الجامعة الأميركية حيت مؤسسها دانيال بلس في مئوية وفاته

قبل مائة عام، توفي مؤسس الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) الدكتور دانيال بلس، بعد ستة عقود أمضاها بخدمة التعليم في لبنان والمنطقة. وهذه الجامعة الرائدة التي أسّسها كانت رؤياه، وسعى إليها حتى أسّس ما أصبح يُعرف بالجامعة الأميركية في بيروت.

ولد دانيال بلس في 17 آب 1823 واضطر إلى ترك المدرسة بعدما عجز والده عن دفع نفقات تعليمه لكنه تابع الدراسة في سن الثالثة والعشرين وموّل تعليمه من المنح الدراسية، والدروس الخصوصية، والعمل في الزراعة. تخرج بلس من جامعة أمهرست وقضى عامين في مجمع اندوفر اللاهوتي حيث سيم قسّاً في العام 1855. بعد ذلك انضم الى الإرسالية الخارجية بهدف خلق عالم أفضل من خلال الخدمة الإرسالية. وقد سافر إلى سوريا مع زوجته الجديدة آبي وود للتعليم في المدرسة الأميركية العالية في عبيه، وفي بلدة سوق الغرب فيما بعد.

في العام 1862، عاد بلس إلى نيويورك حيث اجتمع مع مجلس المفوضين الأميركي للإرساليات الأجنبية ليعرض فكرة إنشاء كلية. وباعتباره واحداً من المحرّكين الرئيسيين، تم اختياره ليكون مسؤولا عن المشروع. ولكي يكرّس وقته للكلية، استقال من الإرسالية وشكّل مجلس أمناء للكلية بمساعدة المكرّم وليام دودج. وصيغت شهادة تأسيس الكلية في 18 نيسان 1863. وفي 24 نيسان 1863، صدر ترخيص من ولاية نيويورك لإنشاء الكلية السورية الانجيلية واختير دانيال بلس بالاجماع لتنظيم الكلية الجديدة والخدمة كرئيسها.

بعد ذلك أمضى بلس عامين في جولة طويلة في الولايات المتحدة وبريطانيا لجمع الأموال اللازمة لإطلاق الكلية وعاد مع زوجته إلى بيروت في 2 آذار 1866.

وضع مهمّة الكلية

فتحت الكلية السورية الانجيلية أبوابها في 3 كانون الأول 1866. وكانت البداية متواضعة مع تأدية دانيال بلس مهمات الرئيس والأستاذ. وفي نشرة الكلية وبرنامجها تأكد بوضوح هدفان: أولا، تمكين الشباب من السكان الأصليين من الحصول، في بلادهم، على التعليم الأدبي والعلمي والمهني الذي تتطلّبه مقتضيات المجتمع والثاني جعل الكلية وطنية ومستقلة ومُستدامة بذاتها.

فضّل بلس في الكلية نظاماً “يخصّص جهداً أكبر لتثقيف الطلاب عوضاً عن مجرد تعليمهم”، كما ذكر في كتاب ذكرياته. وفي خطابه الوداعي في العام 1902 قال: “الوقائع هي بذور الفكر، ومثل البذور في العالم النباتي هي قليلة القيمة إذا جُمعت؛ ولكن بقوة المنطق والإرادة والضمير تُحوّل إلى مُثُل عُليا وقوانين تحكم المسائل والعقول”.

ودعا بلس طلابه لتهذيب عقولهم على التحليل المستقل للحقائق السائدة واعتبر أن الأفكار والنظريات الجديدة تنهمر باستمرار على الطلاب في ذلك الزمان.

ولم يشأ بلس أن تعمل الكلية السورية الانجيلية بمثابة مدرسة دينية لاهوتية تركّز فقط على التدريب الديني، بل أراد أن تتواءم فيها الدراسات الأدبية والعلمية مع المبادئ المسيحية لأنها تساعد في التمييز بين الخير والشر.

واشتملت الأقسام الدراسية التي أضيفت إلى الأدب المسيحي اللغة العربية وآدابها، والرياضيات، وعلم الفلك والهندسة، والكيمياء، وعلم النبات، والعلوم الطبيعية، واللغات الحديثة، والطب. وفيما بعد، تم توسيع البرنامج ليشمل الفلسفة، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعيه، والتجارة، وغيرها. وفيما تطورت الكلية في عقدها الأول، قرّر بلس وبعض أعضاء الهيئة التعليمية أن تدرّس مواضيع معيّنة بالانكليزية وليس باللغة العربية.

وفي الوقت الذي أشرف فيه بلس على بناء أول مباني الكلية، كتب إلى زوجته وأطفاله الأربعة في الولايات المتحدة حول أهمية متابعة رؤياه ووصف إنهاكه: “لا وقت لرئيس هذه الكلية ليرتاح. يجب أن يعمل سبعة أيام في الأسبوع” كما ذكر في كتابه “رسائل من جامعة جديدة”. كان بلس يؤمن بقوة بأهمية التعلم. وكتب: “لتأهيل المرء للواجبات الجسيمة في الحياة، يجب أن ينفق الكثير من الوقت في الاستعمال المستمر للعقل للدراسة”. ولقد ثابر بلس مع العاطفة والصبر، يحمله إيمانه بأن “الكلية ستغيّر شكل الشرق بقوّتها” وأن التاريخ كان يُصنع لأن الكلية “ستكون الأداة الأقوى في هذه الأرض لتحطيم الخرافات” وأن الكلية “ستقود البلاد أكثر فأكثر”. وأثناء إعداده أول برنامج للكلية السورية الإنجيلية، كتب دانيال بلس إلى و. و. تايلر، أستاذه السابق في جامعة أمهرست ليخبره أنه يتوقّع أن تصبح الكلية الجديدة “جامعة أمهرست، أو جامعة يايل، في الشرق”.

وفي خطابه الأكثر شهرة، خلال وضع حجر الأساس لمبنى كولدج هول في 7 كانون الأول 1871، وعلى الرغم من خلفيته التبشيرية وزمانه، رسم دانيال بلس المبدأ الأساس للكلية: “هذه الكليّة لكل طبقات الناس كائناً ما كان لونهم أو جنسهم أو دينهم أو تابعيتهم. لأي انسان أبيض أو أسود أو أصفر، يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو وثنياً. لأي انسان كان من البشر أن يدخل هذه الكلية ويتمتع بكل منافعها، لثلاث أو أربع أو خمس سنوات، ثم يخرج منها وهو يعتقد بآله واحد أو بعدة آلهة أو لايعتقد بشيء البتة…”

إن ميراث دانيال بلس يستمر. وقد قال فضلو خوري، رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، خلال حفل تنصيبه كرئيسها في كانون الثاني 2016: “منذ أسس دانيال بلس الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1866 أمرُ واحد لم يتغير، وهو العزم أن يكون لها تأثير – على المعرفة، وعلى المجتمع”.

كأستاذ، وأمين الصندوق، ورئيس إداري، قاد دانيال بلس الكلية المتنامية لستة وثلاثين عاما حتى تقاعده في العام 1902 عن عمر واحدٍ وثمانين عام. وأصبح ابنه هوارد رئيساً بعده. وبقي دانيال بلس يعيش في الحرم الجامعي حتى وفاته في الثانية والتسعين، ودُفن في الأرض التي وُلدت فيها فكرة الكلية السورية الانجيلية/الجامعة الأميركية في بيروت وفي البلد الذي أمضى معظم حياته في خدمته: لبنان