هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

محمود الأحمدية

كان كل شيء في حياتهم… ابنهم ضناهمُ، ربّوه أحسن تربية وعلّموه في جامعة البوليتكنيك في باريس وأكمل شهاداته العليا في أميركا… أمه زميلة مهندسة ومن أعز الأصدقاء وأبوه طبيب صاحب ضمير ويعد بلسما لجراح الكثيرين…من عائلة صديقة من الذين اذا اغلقت الدنيا أمام ناظريك تلتجىء اليهم تتلمس المحبة والحنان والابتسامة في كل زاوية من زوايا بيتهم العتيق الرابض في قرية جميلة تحتضنه التلال الخضر ويسبح الغمام على ضفاف حجارته السمراءوتنطق الدرب بكل خطوة مشيناها وبكل ضحكة سمعت أصداءها البيوت المجاورة…فرح الحياة وفرح الصداقة وسموها وقيمتها وندرتها هذه الأيام…

وسافر الإبن إلى السعودية حاملاً شهاداته العليا، فبرز بسرعة مذهلة وارتفع وتألق وأدهش نجاحه السريع مَن يعرفون صغر سنه… واشترى سيارة من السيارات الفخمة السبور التي تختصر حبّه للحياة واستمرارية تربية بيتهم في قطف الأيام الجميلة في هذه الدنيا…

وفي اليوم الأول انتقل بها من الرياض إلى الدمام وكان الحادث الصدمة عندما اطاحت به شاحنة كبيرة اطلق سائقها جنونه وكان هذا المبدع الشاب ضحيته وضحية هوسه… وفارق الدنيا وكان الخبر الصاعق على الوالدة والوالد…

ووجدت نفسي أهرب منهم! لا استطيع الذهاب إليهم وأعزيهم ولا أستطيع أن أكتب إليهم ولو كلمة!! شعرت أنني عاجز عن المواجهة ولا أجرؤ على مقابلة العائلة المنكوبة… لم أجد الكلمات كي أقولها… وأنا أعرف كم يحبونه ويعبدون الأرض التي يمشي عليها ويحلفون باسمه ليلا نهاراً… كنت أعلم مقدار ما ضحوا من أجله وأحس بمقدار فجيعتهم ولوعتهم ومع ذلك لم أجد كلمة واحدة للعزاء… أحيانا يكون الصمت بلاغة وأحيانا تكون الدمعة الواحدة أقوى من قصيدة رثاء ! ولكن في هذه الفجيعة شعرت  بعجز عجيب وشعرت بخزي أعجب لأنني وبكل بساطة الدنيا لم أذهب إلى مأتم هذا الشاب، بل أقمت له المأتم في قلبي وعقلي وروحي وكياني! وأحسست بأن واجبي أن أخفي دموعي عن هذه العائلة، وأن أحبس كلماتي الحزينة عنهم… وسافرت بعدها ولمدة ثلاثة شهور…

وبعد عودتي وفي مناسبة مشتركة قابلت الأب والأم وعلى غير عادتي ولا تعجب عزيزي القارىء ونحن وبتواضع جمّ ابناء أصول وعادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وجدودن، لم أتلفظ بكلمة واحدة معهم في هذا الموضوع وتكلمنا في كل المواضيع ما عدا موضوع ابنهم… واتصور أنهم تعجبوا لأنني لم أذكر ابنهم الذين يعرفون أنني أعرفه جيداً… وقد يكون خطر ببالهم أنني لم أقرأ خبر نعيه في صفحات الوفيات ولم أقرأ مصرعه في صفحات الحوادث… ولكني تعمّدت ألا أتكلم عنه، وأنا أعلم أنهم يبكون وهم يتحدثون في كل موضوع إلا موضوعه،  وأنهم يندبوه وهم يبتسمون، أنهم ينزفون دما حزنا عليه وهم يحاولون المشاركة في الضحك…ولكني أحسست أن المواساة الحقيقية لمثل هذه العائلة المنكوبة ألا اقترب من الجرح الكبير المفتوح في قلبهم… تصورت أن أي كلمة سأقولها سوف تزيد من آلامهم وسوف تزيد من عذاباتهم, فإن خير ما نفعله في الجرح المفتوح ألا نقترب منه إلا إذا كنا أطباء! ولم أشعر وأنا بجوارهم أنني طبيب… وأحسست أن كل الكلمات التي عندي هي مراهم لا تخفف الألم ولكنها تزيده، وأن كل العبارات هي أدوية لا تضمد الجرح بل تزيده اتساعاً!

وبعد أن تركت العائلة المنكوبة وغادرت المناسبة، بدأت ألوم نفسي… ليتني قلت شيئاً… وفكرت أن أعود إليهم ولكني لم أجد ما أقوله لهم!

رب قارىء عزيز يطرح سؤالاً: يا أخي خبر الموت في هذا البلد أصبحنا نشربه مع فنجان القهوة وهم أصبحوا بالآلاف مالك تكرّس مقالة كاملة من أجل موضوع نصادفه كل يوم؟؟ بكل بساطة معك حق عزيزي القارىء.., أقولها بدون تردد ولكنني عن سابق عمد واصرار كتبت المقالة بعيداً عن مصائب السياسة واحتضاناً لموضوع اجتماعي في قلب الجرح ومن صميم تقاليدنا التي يجب أن نحافظ عليها في الحياة وفي الممات وأن لا تغلبنا عاطفتنا كما حدث معي وبعد مرور السنين اصبحت على يقين بأنني أخطأت وأسأت ولكن ما يواسيني هو شفافيتي بلا حدود وصدقي مع نفسي ومع الآخر

وضعت مقالتي كي تكون نموذجاً لتجربة يجب ألا تتكرر… أقولها بجرأة وبثقة مع اعتذاري بلا حدود… نعم أخطأت مرة واستفدت منها زلم ولن أعيدها ايماناً مني بالقيم والتقاليد الخالدة للصداقات الحقيقية… وبأن الواجب كان يقضي أن أكون كل لحظة كصديق بجانب هذه العائلة الصديقة مع تمنياتي بألا يصيب أحداً مكروهاً…

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!

الدلع السياسي … إن لم نقل أكثر!!