«سنوات جميلة.. سنوات مجنونة» لمحمد شيا

عنوان الكتاب «سنوات جميلة… سنوات مجنونة» يوحي بمضمونه، إلاّ أنّك تظنّ أنه سيُحدّثُك عن أحداث الولادة أو الموت وقصص المخاض والنزاع الأخير، وفلسفة الحياة والموت، إلاّ أنّك تجدُ نفسَك أمام سردية مشوّقة تأخذك إلى حقبة زمنية معيّنة، لا بل حقبتين من الزمن، واحدة جميلة تشبه الحياة وأخرى مجنونة تشبه الموت، ولكلٍّ منهما قصصه المعبِّرة، منها ما هو خاصٌّ ومنها ما هو عام…

سردية محمد شيّا التي تروي «قصص الحياة والموت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين»، من خلال «شهادات شخصية»، هي إنتاجٌ أدبيٌّ وفكريٌّ واجتماعي ووطني، يجعلُك تعيشُ أحداثَ التاريخ لحظة بلحظة، وشيّا كاتب مفكِّر أديب وعالمِ اجتماع، يعرفُ كيف يضع مادته في الإطار الجغرافي والتاريخي، ويُتقنُ فنَّ التبسيطِ والتحليل واستخلاص العِبر، حين يجعل الخاصّ يكشفُ العامّ، ويجعلُ المكان لوحة بكلِّ إيحائياتها، بدءاً من القرية الجردية الهادئة فإلى المدينة العاصمة الصاخبة، وبتلك الإرادة الطيبة لابن بدغان وصوفر والجرد والجبل ولبنان والإنسانية محمد شيا، ولولا تلك القدرة المجلّية في التصوير والإبداع، بدءاً من حياة القرية الجبلية وروعتها ومعاناتها، ومن كفاح الأسرة وفضل الوالدين وحكمتهما، وصولاً إلى مشهدية العيش المشترك التي كانت غالبة في منقةط الجرد، على الأقلّ، دون أن ينسى تدوين انطباعه وفلسفة حياته في كل خاتمةٍ، كي لا يبقى السَّردُ مجرَّد نقلٍ للصورة وحسب، كمثل خاتمته عن العيش المشترك في بحمدون وجرد عاليه، فخوراً بانتمائه وأخوته إلى ثقافة المحبة، أو كمثل مقارنته اليومَ بالأمس، متحسِّراً على زمانٍ مضى إلى غير رجعة، «إلّا أننا لم نحفظه حين كان يجب حفظه، ولم ندرك ميزاته وقيمه وجماله على نحو صحيح، فذهب…».

ولعلَّ أهمَّ مشاهد هذا الكتاب، هو تلك الصفحاتُ التي تروي مسيرة تحصيل العلم، بما فيها من معاناة وتعب وإرهاق وإقدام وإصرار، من الوالدين الحكيمَين، خصوصاً في إنجازه أطروحته الجامعية عن فكر ميخائيل نعيمة وشهادة نعيمة به أثناء المناقشة وفي ما بعد «بأنه الإنسان الذي فهمه كما لم يفهمه سواه، «فأصبح كأنه شاركني في ما ألّفت»، وسرور كمال جنبلاط بإنجازه، وتأثّره هو بفكر كمال جنبلاط، حتى الثمالة.

تلك كانت سنوات جميلة، على صعوبتها، أعقبتها سنوات الحرب والجنون منذ العام 1975، وقد اختار منها بضعَ صورٍ، سوداءَ في غالبها، مشيراً إلى بشاعة الحرب ودهاء المخططين لها والمستفيدين منها، وهادفاً إلى أخذ العبرة منها أولاً وأخيراً.

في هذه الشهادات استعادةٌ لمرحلةٍ تاريخية من عمر لبنان والمنطقة، بدءاً من حرب السنتين ومجرياتها، والتي نجح د. محمد شيّا في تقييمها من خلال ما عاشه في تجربته الشخصية، وفي «حدود مشاركته الجزئية فيها»، تلك الحرب التي جاءت نتيجة المدّ العروبي اليساري المتصاعد الذي «بلغ قلب المناطق المسيحية»، واصطدامه بالتيار اليميني الطائفي، فدخل الطرفان في أتونها بخطابين متناقضين، خطاب التمسُّك بالنظام السياسي القائم والحياد في الصراع العربي – الإسرائيلي، وخطاب الإصلاح السياسي والخروج من النظام الطائفي إلى نظام سياسي أكثر حداثةً وديمقراطية وعلمنة، مستنتجاً أن الطرفين يتحمّلان مسؤولية «الانضمام إلى الحفل الدموي الذي كان قد جُهِّزَ لهما معاً». ولعلَّ أبلغ ما في رواية أحداث تلك الفترة ما راح يُطلقه د. شيّا من حِكَمٍ وخلاصات، كمثل قوله: «أخطاء الخصم ليست مبرّراً لكي أرتكب أنا الأخطاء»، «والهزائم لا تصنعها قوة الخصم فقط، بل كذلك أخطاؤنا وسوء تقديرنا»، تلك الأخطاء التي نسبها إلى السوريين والفلسطينيين والتي كانت من «الكبائر» التي أصابت العيش المشترك في الجبل، الذي هو القاعدة، وجعلتنا نُدركُ أنه «كلما ارتفعت وتيرة أي خطاب وعلا صوته واشتدَّ توتّره كلما غدونا أكثر حَذراً حياله، بل أكثر تشكيكاً بمقاصده وأغراضه الحقيقية».

يتألّم محمد شيّا عنّا وعن اللبنانيين جميعاً، عندما يتحدّث عن لبنان «المسكين» الذي يعيش «حالة حربٍ مستدامة»، وتتقدم فيه المصالح الشخصية والفئوية على المصلحة الوطنية، خصوصاً عندما يعود بك إلى حرب الجبل العام 1982، والتي حصلت «برعاية إسرائيلية كاملة»، كما يقول، عندما أوغرت صدور أبناء الجبل على بعضهم البعض، فأدخلت الميليشيات «اليمينية»، إلى قرى الشوف وعاليه خلف دباباتها، ممّا أدّى إلى انتفاضةٍ عارمة لأبناء الجبل، فهبُّوا للدفاع عن الأرض والعرض والفرض، وشقّوا طريق الكرامة بأيديهم، بما تعنيه تلك الطريق، باسمها ومسمَّاها، من اختصارٍ كافٍ لمعنى الصمود والمقاومة. يقول صديقُنا ذلك، لكنه يستدركُ مؤكِّداً أنّ الحرب لم تكن طائفية بامتياز، «فالمسيحي الذي رحّب بودٍّ بالإسرائيلي أمام أعيننا، غير المسيحي الذي قاتله في بحمدون وعيندارة وغيرهما»، معتبراً أنه «لم يكن للسواد الأعظم من الناس علاقة إرادية واعية بما كان يجري… بل كنّا جميعاً وقوداً وأدواتٍ لحربٍ مطلوبةٍ إقليمياً، وربما دولياً(…).

أمّا قصص القصف والمعاناة الكثيرة فلم يذكر سوى بعضٍ منها على سبيل المثال، لا الحصر، وهي مؤثّرة ومُوجعة، معتبراً أنها غيضٌ شخصي من فيضٍ يملأ ذاكرة معظم اللبنانيين ويدلُّ على حجم المأساة، وهي بالأساس مأساة «مفاهيم»، كما يقول، «فالبشر حين يدخلون الحروب إنّما يصيبون مفهوم الإنسان، الذي هو أشرف المخلوقات، يصيبونه ويصيبون غاية الله من خلقه في الصميم. الحرب تُفقد معظمَ الناس إنسانيتهم وضمائرهم، ناهيك عن عقولهم، فيفقدون بالتدرّج ملكة الخير فيهم، وتستفحل عندها غرائز الشر حتى الذروة. وهذا ما حصل بدءاً من العام 1982، حتى العام 1990، في فترة زمنية كافية لتجعل اللبنانيين يخوضون أبشع أنواع الحروب، فيعتقد كلّ واحدٍ منهم أنه الضحية وأنه المستهدف، فيما الجميع كانوا وقوداً لآلةٍ جهنمية أدارها محترفو الحروب القريبون والبعيدون.

في الفصل السادس، دروسٌ مستخلصة قاسية ونقدٌ، يتناول فيه الحالة الاقتصادية والاجتماعية في فترة الحرب الأهلية، والتي بالرغم من صعوبتها، ومن تورُّط الكبار فيها، من زعماء وأسياد ورجال دين، إلاّ أنها كان من الممكن أن تكون أسوأ وأبشع لولا أولئك الذين أسماهم «بطالاً من نوعٍ آخر»، وهم «الناس الطيّبون الذين صبروا وتعاضدوا وتعاونوا في الأيام الصعبة، وهؤلاء هم «الأبطال الحقيقيون»، ولكنهم «لا يُذكرون حين يجري التأريخ للحرب اللبنانية». وإذ يتطرق إلى أسباب تلك الحرب، الداخلية والخارجية، فإنه يذكر بأسى وحرقة دور بعض رجال الدين على الضفتين، والذين كان انخراطهم في الحرب عاملاً حاسماً في تفاقمها، وكأنهم باركوها دينياً، وهم غالباً ليسوا الممثلين الرسميين لطوائفهم، بينما كان يجب أن يركِّزوا على عدم إثارة العصبيات والغرائز، وعلى ردع الممارسات التي تخرج عن جوهر الرسالة الدينية، وعلى إشاعة المحبة بين الناس، وهذا هو دورهم في الأساس(…).

استنتاجات عدّة يصل إليها، كاستنتاجه هذا الذي يؤكد فيه أن الوطن يكون بخير إذا كان الجبلُ بخير، وكذلك إذا كان الجيش بخير، جيشاً وطنياً قوياً وللجميع، وإذا أدرك اللبنانيون أن تلك الحروب كانت حروبهم، ولا حاجة لهم للتخفيف عن أنفسهم بادّعاء أنها حرب الغرباء على أرضهم، فهم المسؤولون أولاً وآخراً، وعليهم أن يعالجوا أنفسهم بأنفسهم، وفق خارطة طريق وضعها بواقعية في الصفحتين 224 و225 من الكتاب.

في القسم الثالث، أخيراً، عرضٌ لمحطات من سيرة جامعية، في موقع التعليم والبحث العلمي، حيث غرامه الذي لا ينتهي، كما في موقعَي الإدارة والعمادة، حيث مواجهة الانقسام وتحديات الحرب والتوزيع الطائفي، بالإصرار على تطوير المناهج ورفض منطق تطييف الجامعة وتسييسها.

(*) د. سامي أبي المنى / المستقبل