إلى روح والدي

مكرم امين بو نصار (النهار)

ما اصعب الفراق يا ابي، خصوصا اذا كان مفاجئا ومن دون انذار. ما اصعب خسارة السند والمثل الأعلى والقلب الحنون. وما اصعب الم غيابك يا قدوتي ومعلمي، ورفيقي في كل تفاصيل حياتي ومرشدي الدائم الحاضر أبداً في عقلي وقلبي وعروقي.

ترجلت باكراً ايها الفارس، ترجلت بعد أن افنيت سنين حياتك في تربيتنا وتعليمنا وارشاد كل فرد من افراد عائلتك ومجتمعك، وفي خدمة القضاء والعدالة واحقاق الحق…. يا صاحب القامة والهامة الشامخة المرتفعة بتواضعها الشديد… وايها المنفتح بالتزام والملتزم بانفتاح، والمعاصر باصالةٍ، فيك من الماضي والحاضر أجمل الخصال ولديك رؤية مبهرة للمستقبل، رؤيتك الشاملة هذه والمامك بتفاصيل الحياة ينطويان على الأصالة من جذور الاجداد والحداثة من رغبة الاولاد والاحفاد.

ترجّلت باكراً أيها الحكيم، الصادق، العادل. لم يكن لديك عدو إلاّ الظلم وصديق سوى الحق والقانون. أحببت ضيعتك وأهلها وبادلتك الحب والوفاء، وأحببت وطنك الذي احتضنك ترابه في ظلال أشجار السنديان في ضيعتنا. كنت زاهداً في قشور الحياة وغايتك الجوهر والاخلاق، وكما قال الصحافي فارس خشان: لقد كنت الرجل الذي يجهد ويعمل كثيرا من دون ان يلهث الى الضوء، وكنت الباحث عن العدالة من دون أي اكتراث برُشى الطامعين بالظلم.

ترجلت باكراً وانت ما زلت تسعى للعلم والمعرفة، فصديقك القديم والدائم هو الكتاب، كيف لا وانت المطّلع والقارئ بشغف مستمر للمعرفة ولو أنك العارف بحقيقة الامور…. وقد لفتني ما قرأته للمرة الاولى بعد غيابك في بعض مدوناتك، ولم اتفاجأ حين رأيت فيها ملخصاً لكل كتاب قرأته في السنوات الاخيرة….. ثلاثمائة خلاصة لثلاثمائة كتاب، جميعها مكتوب بخط يدك بدقة ووضوح…..هذا انت يا ابي ثروة وموسوعة ثقافية وقانونية وعلمية.

يا ابي حزننا كبير وعميق، ولكنك ستبقى في قلبنا وعقلنا ما حيينا، وسنتبع مبادئك وافكارك وتوجيهاتك التي ربيتنا عليها. ستبقى موجوداً بيننا وفي وجداننا وصلاتنا، كيف لا وقد تركت هذا الاثر الطيب لدى الكثير الكثير من الناس، منهم من عرفوك عن قرب ومنهم من تعرفوا اليك من خلال اعمالك وأحكامك.

والدي الغالي، لم نفقدك نحن وبلدتك رويسة البلوط فقط، بل كما قال دولة الرئيس فؤاد السنيورة، لقد فقدك الجسم القضائي ولبنان مرجعاً ورمزاً ومثالاً للقاضي العادل والحكيم والنزيه، وكانسان صاحب الصفات الكريمة والاخلاق العالية. نعم إنّ خسارتنا كبيرة وفادحة جداً ولا تعوض… ولكن يبقى عزاؤنا بما تركته لنا من إرث طيب، وعطر اعمالك واخلاقك، وحديث الناس عنك وعن صفاتك النادرة التي قلما اجتمعت في رجل واحد.

يا ابي…من الطبيعي، بل من الواجب على أي ابن صالح أن يرثي ويتذكر اباه ويمشي على خطاه ويعدد مزاياه بعد فقدانه… إلاّ أنّ ما كتبته لا يعبر عن شعوري فحسب، بل هو القليل مما سمعته من الناس عنك في الايام الماضية.

يا ابي الغالي، اعاهدك اليوم انا واخوتي فارس وطارق ونزار الذين ساروا على دربك في سلك القضاء والعدل، اننا سنبقى على العهد وعند حسن الظن، وان نلتزم كل ما تعلمناه منك…. ولن اقول الوداع لمن اودعه الله في قلبي طالما نبض….فإلى اللقاء يا اغلى الناس…يكفيني فخراً انك ابي وأحمل اسمك ما حييت…الى اللقاء ايها الرجل العظيم.