تداعيات أزمة النازحين السوريين على البلدان المضيفة/ بقلم د. وليد صافي

تحتل الأزمة السورية مركزاً محورياً في الصراع على المنطقة وفيها، وتلعب الاستراتيجيات والرهانات المتعددة والمختلفة للقوى الدولية والإقليمية وللنظام في سوريا، دوراً بارزاً في تصعيد النزاع وتعقيد ابعاده الجيوستراتيجية من هنا فإن التوصل الى حل سياسي في المرحلة الراهنة امر مستبعد. منذ بداية الثورة السورية في ١٥ آذار٢٠١١، وقع الشعب السوري ضحية سياسة التدمير المنهجية التي استخدمها النظام للقضاء على الثورة، وسياسة التردد التي انتهجتها الولايات المتحدة الأميركية ازاء الأزمة السورية، والدور الضعيف والخجول لما سمي بأصدقاء الشعب السوري. ويبدو ان سياسة التردد هذه، كما التدخل العسكري الروسي لمساندة النظام، يتقاطعان ويلتقيان في الكثير من الأهداف المرسومة لمستقبل سوريا والمنطقة، لا سيما بعد اجماع الكثير من المحللين الاستراتجيين والأمنيين، الى إمكانية تعديل الحدود الجغرافية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو لعدد من دول المنطقة، والتشكيك بقدرة نموذج الدولة المركزية على إدارة بلدان ذات انقسامات عامودية.

ولا شك في ان المواجهة المفتوحة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية قد رفعت من درجة الصراع المذهبي في المنطقة وشكلت واحداً من الدوافع الرئيسية التي تقود في هذا الاتجاه.

في ظل استمرار الحرب في سوريا وغياب الأفق للحلول السياسية وغياب الإرادة الدولية على خلق مناطق آمنة داخل الاراضي السورية، ومع تعثر تبني سياسة واضحة من الاتحاد الاوروبي لاستيعاب النازحين، واستمرار سياسة تهجير الشعب السوري واستغلال النزوح، كيف تبدو التداعيات الأمنية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، لملف النازحين السوريين على دول الجوار؟ وما هي ابرز المقترحات لبناء سياسة واضحة ومثمرة لإدارة هذا الملف الشديد التعقيد؟

لم يسبق ان تعرضت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية الى موجة نزوح كالتي تعرض لها الشعب السوري، حيث ان حوالي تسعة ملايين سوري نزحوا بفعل التدمير الذي طال مناطقهم، محاولين إيجاد ملجأ لهم اما داخل الاراضي السورية او في دول الجوار، تركيا، لبنان والاْردن.

Migrants and refugees walk through a field after crossing into Serbia via the Macedonian border near the village of Miratovac on January 27, 2016. More than a million people headed to Europe in search of new lives last year, most of them refugees fleeing conflict in Syria, Iraq and Afghanistan in the continent's worst migration crisis since World War II. The onset of winter does not appear to have deterred the migrants. / AFP / ARMEND NIMANI

توزع نصف النازحين السوريين على هذه الدول، والنصف الاخر لجأ الى مناطق آمنة نسبياً داخل سوريا. وقد تقدم حوالي ١٣٠ الف نازح سوري بطلب اللجؤ الى دول الاتحاد الاوروبي التي عالجت حتى اليوم، حوالي ٣٣ الف طلب، غالبيتهم اي ٨٠٪‏ منهم تم قبولهم في ألمانيا. والجدير بالذكر، ان عدد النازحين السوريين الذين استقروا في لبنان منذ بداية النزوح حسب آخر الإحصاءات الصادرة عن المفوضية العليا للاجئين، بلغ حوالي مليون واربعمائة الف نازح اي ربع سكان لبنان، الامر الذي طرح تحديات كبيرة على الدولة اللبنانية ومؤسساتها في غير مجال.

لا شك في ان دول الجوار التي استضافت النازحين السوريين، تتشارك في تداعيات هذا النزوح، لا سيما على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي، وإن اختلفت طبيعة الأنظمة في البلدان المضيفة والسياسات المعتمدة في هذا المجال. ومن البديهي عدم إستبعاد التداعيات السياسية التي تتعلق بالتركيبة الديموغرافية لبعض الدول المضيفة،لا سيما لبنان في ظل الطروحات الدولية المتعلقة بتوطين النازحين، حيث ان توازن العامل الديموغرافي بين الطوائف الممثلة في المؤسسات الدستورية يعد من عوامل استقرار الصيغة السسياسية المتفق عليها.

ان التحليل العلمي لمسألة تداعيات النزوح السوري على البلدان المضيفة، لا سيما منها المتعلقة بالتداعيات الأمنية، يقود الى ربط هذه الاخيرة بالتطورات الميدانية في سوريا وباستراتيجيات بعض اللاعبين ومنهم النظام السوري، وكذلك تعقيدات السياق السياسي للحلول، اكثر من جعلها جزءاً من عملية النزوح بحد ذاتها، على الرغم من محاولة التنظيمات الإرهابية استخدام النزوح لتمرير بعض العمليات كما حصل في أوروبا. ان التحقيقات القضائية في التفجيرات الاخيرة التي استهدفت بلدة القاع اللبنانية عَلى الحدود السورية، تؤكد هذه الفرضية، حيث ان الإرهابيين الذين نفذوا العمليات هذه أتوا من خارج الحدود، كما ان منفذي التفجيرات الاخيرة التي طالت مطار اسطنبول لم يكونوا من التابعية السورية، الامر الذي يدعو الى ربط هذه التفجيرات  بالسياق السوري والاقليمي.

مما لا شك فيه، إن هذه العمليات الإرهابية التي طالت الدول المضيفة، لها تداعيات سياسية على ملف النزوح السوري، كما لها تداعيات مالية تتعلق بكلفة الإجراءات الأمنية المطلوبة لحماية هذه الدول ومؤسساتها، فضلاً عن التداعيات المتعلقة باستقرار هذه الدول.

ففي التداعيات السياسية لهذه العمليات نلاحظ المسائل التالية:

التأثير في الرأي العام للبلدان المضيفة وتصاعد الخوف من استغلال النازحين للقيام بعمليات ضد السكان الامنين والمنشآت المدنية، تراجع الإرادة لدى بعض الدول في استضافة مزيد من النازحين، صعود الخطاب العنصري ضد النازحين السوريين وظهور اتجاهات في الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، تطالب حكومات الدول الأوروبية بطرد النازحين وعدم استقبالهم، كما ان الدمج ما بين الاٍرهاب والإسلام من قبل هذه الأحزاب  قد زاد من تعقيدات التعامل مع ملف النزوح خصوصاً في غياب القدرة لدى الاتحاد الاوروبي على تبني سياسة موحدة في هذا المجال.

انفجارات-باريس-555x300

استغلال النظام السوري لهذه العمليات الإرهابية، لتسويق رؤيته للحرب السورية، اي “النظام في مواجهة الاٍرهاب”، وكذللك لدفع الدول التي قطعت العلاقات الديبلوماسية معه لإعادة التنسيق الأمني والاستخباراتي، وبالتالي، التمهيد لخروج النظام من عزلته الدولية، في الوقت الذي يستمر بسياسة التدمير للمناطق الخارجة عن سيطرته وحلفائه، الامر الذي يدفع الى استمرار النزوح وتهديد الاتحاد الاوروبي ودول الجوار بمزيد من الضغوط المتعلقة بهذا الملف.

اما التداعيات ذات الطابع السياسي لنزوح اكثر من أربعة ملايين مواطن سوري على دول الجوار، فهي تختلف من بلد الى آخر نظراً لطبيعة النظام السياسي والتركيبة الديموغرافية لشعوب هذه البلدان. فالتداعيات على البلدان التي يتجانس فيها الانتماء المذهبي لغالبية النازحين مع الانتماء المذهبي لسكان الدولة المضيفة او لغالبيتهم كحال الاْردن وتركيا، تختلف تماماً عن التداعيات التي تصيب الدول ذات الديموغرافيا المتنوعة كحال لبنان وطبيعة نظامه السياسي المتأثرة أصلاً بالتوازنات الديموغرافية.

يتأثر الطابع الإنساني لهذه القضية بالتعقيدات ذات الطابع الديموغرافي حيث ان الخوف من ان تؤثر قضية النازحين السوريين على التركيبة الديموغرافية في لبنان، كان من بين الأسباب التي حالت دون تبني سياسة واضحة لإدارة هذا الملف وفقاً للمصالح العليا للدولة وللمعايير والقواعد الدولية المطلوبة في حالات النزوح. كما ان هذه التداعيات تختلف بين بلد وآخر بسبب طبيعة النظام والاستقطاب السياسي فيه وقدرته على اتخاذ القرارات، ففي تركيا على سبيل المثال، تمكنت الدولة بفضل انتهاج سياسة متماسكة في هذا المجال من تعزيز موقعها التفاوضي مع الجهات الدولية المختصة ومع المفوضية الأوروبية، حيث انتزعت من الاتحاد الاوروبي بموجب الاتفاق التركي – الاوروبي الموافقة على ان تكون دول الاتحاد شريكة في استضافة جزء من النازحين السوريين كما في إجراءات الحماية الدولية ولم الشمل ومعايير اللجوء الإنساني واذونات العمل.

وحيث تغيب الرؤيا الواضحة والمحددة للتعامل مع هذه القضية، وحيث يصعب التوصل الى اجماع ضمن آليات أتخاذ القرارات كما حصل في لبنان مثلاً، ترتبك الدولة ومؤسساتها في إدارة هذا الملف خصوصاً في ضوء بروز اتجاه دولي لتوطين النازحين السوريين في البلدان المضيفة،  والذي طرح بشكل رسمي في مؤتمر العمل الدولي الذي انعقد في جنيف بين ٣ و١١ حزيران ٢٠١٦، كما طرح على لسان عدد من كبار المسؤولين الدوليين. هذا التوجه من شأنه ان يحول هذه القضية الانسانية الى قضية سياسية  تتعامل معها الدول وفقاً لمصالحها ولموازين القوى، وبالتالي ترتفع المخاطر بالنسبة لبلد كلبنان خصوصاً اذا ما تعقدت عودة النازحين وارتبطت بعد انتهاء الحرب  بالخرائط الجديدة التي تعد لسوريا ولغيرها من دول المنطقة.

refugees-4

في التداعيات الاقتصادية لملف النازحين السوريين، فانه من المفيد التذكير ببعض ما ورد في ديباجة اتفاقية الامم المتحدة لعام ١٩٥١ وبروتوكول ١٩٦٧ الخاصين بوضع اللاجئين، حيت تمت الإشارة بشكل واضح الى ان “منح الحق في الملجأ يلقي اعباء باهظة على عاتق بلدان معينة، وان ذللك يجعل من غير الممكن، دون تعاون دولي، إيجاد حل مرضى لهذه المشكلة التي اعترفت الامم المتحدة بأبعادها وطبيعتها الدولية”. ولكن، من الملاحظ وعلى الرغم  من الدور الذي لعبته المفوضية العليا للاجئين فان التعاون الدولي ولاسيما الاوروبي منه، لم يكن على مستوى حجم وتداعيات ملف النازحين السوريين، حيث تحملت دول الجوار تركيا، الاْردن ولبنان اجمالي هذه الاعباء، علماً ان التداعيات الاقتصادية لهذا الملف تختلف ايضاً بين بلد وآخر نظراً لحجم الإمكانيات، والالتزامات التي تترب على الدولة المضيفة لا سيما اذا كانت  تلك الدولة من بين الموقعين على الاتفاقية المذكورة أعلاه كتركيا مثلاً.

ومما لا شك فيه، فان الدول المضيفة تتشارك في مستوى الاعباء لا سيما في الضغوط التي تتعرض لها البنى التحتية في هذه الدول  في قطاعات الكهرباء والماء والصرف الصحي، ناهيك عن الالتزامات المتعلقة بتوفير التعليم الابتدائي للنازحين والرعاية الصحية وتوفير اذونات العمل. وإذا تمت مراجعة المساعدات الدولية في هذا المجال، فانه بعد مرور خمس سنوات على بدء عملية النزوح، لم نر في لبنان على سبيل المثال سوى بعض المساعدات التي تحسن من اداء البنى التحتية تم تقديمها على شكل هبات  من قبل دولة الكويت، وتستعد حالياً اليابان   لتوفير قروض ميسرة للبنان  لمواجهة الضغوط التي تتعرض لها البنى التحتية للدول المضيفة، كما يقوم البنك الدولي والبنك الاسلامي والبنك الاوروبي للتثمير بإعداد قروض بفائدة صفر لدول الجوار لذات الغرض. وإذا نظرنا الى الخسائر  الاقتصادية الكبيرة التي تحملها لبنان من جراء الحرب في سوريا والتي بلغت في مراحلها الاولى اكثر من ٧ مليار دولار حسب تقديرات البنك الدولي، وكذللك الى حجم الدين العام الذي أخذ يلامس نسبة ١٤٠٪‏ من الناتج الوطني، نستنتج حجم تداعيات ملف النازحين على لبنان في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.

طبعاً، يشكل الالتزام الدولي على البلدان المضيفة الموقعة على اتفاقية ١٩٥١ تأمين اذونات العمل للنازحين احد اهم التحديات التي تواجه هذه البلدان التي تعاني أصلاً من نسبة بطالة عالية. لكن على الرغم من ان لبنان ليس عضواً في هذه الاتفاقية  إلا أن هذه التداعيات أخذت تتضاعف لا سيما عندما توسع عدد كبير من الشركات بتوظيفات خارج الأُطر الرسمية للأذونات المقيدة أصلاً  للاستفادة من رخص العمالة خصوصاً في قطاع المهن الحرة.

عندما تناقش مسألة التداعيات الاقتصادية لملف النازحين على البلدان المضيفة، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار، مستوى الإنفاق الذي يقوم به النازحون في هذه البلدان والذي برأيي يساهم في رفع مستوى النمو الاقتصادي وان بدرجة متواضعة، وكذللك المردود الاقتصادي للعمالة السورية في لبنان حيث يجمع المحللون الاقتصاديون على أهمية دورها في مرحلة اعادة الإعمار والمراحل التي تلتها. ولا بد ايضاً من الإشارة الى دور طبقة رجال الاعمال من النازحين والذين بدأوا بتأسيس الشركات في الدول المضيفة (منذ بداية النزوح السوري تم تأسيس حوالي ثلاثة آلاف شركة من رجال اعمال سوريين في تركيا) وهذا امر يساعد على تعزيز اقتصاد الدولة المضيفة ويساهم في خلق فرص عمل لديها ورفع مستوى النمو الاقتصادي.

lebanon syrian refugee

اما فيما يتعلق بالتداعيات الاجتماعية لملف النازحين، فإنه يجب لفت الانتباه، الى أن الإجراءات التي تأخذها الدول المضيفة غير الموقعة على اتفاقية ١٩٥١ والمتعلقة بتقييد دخول النازحين الى أسواق العمل، وكذللك ضآلة الموارد المالية الدولية والمحلية  المتوفرة لإعانة النازحين على توفير حاجاتهم الاساسية، قد تتسبب باضعاف استقرار هذه الدول وارتفاع نسبة الجرائم والسرقات، وبالتالي التسبب بحصول نزاعات وتوترات ذات طابع اجتماعي. وإذا تمت مراجعة نتائج الدراسة التي اجرتها المفوضية العليا للاجئين بالتعاون مع اليونسيف لاوضاع النازحين السوريين في لبنان عام ٢٠١٥ تحت عنوان -vulnerability Assessment of Syrian Refugees in Lebanon 2015-  فإن عدداً من المؤشرات يظهر بأن تقييد إجراءات دخول النازحين الى سوق العمل اللبناني بفعل القرارات الحكومية التي اتخذت عام ٢٠١٤ أدت الى تقليص فرص كسب العيش لدى غالبية عائلات النازحين السوريين الذين التزم حوالي ٦٠٪‏ منهم في استراتيجية التأقلم (Crisis coping strategies). وبالتالي فان تقليص فرص كسب العيش والتراجع في مستوى الموارد الدولية والحكومية المتوفرة للمساعدات، ستضاعف في المستقبل من مخاطر انعدام الأمن الغذائي للكثير من عائلات النازحين. لذلك فإن هذه الأوضاع تتطلب إجراءات فورية وخاصة، منها تمكين عائلات النازحين من خلال السياسات والبرامج من انتاج المداخيل مع إجراءات حماية سوق العمل الوطني وتقليص اعتماد النازحين.

في النهاية، إن أهم عامل من عوامل المساعدة على مواجهة هذا الملف المعقد، هو الإسراع في إيجاد تسوية سياسية لوقف الحرب في سوريا، ولكن السياق الحالي على المستويين الإقليمي والدولي لا يساعد في هذا المنحى.

لذلك، المطلوب أن يقوم تعاون دولي وثيق يؤدي إلى المشاركة ليس فقط في تحمل الأعباء ولكن أيضاً في إجراء توزيع عادل للنازحين، وفي مساعدة دول الجوار على مواجهة الضغوط على البنى التحتية لا سيما في الاْردن ولبنان، والدفع باتجاه بناء سياسات وبرامج تساعد النازحين على الإنتاج وحماية الأسواق الوطنية للبلدان المضيفة التي تعاني أصلاً من إرتفاع معدلات البطالة.

——————————-

(*)ألقيت في افتتاح مؤتمر” الشرق الأوسط في ظل النظام العالمي الجديد وتداعيات الصراع العالمي على المنطقة”،  مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش