“معهد واشنطن”: خطة العمل المشتركة الشاملة ومعارك الفصائل الداخلية في إيران

“صادف الرابع عشر من تموز/يوليو الذكرى السنوية الأولى لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران المعروف بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة». وهذا المقال هو جزء من سلسلة من المراصد السياسية التي تقيّم الكيفية التي أثّر فيها الاتفاق على المصالح المختلفة للولايات المتحدة. وستصدر المقالات المقبلة في الأيام القليلة القادمة”.

ستشهد إيران في السنوات القليلة المقبلة انتخابات رئاسية مبهمة المعالم (من المقرّر مبدئياً إجراؤها في الربيع القادم) وتعيين خليفة محتمل لمرشدها الأعلى علي خامنئي (نظراً لسنه المتقدّم وبسبب بعض التقارير التي تشير إلى معاناته من مشاكل صحية). وستزيد هذه الترقّبات التي تلوح في الأفق من حدّة صراعات الفصائل في البلاد على المدى القريب وستعيد تشكيلها، علماً بأن الاتفاقية النووية لدول «مجموعة الخمسة زائد واحد» تلعب دوراً كبيراً في هذه العملية المضطربة.

أربع قضايا تثير قلقاً شديداً

تشكّل الانتقادات الداخلية للاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيراني المحرّك الرئيسي للتوتّر الإيراني الداخلي بشأن «خطة العمل المشتركة الشاملة»، وتندرج هذه الانتقادات لغاية الآن ضمن أربع فئات. واستهدفت انتقادات الفئة الأولى مضمون الاتفاقية والمسؤولين الغربيين الذين تفاوضوا مع إيران. وعلى وجه الخصوص لفت خامنئي النظر مراراً وتكراراً إلى شوائب الصفقة. وبخلاف الرئيس حسن روحاني، لا يعتبر خامنئي «خطة العمل المشتركة الشاملة» نصراً لإيران أو سيناريو فوز متبادل. وبدلاً من ذلك، يستمر في التأكيد على أن الولايات المتحدة ليست جديرة بالثقة. ففي خطاب ألقاه أمام مسؤولين حكوميين في 14حزيران/ يونيو صرّح أن “العدو” صبّ تركيزه على تدمير القدرات الإيرانية:

“من هو هذا العدو؟… العدو هو شبكة متعجرفة وشبكة صهيونية… وتترأس الشبكة المتعجرفة الولايات المتّحدة الأمريكية، وتتمثّل الشبكة الصهيونية بالنظام الصهيوني الباطل الذي بسط سيطرته على فلسطين المحتلّة… طبيعة أمريكا لم تتغيّر؛ طبيعة أمريكا لا تزال كما كانت عليه في عهد ريغان… يخطئ من يظن أننا نستطيع الاتفاق مع أمريكا وحلّ مشاكلنا… القضية الأساسية هي وجود الجمهورية الإسلامية، وهذا لا يمكن حلّه عبر المفاوضات أو ]تطبيع[ العلاقات… تضم «خطة العمل المشتركة الشاملة» نقاطاً إيجابية وسلبية، ومزايا وعيوب… ولطالما كنت قلقاً حيال هذه الشوائب… لم أتوقّف عن القول ]للمسؤولين الإيرانيين[ إن ]الأمريكيين[ لا يفون بوعودهم وينتهكون التزاماتهم ولا يتقيّدون ]بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة» [… كان من واجب الأطراف الأخرى رفع العقوبات؛ ولكن لم يرفعوها… أنا أحثّ المسؤولين على الحذر؛ لا ينبغي القول إن العقوبات قد رُفعت. لم تُحلّ مشكلة القيام بالمعاملات [المصرفية]. المصارف الكبرى لا تتعامل ]مع إيران[… وزارة الخزانة [الأمريكية] هي العقبة الرئيسية… التهديد الأمريكي ]للمصارف الدولية الكبرى[ هو العقبة الرئيسية”.

يشير القسم الأخير من تصريح خامنئي إلى النقطة الثانية التي تستهدفها انتقادات «خطة العمل المشتركة الشاملة» للبرنامج النووي الإيراني وهي: الفوائد الاقتصادية التي توقّعت إيران كسبها بعد توقيع الاتفاقية. فقد ادّعى مناصرو روحاني أنه في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، استفاد بعض الأفراد والأوساط السياسية النافذة من نظام العقوبات والسياسة النووية العدائية للحكومة وذلك على حساب المصالح الوطنية التي تكبّدت خسائر بالغة. وزعموا أيضاً أن «خطة العمل المشتركة الشاملة» ستغيّر هذا الوضع عبر الحدّ من تدخّل هذه الفصائل في الاقتصاد والسماح بتطبيع العلاقات الإيرانية مع الأسواق العالمية.

ويعترف اليوم مناصرو «خطة العمل المشتركة الشاملة» ومعارضوها على حدّ سواء أن فوائدها الاقتصادية كانت أقل من المتوقّع، ولكنهم يختلفون حول الأسباب. ويدّعي منتقدو الاتفاقية أن معسكر روحاني تعمّد المبالغة في الفوائد المحتملة من أجل المضي قدماً بجدول أعمال سياسته الداخلية والخارجية. أما مناصرو الرئيس فيقولون أن قوّات «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» وغيرها من الأوساط النافذة تتعمّد عرقلة الاتفاقيات التجارية الكبرى. ومنذ توقيع «خطة العمل المشتركة الشاملة»، فشلت إيران في توقيع أي عقود استثمارية مع شركات النفط والغاز الدولية. وكان رئيس لجنة مراجعة العقود التابعة لوزارة النفط، سيّد مهدي حسيني، قد صرّح لصحيفة “الشرق” [الإيرانية] في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أن كل شهر تأخير في توقيع عقود مماثلة يكلّف إيران من ثمانية إلى عشرة مليارات دولار.

وبالرغم من المبالغة في تصريح حسيني، من الواضح أن إيران خسرت مليارات الدولارات من العائدات المحتملة في الأشهر الستة الماضية بسبب غياب اتّفاقيات إنتاج النفط. ووفقاً لوكيل وزارة النفط للشؤون الدولية، أمير حسن زمان نيا، يترسّخ هذا الفشل في حقيقة أن “كل شيء كان مسيّساً”. فقد اعترضت قوّات «الحرس الثوري الإسلامي» وغيرها من الأطراف السياسية والاقتصادية الفاعلة القوية على كل مشروع عقد وبقيت تفاصيله سريّة. وفي 2 تموز/ يوليو، كشف خامنئي بنفسه أنه غير راضٍ عن المشاريع الأخيرة بقوله: “بعد تعديل مضمون العقود وتنقيحها وتصحيحها ست عشرة مرّة، أتوا إلى مكتبنا. أعلمهم مكتبنا أن هذا ليس كافياً لأنه من الضروري القيام بتصحيحات إضافية… لن تتم الموافقة على العقود قبل القيام بهذه التصحيحات”. وعبّر في الخطاب نفسه أيضاً عن عدم رضاه عن قرار الحكومة بشراء طائرات، في إشارة إلى الجدل الذي أُثير حول صفقات بوينغ وإيرباص الأخيرة.

تتعلّق الفئة الثالثة من الانتقادات بالعواقب السياسية والثقافية لـ «خطة العمل المشتركة الشاملة» للبرنامج النووي الإيراني. فقد أُصيب المعتدلون بخيبة أمل نتيجة غياب أي تحسّن على هذا المستوى. فقد تعهّد الرئيس ومناصروه أن يشكّل الاتفاق النووي المفتاح لحلّ المشاكل السياسية في الداخل وتعزيز المجتمع المدني والقوى المؤيدة للديمقراطية وتحسين وضع حقوق الإنسان وحريّة التعبير. ولكن هذه الوعود لم تتحقّق بعد. ولا يزال قادة “الحركة الخضراء” في إيران، وهي الجناح الاصلاحي الذي احتج على التزوير في انتخابات عام 2009، تحت الإقامة الجبرية. ويواجه إيرانيون من الشتات مخاطر أمنية تحول دون عودتهم إلى الوطن. وازداد الضغط الداخلي على الناشطين في مجال الحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان.

وفي المقابل، عبّر خامنئي عن قلقه العميق من “تسلل” “العدو” سياسياً وثقافياً نتيجة «خطة العمل المشتركة الشاملة» للبرنامج النووي الإيراني. فإلى جانب التحذيرات العلنية التي أطلقها بشأن هذه التهديدات، نصح أيضاً السلطات بتشديد الضغط على الناشطين ومراقبة الفضاء الإلكتروني بإحكام. وخشيت حكومة روحاني أن تضعف أمام جهاز المرشد الأعلى إلى درجة أنها لعبت دوراً أساسياً في تطبيق جدول الأعمال القمعي، كما يتّضح من القيود الأخيرة التي فرضتها على الفن والمنتجات الثقافية الأخرى، فضلاً عن انتهاكات حرية الدين (على سبيل المثال، بالرغم من الشريحة السكانية السنيّة التي يزيد عدد أفرادها عن مليون نسمة في طهران، لا تحتوي المدينة على مساجد سنيّة بل تضمّ عدداً قليلاً من دور العبادة السنية، وقد اضطر واحد على الإقلّ من أماكن التجمّع هذه إلى الإغلاق مؤخّراً).

وتتعلّق الفئة الرابعة من انتقادات «خطة العمل المشتركة الشاملة» للبرنامج النووي الإيراني بأثرها على مكانة إيران الإقليمية. ومنذ توقيع الاتفاق، صعّد خامنئي وقوّات «الحرس الثوري الإسلامي» نزعاتهم التدخّلية في سوريا والعراق واليمن وغيرها. وكما كان متوقّعاً، أدّى ذلك إلى تعرّض إيران لمزيد من الضغوط من الدول الإقليمية لم تشهد لها مثيلاً. وتدهورت العلاقات مع المملكة العربية السعودية بشكل خاص لدرجة حظّرت فيها إيران مواطنيها من السفر إلى المملكة لأداء مناسك الحجّ في أيلول/ سبتمبر – وهذا يحدث للمرّة الأولى منذ ربع قرن. وفي غضون ذلك، شنّ السعوديون حملة لإقناع البلدان العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وإعلان «حزب الله» اللبناني، ممثّلها الإقليمي الرئيسي، منظمة إرهابية. وصوّر منتقدو «خطة العمل المشتركة الشاملة» في إيران هذه الجهود كدليل على أن الاتفاق النووي قد كثّف من حدة التوتّرات بين طهران والدول الإقليمية بدلاً من أن يخففها، وتوانوا عن ذكر تزايد ميل نظامهم إلى التدخّل منذ توقيع الاتفاق. ومن وجهة نظرهم، تشكّل هذه التوترات “دليلاً” إضافياً على وجود “مؤامرة” أمريكية تُحاك ضد الجمهورية الإسلامية.

التحديات على المدى القريب

لا يسمح وضع روحاني الضعيف بالدفاع عن «خطة العمل المشتركة الشاملة» للبرنامج النووي الإيراني ضدّ منتقديها. وبالرغم من مشادّة روحاني الكلامية مع خامنئي، لا يتمتع الرئيس بأي قدرات خاصّة لتحدّي المرشد الأعلى أو تجنّب تطبيق سياساته الداخلية والإقليمية والدولية. وحتى لو فاز روحاني في الانتخابات المقبلة، يظهر تاريخ الرؤساء المنتخبين لولاية ثانية في الجمهورية الإسلامية أن روحاني سيواجه صعوبة أكبر في تحمّل الضغوط المشلّة التي تفرضها عليه القوى غير المنتخبة والمؤسسات داخل النظام.

وفي الوقت نفسه، قد يتغيّر المشهد السياسي في إيران بدرجة كبيرة إذا توفّي خامنئي في وقت قريب. وقد اقتُرحت بالفعل أسماء متعدّدة في الأوساط السياسية الإيرانية لخلافته كمرشحين محتملين، ولكن برزت من بينها ثلاثة أسماء: رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني والنجل الثاني للمرشد الأعلى مجتبى خامنئي ورئيس السلطة القضائية الأسبق محمود الهاشمي الشاهرودي. وتشير السجلات السياسية لجميع الرجال الثلاثة إلى تأييدهم لفكر خامنئي المعادي للغرب والمناهض للديمقراطية. وبالرغم من ذلك، ستعتمد معادلة القوّة في حقبة ما بعد الخلافة إلى حدّ كبير على خامنئي وكيف سيهئ المشهد السياسي ويعد النظام لرحيله. وتظهر تعيينات خامنئي الأخيرة – ومن ضمنها تقليد إبراهيم رئيسي منصب مدير منظّمة آستان قدس رضوي (يقال إنها أغنى مؤسسة اقتصادية في إيران) وتعيين اللواء من «الحرس الثوري الإسلامي» محمد باقري رئيساً لهيئة الأركان العامة للقوّات المسلّحة – بأنه يقلّد موالين شباب مناصب حسّاسة ليحافظ على مسار الجمهورية الإسلامية المطابق لتوجّهه الأيديولوجي المفضّل، قبل رحيله وبعده.