اللوحة الجميلة والرصاصات الثلاث

محمود الاحمدية

تعاهدنا منذ ثلاثة أسابيع على زيارة مزار مار شربل وعنايا… اثنان وخمسون لبنانياً مهاجراً إلى البرازيل، جاؤوا لقضاء الصيف في ربوع الوطن وكانت فرحة اللقاءات معهم لا تعادلها فرحة،والكل كان ينتظر نقطة انطلاقنا من عاليه عبر مدينة جونيه ثم مدينة جبيل ثم المزار وبعدها عنايا… الساعة التاسعة والنصف صباح نهار الأحد10/7/ 2016 اصطدمنا بعجقة سير غير عادية بعد نفق نهر الكلب وكانت نصف ساعة دهرية الجميع على أعصابهم لاننا رأينا ومن بعيد تجمعاً كبيراً للناس على طريق الأتوستراد العام وتحول فرح المشاهدة شمالاً البحر ويميناً الطريق الصاعدة نحو حاريصا إلى عيون مشدودة إلى الجمع وماذا يجري والسير المتوقف والقلق المشحون بكل الشجن والعاطفة الصادقة… وبدأ السير وببطىء شديد وبعد نصف ساعة من التوقف حتى وصلنا إلى مكان الحادث: سيارتان فقدتا الهيكل ومرصوصتان بطريقة تساوي مستوى أرض الأوتوستراد والمنظر الذي لن أنساه ولن ينساه المهاجرون: ثلاثة جثث يلفونها بالأكفان ويتعاون الجميع لتخليص الجرحى من قلب الحديد الممزق شر تمزيق… وتهادى البولمان مع السير البطيء وتحول الفرح إلى حزن نابع من صميم القلب…

نعم الحوادث موجودة في كل أنحاء الدنيا ولكن غير الموجود هو هذه الفوضى المرعبة بكل المقاييس: سيارة تأخذ الأوتوستراد وسيارة أخرى بسرعة صاروخية تقتحم السيارة الأولى وتوقع ثلاثة قتلى وجريحين… وكان بجانبي صديق من المهاجرين قال لي حرفياً: عشرون يوماً نعدها بالساعات حتى نلتقي ونمضي نهاراً جميلاً في وطننا الأصلي لكي ننعم بما خصه الله من سمفونية جمال وإبداع… لوحة فنية تسبح الخالق عز وجل وكنا قد وصلنا إلى خليج جونيه فقال لي: هذا المنظر ترى مثله فقط في خليج الريو دي جينيرو ونحن بحاجة إلى سفر بالطائرة أربعة ساعات حتى نراه… خليج ساحر ينده الجمال في كل زوايا الدنيا يحولوه بالفوضى إلى لوحة جميلة ملطخة بدماء الأبرياء وبالفوضى التي تضرب كل المجالات وتابع صديقي: نسمع بانقطاع الكهرباء وبانقطاع الماء وبانتشار الفساد وعندنا في البرازيل الفساد نفسه ولكن أبسط حقوق الإنسان موجودة, هناك احترام للإنسان كإنسان… والمرعب بما لا يقاس تكرار هذه الحوادث بشكل شبه يومي… أنا لا أفهم سيارة مجنونة تسابق الريح في صباح أحد جميل وتجتاح سيارة أخرى وأرواح.

حادث سير

أين المحاسبة وأين المراقبة وأين القوى الرسمية المسؤولة عن سلامة الطرقات وتابع: عندنا في البرازيل لو عملت حادثاً منفرداً مع أحد أعمدة الكهرباء وإذا تهشمت سيارتك أو ظهر عليها آثار حادث فالشرطة لا تسمح لك ارتياد الأوتوسترادات قبل أن تقدم لأقرب مركز للشرطة وتشرح سبب المنظر المشوه لسيارتك لأنهم يشكون في انك اسأت إلى مطلق أي مكان سواء كان حكومياً أو خاصاً بالآخرين وقد شوهته وتركت أضراراً فيه… وتابع: منظر سائق أو سائقة يمسكان بالخليوي وهم في وضع قيادة السيارة، جزاؤه راتبك كاملاً مهما بلغ هذا الراتب وليس فقط رقم معين عليك أن تدفعه إلا إذا لم تكن موظفاً فهناك سقوف معينة لمبالغ عليك أن تدفعها… وحتى لا نسيء أكثر إلى بهجة المشوار وإلى لوحة لبنان الجميل وعند انتهاء الرحلة كان لقاؤنا في مطعم رائع في عنايا يسع لأكثر من 1500 شخص، واصداء الموسيقى ومنظر الناس على الطاولات كموج البحر و(البيست) المخصص للرقص كيوم الحشر والمطرب يردد الأغاني بحماس وبابداع وانفرجت الأسارير لجميع رفاق (البولمان) البرازيليون اللبنانيون الأصل ومع العرق اللبناني البلدي شرقط الفرح أكثر وأكثر ونسينا الدنيا وما فيها وقال لي صديقي مشدوهاً: هذا البلد عصفورية كبرى ولكنها مسكونة بمجانين يعرفون كيف يعيشون ويفرحون…

والشيء الوحيد الذي ينقصكم ان تبنوا بين كل مطعم ومطعم مطعم ثالث…

سمعت بمرارة ولم أرد نزع جو الرحلة كلها ولم أجد تبريراً للذين يجلسون في ابراجهم العالية ولا يتحسسون ولو للحظة بمأساة شعب…

مشوارنا كان لوحة ابداعية جميلة صبغتها ثلاثة اكفان كل كفن منها يجسد مطرقة تدق ضمير المسؤولين ورصاصة حارقة في جسد الوطن.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة