشفافية والديموقراطية والحريات العامة باقية دون المعدل. أي أن قبولها في الاتحاد متوقف على استكمال شروط العضوية.

والواقع أن الرئيس أردوغان منذ وصوله الى رئاسة الحكومة في العام 2003، ثم بعد تبوئه منصب رئاسة الجمهورية، حرص على تصحيح وضعه الأوروبي، لكنه بقي «مقصراً»، حتى جاءت عملية الانقلاب الأخير وارتداداته الداخلية والدولية لتزيد المسافة بعداً بين أنقرة وبروكسيل عاصمة الاتحاد.

في المقابل ليس مستبعداً ان يكون أردوغان قد بلغ حالة اليأس من بلوغه المرتبة الأوروبية. ولعله اكتفى بالحفاظ على مقعده في الحلف الأطلسي مع تعزيز دوره في المثلث الروسي – الإيراني، واستعادة علاقته المتينة بإسرائيل، والبرهان على ذلك أنه طلب من وزير خارجيته تطبيع العلاقة مع تل أبيب عبر المؤسسات الدستورية، وأخيراً أصدر أمراً إلى البرلمان لتمرير معاهدة التفاهم مع إسرائيل. وقد سبق له أن دعا الى تعاون تركي إسرائيلي لحل قضية فلسطين.

لكن، مع كل ذلك، يدرك أردوغان أن معركته الأساس هي داخل تركيا؛ وهو إذ يعتمد على شعبيته الحزبية المنتظمة في صفوف حزبه (العدالة والتنمية) فإن هاجسه الدائم هو الجيش الذي يمرّ حالياً في أصعب امتحاناته الداخلية، خصوصاً بعد مضاعفات الانقلاب، والانقلاب المضاد، وما جرى بينهما من عمليات إعدام، وطرد، وسجن وفرار، تضاف الى ذلك ارتدادات الحملة المستمرة في تعقب جماعات الداعية فتح الله غولن المنتشرة في نسيج عموم الشعب التركي ومؤسساته المدنية، والدينية، والاجتماعية، والسياسية، والعسكرية.

ثم إن الشعب التركي، كما أي شعب في العالم الثالث، يملك حدساً في علاقته مع النظام، أكان مدنياً، أو عسكرياً. فالموالون للنظام فريقان: الأول يخاف أن يفقد النظام فيبقى معه حتى الموت. والثاني يخاف أن يبقى معه فيذهب ضحية الانتقام منه. وأصعب المراحل في الحالتين مرحلة انتظار الاستقرار بعد المؤامرة أو الانقلاب. وخلال هذه المرحلة تُستعاد سيرة البطل الممسك بالقرار، وفي معظم الحالات يكون البطل من أصول متواضعة يفاخر بها. كأن يقال عنه مثلاً أنه عمل في الشارع، أو تعلم في الشارع، لكن هذه الصفة لا تعني دائماً أن حاملها مثالي.

في قمة عربية خلال العقد الأخير من القرن الماضي وقف العقيد معمر القذافي، من دون داعٍ ولا سبب، وتوجه الى أحد الملوك بحملة افتراء من فيض حثالة لغته ولسانه. وفي حين تطلّع الملك نحو سدّة الرئاسة برباطة جأش انطلق صوت أحد أعضاء الوفود، وكان وزيراً للنفط في حكومة بلاده، طالباً من الرئاسة السماح له بالكلام، ثم التفت الى القذافي وقال له وهو يشير الى الملك ومَن بجواره:

«هذا مَلَك ابن مَلَك. وهذا أمير ابن أمير… أنا ويّاك أولاد شوارع. فتعال نتحاسب».!

ثم كال له بعض ما يستحق من غليظ الكلام، فانسحب القذافي من القاعة وانتهت المشكلة.

عبارة «أولاد الشوارع» لا تقال دائماً بمعنى «السوقية». فهناك أولاد الفقر والبؤس وضنك الحياة، ومنهم من يمتلك رفعة الخُلق، ونعمة الذكاء، وعلو الطموح، والقدرة على الكفاح والصبر حتى بلوغ الهدف. ومن بين هؤلاء يخرج قادة ورؤساء، ويحفرون أسماءهم في صفحات التاريخ. بعضهم يستقر في سجل النبلاء، ويتحول رمزاً ومثالاً لشعبه ووطنه، وبعض آخر يرسو في قائمة المشاهير.. وكفى.. ومن هؤلاء في هذا الزمن رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس رجب طيّب أردوغان، وقد جمعتهما أخيراً القمة الثنائية في مدينة «سان بطرسبورغ» التي كان اسمها في زمن الاتحاد السوفياتي «ليننغراد»، وهي المدينة التي وُلد فيها الرئيس بوتين في العام 1952. أما الرئيس أردوغان فإنه مولود في مدينة اسطنبول عام 1954.

مدينتان ساطعتان في الجغرافيا والتاريخ. ورئيسان متساويان بالعمر تقريباً، كما في النشأة. فأردوغان نشأ في أسرة فقيرة، وهو يفتخر بأنه باع البطيخ في الشوارع والساحات العامة ليعين والده في تأمين معيشة العائلة. وبوتين ابن طبّاخ، لكنه درس الحقوق وتولّى مناصب ديبلوماسية وإدارية ومسؤوليات مخابراتية في جهاز «كي.جي.بي» في زمن الاتحاد السوفياتي. وإلى ذلك هو لاعب جيدو ممتاز قبل أن يبدأ صعود سلم السلطة من رتبة مساعد محافظ سان بطرسبورغ الى منصب رئيس وزراء روسيا، إلى رئيس روسيا عام 2012.

بعض هذه التفاصيل لا بدّ أنها كانت حاضرة في ذاكرة الرئيسين بوتين وأردوغان في لقائهما يوم التاسع من آب (أغسطس) في مدينة بطرسبورغ، وقد جلسا وجهاً لوجه. ولا بدّ أن نشأة كل منهما كانت حاضرة في خلفية المشهد.

لا يحتاج الرئيس أردوغان الى قبعة عسكرية ليكون ديكتاتوراً، ولا الى عمامة ليكون شيخاً. فهو يجمع الصفتين. وإلى ذلك فإنه متعدد الأيدي: يد ممدودة الى روسيا، ويد ممدودة الى إيران، ويد ممدودة الى إسرائيل.

وفي الوقت عينه يحرص على أن يكون ذا وجه أطلسي يحاكي الولايات المتحدة الأميركية بلغة الند للند، ويتطلع الى رؤساء الدول الأوروبية فيخاطبهم من موقع القطب الجامع بين قارتين، مترفعاً عن التمنّي عليهم قبوله في اتحادهم، وكأن ما عنده من الديموقراطية، والمدنية، والعدالة، والقانون، والحرية، ومن الانفتاح، والرخاء، والازدهار، والأمل والاحترام للمواطن، ما يفوق كل ما تراكم عند الأوروبيين عبر العقود والأجيال!

ولا يختلف الرئيس الروسي كثيراً عن الرئيس التركي. فإذا كان أردوغان وريث آخر سلاطين بني عثمان محمد السادس فإن بوتين وريث آخر القياصرة الروس في بلاط الكرملين، وبعدهم لينين وستالين، حتى آخر رئيس شيوعي قبل سقوط جدار برلين عام 1990، وبعده انهيار الإمبراطورية الشيوعية.

دائماً الغموض هو سيد الوضع في الدولة التي تتعرض لما حدث في تركيا يومي 15 و16 تموز(يوليو) الماضي. ومع الغموض يسود الخوف من الانتقام المتسرع. وفي تركيا يحدث هذا حالياً في أجواء تشير الى أنها تسير نحو دولة بوليسية.

وللتأكيد فإن عملية استطلاع رأي شعبي أجرته إحدى المؤسسات التي تتعامل معها الدولة التركية أظهر أن نسبة 68 في المئة من الأتراك تدعم الرئيس أردوغان.

والسؤال: هل بقي معارضون لأردوغان في تركيا؟

 

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟