في ذكرى مصالحة الجبل: تأكيد الاصرار على العيش الواحد
ناجي مصطفى (الأنباء)
4 أغسطس 2016
خمس عشرة عاما مرت على الزيارة التاريخية لغبطة البطريرك الماروني السابق ما نصرالله بطرس صفير الى الجبل، كانها الامس. بكثير من الاصرار على اعادة وصل ما انقطع لدى ابناء الجبل بكليتهم دروزا ومسيحيين كانت تلك الزيارة، وكان ذلك الاستقبال العظيم في غير بلدة وقرية وصولا الى المختارة حيث مقر الزعامة الجنبلاطية واحد ابرز مراكز صناعة القرار في لبنان على مدى قرون طويلة من الزمن.
لم تكن الزيارة تعبيرا عن ضرورة سياسية املتها مناخات ما بعد الحرب الاهلية والتي افضت الى تسوية بين اللبنانيين في الطائف قضت بطي صفحة الماضي الاليم على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، انما جاءت الزيارة ترجمة لما يعتمل في وجدان ابناء الجبل عموما مسيحيين ودروزا، مقيمين او مهجرين او مهاجرين، من الشعور بالنقص والفراغ والوحشة نتيجة فقدان الاخر، فقدان الشريك والاخ والجار والصديق والعزيز، الذين تقاسم اباؤهم واجدادهم معا لقمة الخبز التي كانت دوما مغمسة بعرق الشقاء والتعب، انه الحنين الى تلك الايام الجميلة من العيش المشترك يوم كانت بيوت القرى، كل البيوت، تعمر بمواسم الخير ورائحة الخبز وبساطة الحياة وحلاوتها.
هو يوم تاريخي اذن، كونه شكل ابتداء درسا لابناء الجبل جميعهم، بأن الاستقواء بالخارج، اي خارج عدوا كان ام شقيقا، والاثنان كانا بالمناسبة ضالعين ومحرضين على ما حصل من اقتتال وفتنة، لا يمكن ان يبدل من قواعد اللعبة وترجيح كفة الصراع لمصلحة فريق دون اخر، اما الدرس الثاني المستفاد من تلك الحرب هو ان الاعتقاد الذي ساد عند البعض، من كلا الفريقين، بان ثمة رابحا وخاسرا، هو بالتاكيد اعتقاد خاطىء ومكلف ايضا، ذلك ان الفريقين خاسران في ان معا، اذ انهما خسرا نسيجا اجتماعيا متجانسا حيك بنول المحبة والالفة على امتداد قرون من الزمن، وفي لحظة واحدة لعب فيها الشيطان لعبته فاوقد فتيل الفتنة وجلس يتفرج على النار المستعرة بين الاهل والاحبة.
في زيارة البطريرك صفير الى المختارة اوائل آب 2001، تكريس بالملموس لوحدة ابناء الجبل وطي لصفحة سوداء من تاريخ هذه المنطقة الى غير رجعة، وكأن الدم الذي سال على الارض الواحدة ما هو الا مطهر غسل الضمائر والقلوب وفتح صفحة جديدة نقية مشرقة من العيش الواحد فوق الارض الواحدة، تماما كما عاش الاهل والاجداد على امتداد مئات من السنين.
اما وقد حصلت العودة الميمونة الى جميع القرى، خلافا لما يحاول البعض تصويره للاسف، بعد انجاز آخر ملف للمهجرين في بلدة بريح الصيف الماضي، فانه آن الاوان كي يتداعى ابناء الجبل جميعا، شخصيات وقوى واحزابا وقطاعات انتاجية وتربوية، وفي المقدمة منهم الاستاذ وليد جنبلاط بما له من ثقل وتأثير كبيرين في هذه المنطقة التي تمثل قلب الوطن، كي يجري العمل على تنمية المناطق الجبلية جميعها، لتعود القرى الدرزية والمسيحية على حد سواء تضج بالحركة والحياة من جديد، ولكي لا تبقى هذه القرى مقصدا لابنائها للراحة والاستجمام نهاية كل اسبوع وحسب، بل مكانا للانتاج والاستقرار، الانتاج الاقتصادي الذي يرسخ الانسان في ارضه من جهة، ومن جهة ثانية الانتاج المستمر والمستدام لصيغ من العيش الواحد قابلة للحياة، وهذا هو الاهم، في منطقة لطالما اتسم ابناؤها بانهم صناع سلام ومحبة ووئام وبانهم يد واحدة في مواجهة الشدائد والصعاب على مر التاريخ.
ان هذا المسار من الجهد المطلوب والمرتجى لترسيخ العودة والاستقرار والثبات في الارض يستوجب العمل على ايجاد خطة متكاملة يجري فيها استنفار جميع المؤسسات الرسمية اولا والاهلية ثانيا اضافة الى الهيئات الكنسية والروحية الدرزية، وكذلك الاقتصادية والتربوية والصحية والاجتماعية، لانتاج دورة حياة كاملة، تمكن ابناء الجبل عندها من الاستغناء عن المدينة، لا سيما اذا ما جرى توفير المرافق التعليمية والجامعية والاستشفائية اللائقة وفرص العمل الحقيقية والدائمة التي تغني ابناء الجبل جميعهم، دروزا ومسيحيين، عن النزوح القسري الى العاصمة والمدن الاخرى او الهجرة في اربع جهات الارض بحثا عن حياة حرة كريمة ولقمة عيش عزيزة وفرصة تعليم غير موجودة في قراهم.
ولعل زيارة البطريرك بشارة الراعي المرتقبة الى المختارة السبت لتدشين الكنيسة الخازنية التي اعاد ترميمها النائب وليد جنبلاط على نفقته، تشكل فرصة حقيقية للبحث في هذه المسائل الهامة التي من شانها تحصين العودة الى الجبل والتاسيس لمرحلة جديدة من حياة ابنائه، آخذا بالاعتبار كل الدروس المستخلصة والمستفادة من الحروب الاهلية ومآلاتها والتي تشكل علامات سوداء في سجل الذاكرة الجمعية للشعوب والتي يجب ان يحرص الجميع على ان تبقى نقية ناصعة دون اي شوائب او تشوهات.