وحدة أوروبا وهواجس اللجوء والإرهاب والإقتصاد

تعيش القارة العجوز منذ سنوات هاجس الأزمات المتلاحقة التي تعصف في العالم لا سيما في دول الجوار الأسيوي والإفريقي، والتي انعكست بأشكال مختلفة على شعوب ودول الاتحاد الناشئ، ووضعت انظمته وقوانينه وقيمه، التي عقدت الدول المؤسسة العزم على تعميمها والالتزام بها، أمام تحديات كبيرة تعيق تطور التجربة الاوروبية الرائدة، لا بل تهدد استمرارها.

لقد اقلقت العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا وبلجيكا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية  دول العالم وأثارة التهديدات المتلاحقة موجة من الرعب في نفوس الاوروبيين حيث مشاعر الغضب والحقد ضد اللاجئين والمهاجرين، ما يشكل خطراً ليس على استقرار أوروبا فحسب بل على مستقبل الإعتدال الأوروبي وقيم الإندماج الإجتماعي وعلاقة الشعوب فيما بينها.

تحديات الإرهاب وأزمة اللجوء والإرتباك الإقتصادي عناوين أسهمت في تغليب رأي الإنفصالين البريطاني، وباتت شعارات تهدد وحدة ومستقبل التجربة الأوروبية، وجعلت من (الأمن) أولوية متقدمة على الأولويات التي قامت عليها فكرة الإتحاد (حرية إنتقال الأشخاص وحرية تبادل ومرور السلع).

بين حرية الأشخاص وحرية الإقتصاد بات الأمن أولوية أوروبا، فهل تنجح التجربة الأوروبية في الموازنة ما بين (الأمن) و(الحرية)؟ أم تعود مسألة القيود والحدود لتكبل أوروبا من جديد وتعيد معها التاريخ الى الوراء؟ أسئلة حملتها “الأنبـاء” الى الباحث واستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة فرنسا الثانية الدكتور خطار أبو ذياب، الذي أعتبر “أن الإتحاد الأوروبي على صعيد الأقطاب العالميين ليس بوضع مثالي، وأن هذا القطب التجاري والاقتصادي لم يصبح قطباً سياسياً وعسكرياً، وإن قدرته على التأثير في ميزان العلاقات الدولية تبقى محدودة وتحت سقف المظلة الأمنية الأميركية”.

د. خطار ابو ذياب

وقال أبو ذياب، أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديداً بعد إتفاقية روما 1952، نستنتج أن الإتحاد الأوروبي الذي تضخم بعد الحرب الباردة ليصبح أشبه بأمم متحدة مصغرة من 28 دولة، لم ينجح في إنتاج سياسة خارجية مشتركة، رغم وجود وجه لهذه السياسة، التي كانت من قبل البريطانية كاترين أشتون، واليوم الإيطالية فيديريكا موغيريني، وأصبح هناك رئيساً للإتحاد، لكن ليس هناك بعد من قوة أوروبية فاعلة بشكل ملموس وحاسم.

واستطرد الباحث السياسي قائلاً: “في سبعينيات القرن الماضي قال وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر متهكماً (أين هي أوروبا أعطوني رقم هاتفها)، اليوم هناك رقم هاتف، لكن العقبات والمخاطر تتزايدان في آن معاً، فالأزمة الإقتصادية العالمية وتداعياتها على الميزانيات العامة تركت أثارها الملموسة على أوروبا، التي لم تعد أوروبا الرخاء، وأوروبا جذب الدول ورفع مستواها كما حصل مع اسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول، بل أصبحت منطقة اليورو اليوم في وضع إقتصادي صعب، ودخلت معها أزمات اللجوء، حيث شهد العام 2015 أكبر أزمة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية، وأيضاً مسألة الإرهاب. كما برزت مسائل متعلقة بصعود اليمين الشعبوي، وصعود موجات معينة تطالب بالعودة الى الهويات الصغيرة، وأخطر ما حصل في العام 2016 الإستفتاء البريطاني الذي طالب بخروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي.

هذه العوامل التي تدلل، برأي أبو ذياب، على التأخر في مسيرة الإتحاد الذي شكل إنموذجا متقدما عبر الوصول إلى عملة موحدة، ومثالاً لتطوير الإندماج بين دول العالم، أصبح لا يتمتع بالشعبية لدى الأوروبيين، لا بل باتوا يعتبرون أن الإتحاد لا يملك مشروعاً ولا يملك أفقاً مستقبلية، وأنه إذا لم يتم التوصل إلى مشروع أوروبي جديد، سيكون هناك مراوحة في المكان وعودة إلى الوراء في بعض المسائل.

2075943_Europe-European-Flags-EU-700

أما عن مسألة النازحين وفشل سياسة الإندماج وتأثيرها على وحدة أوروبا، رأى أبوذياب أن مسأئل الهجرة مطروحة في أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ بداية التعثر الإقتصادي، حيث بات يتصاعد الحديث عن ما يسمى بالهجرة غير الشرعية، حيث وصل الأمر بأحد رؤساء وزراء فرنسا السابقين القول: “لا يمكن لأوروبا أن تتحمل وحدها كل بؤساء العالم”، قدرة أوروبا على جذب النازحين إليها تأثرت بفعل الأزمات المتلاحقة، سيما وأن معادلة اعتبار العامل الأجنبي المهاجر ككبش فداء، يتم التضحية به في الأزمات الإجتماعية والاقتصادية، أفقدت أوروبا استراتيجيتها، حيث بات هناك دول تفكر بالجذب الإنتقائي للمهاجرين، ودول تحجم عن قبول المهاجرين، مقابل دول تعيش حالة من الفوضى حصل فيها تراكم للهجرة غير الشرعية.

مع تفاقم الأزمات في الصحراء الإفريقية وفي الشرق الأوسط وشرق أوروبا وقعت أوروبا تحت ضغط الهجرة التي تتزايد يوماً بعد يوم، إلى أن جاءت مفاجأة عام 2015 مع هذا العدد الكبير من النازحين والعدد الكبير من الغارقين في البحار، حيث حصل سقوط كبير لمنظومة القيم التي ينادي بها الأوروبيين وعلى رأسها حقوق الإنسان، لقد تبين ان لا أولويات تتقدم على المصالح خلال المعالجات المرتبطة بالأزمات الحادة، وهذا ما حصل في ألمانيا التي تعتبر من الدول الهرمة وتفتقر للعناصر الشابة، فاستجابت مصالحها مع أزمة النزوح ونجحت في المزج ما بين الحاجة للسواعد ولليد العاملة، وفي نفس الوقت استجابت لمنظومة القيم.

refugee

وعن علاقة الإرهاب بأزمة المهاجرين واللاجئين، رأى أبوذياب، أن مسألة الهجرة سابقة لمسألة اللجوء، ومسألة الإرهاب كانت أيضا في أوروبا سابقة لمسألة الهجرة، حيث كان هناك إرهاب يساري متطرف، وإرهاب يميني متطرف، وإرهاب متصل بالمسألة الفلسطينية، وكان هناك إرهاب متصل بحرب العراق وإيران وتداعياتها، وحصل إرهاب مرتبط بأحداث الجزائر، فالمسألة ليست جديدة، إنما اليوم هناك ظاهرة الإرهاب العالمي المتمثلة بـ (داعش) و(القاعدة)، ولو لم تكن (داعش) ولم تكن (قاعدة) لعله كان هناك توتر من نوع آخر.

وقال: في مسألة الإرهاب كان هناك أنانية أوروبية في المواجهة، لم يكن هناك تنسيق كما يجب لمعالجة هذه القضية واستباقها، الآن هناك تنسيق لكن مسألة المعالجة غير كافية، حيث لا يوجد إمكانيات لأمر مطلق، سيما وأن مثل هذا الإرهاب يعمل كلص خفي ويجدد أساليبه دوما ويعمل على عنصر المفاجئة لا يمكن مواجهته بسهولة.

brussels-airport

أما عن الربط بين الارهاب واللجوء وتعثر سياسة الإندماج، قال الدكتور خطار أبو ذياب، هذا يأخذنا إلى أمر آخر، “مدى قدرة الإسلام على التأقلم في بلد غير مسلم، وقدرة المجتمعات الأوروبية على استيعاب هذا الكم من الموجودين فيها، فالمشكلة مزدوجة ويجب فصل الملفات عن بعضها، ولا يمكن الخلط بين الإرهاب والإسلام، ولا بين الإرهاب والهجرة أو اللجوء”.

أضاف ابو ذياب، بالنسبة للإسلام هذا أمر حساس جداً، لأن هناك وجود مسيحي في الشرق ووجود إسلامي في الغرب،فلم يعد الشرق – شرق ولا الغرب – غرب، فهناك شرق في الغرب وغرب في الشرق، ففي هذا العالم الشمولي عالم العولمة التفاعلية، إذا بقي الإسلام متشبثاً بآرائه الفقهية المعينة حول الأولويات، حول عدم إحترام المواطنة، سيكون من الصعب اندماجه في مجتمعات أوروبا التعددية، أو في مجتمعات علمانية إيجابية تضمن حرية الأديان، وهذه المسألة يجب معالجتها على المدى المتوسط، لكن الأهم عدم الخلط بين الإرهاب والإسلام، وعدم السماح لمنظري الحروب الدينية، ولمنظري صراع الحضارات من تقدم الصفوف وأن يحاولوا إثارة البلبلة الدائمة.

وعن مسألة الحدود والتصويت البريطاني السلبي، رأى الأستاذ في جامعة باريس الثانية، أن الناخب البريطاني كان قلقاً من موضوع الهجرة الأوروبية الداخلية، خاصة من جماعات شرق أوروبا، كان هناك خوف من أن تتحول الإنجازات الإجتماعية البريطانية إلى هؤلاء، وأن ينافس اللاجئون الطبقة العاملة البريطانية، كما أن هناك البعد التاريخي المتمثل بخصوصية إنكلترا بالذات التي وصلت لأن تكون الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والتي تعتز بأنها الدولة التي لم تخسر الحرب العالمية الثانية على عكس الدول الأخرى، حيث لم يحصل في التاريخ أي تجاوز للحدود البريطانية، وهناك قول للماريشال تشرشل حول مستقبل بريطانيا يقول فيه: “إذا خيرت بريطانيا بين القارة الأوروبية وبين العرض الواسع، أي المحيط الأطلسي، وإذا كان محكوماً عليها أن تختار لاختارت العرض الواسع”. أي أن تختار الأطلسي وكل ما عداه.

622

المهم أيضا في مسألة الحدود، الهجرة الداخلية والبعد الإنساني، حيث أن هناك عدة مجموعات تحكم العلاقات الأوروبية ومنها (إتفاقية شنكن)،والتي تسمح لمن يحصل على هذه التأشيرة من التجول في أرجاء أوروبا، دون أي مراقبة للحدود الداخلية، لكن إفتقار الرقابة الحاسمة على حدود أوروبا في ناحية الجنوب الشرقي، أدى إلى تفاقم أزمة النازحين وتفاقم أزمة الوصول إلى أوروبا، لذلك لم يكن من السهل معالجة أزمة الإرهاب، دون معالجة أزمة الرقابة الأفضل للحدود وفهم إلى أين يمكن أن تذهب الحدود، فالتجربة الأوروبية الرائدة من ناحية ترك السلع تمر وترك الأشخاص يمرون تقوم هي أهم ما في الفكرة الأوروبية.

الآن تقف أوروبا أمام منعطف الموازنة بين الأمن والحرية والأمن والإقتصاد، وإن كانت تعطى الأولوية للأمن، لا بد من البحث جديا في كيفة الموازنة بين الأمن والحرية والإقتصاد لضمان استمرار التجربة الأوروبية الرائدة وانباعثها بين الدول الأخرى كأنموذجا رائدا للإندماج الإجتماعي بعيدا عن الأعراق والمعتقدات والقوميات، جيث أن تجارب الشعوب أكدت توق الإنسان الدائم إلى الحرية وهذا ما أظهرته حركة الشعوب فكما أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، فإنه أيضا “لا يمكن للإنسان العيش في السجن الصغير ولا الكبير” فالحرية حاجة التواقين الى الحياة.

—————————–

(*) حاوره:  فوزي ابوذياب