ما قبل «البريكست» وما بعده؟

أسعد حيدر (المستقبل)

الممانعون وجدوا في انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في الذكرى المئوية لوعد بلفور، ثأراً للتاريخ من التاريخ. تفكك بريطانيا، نتيجة حتمية، لـ»البريكست«. لا شيء يضاهي تفكك المشرق العربي، سوى تفكك الامبراطورية التي أطاحت كل أحلام وطموحات وحق العرب في الوحدة والحرية والقوة. هناك جزء من هذه المعادلة حق. أما الجزء الثاني المتعلق بـ»البريكست« فإنه مجانب لحركة التاريخ، وتأكيد كامل لعجز مترسخ في حصر كل المسارات في تهمة «المؤامرة» الخارجية التي لا حول ولا قوة أمامها سوى الانتظار على قارعة التاريخ لضربها أو الثأر منها.

أطرف من الممانعين، «أساتذتهم» في طهران. الجنرال مسعود جزائري نائب رئيس الأركان في الجيش الإيراني، ذهب بعيداً في اقتراع أغلبية البريطانيين للانفصال عن الاتحاد الأوروبي بأنه «يظهر حالة الاعتراض الشعبي على السياسات الأميركية». ببساطة اختصر الجنرال هذا «الزلزال» بالمواجهة ضدّ الولايات المتحدة. عجزه وعجز كل القوى الإيرانية التي ما زالت متعلقة في «خطابها الثوري» بشعار «الموت لأميركا» في وقت تعقد فيه صفقة المئة طائرة بوينغ، يجعلهم يتعلقون بهكذا اختصار لمعركة، مهما كانت قاسية تبقى معركة ديموقراطية لا تعيشها كل المجتمعات التي يحكمها حاكم مطلق منذ ربع قرن. أكثر من ذلك ذهاب بعض المعتدلين في إيران للقول: «إنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فرصة تاريخية يجب اقتناصها». لا يشرح أبو طالبي كيفية اقتناص إيران هذه الفرصة سوى بالقول انها «خطوة تؤدي إلى مزيد من الأمن والرخاء والاقتدار» مع أن كل المؤشرات تؤكد أن بريطانيا ومعها الأسواق الدولية ستشهد فترة طويلة من الضعف وعدم الاستقرار.

هناك الكثير للحديث عن العجز العربي في مواجهة هذا العجز. يكفي أن البريطانيين يغيرون التاريخ في أوروبا وحتى العالم، عبر صناديق الاقتراع، في حين يستمر الآخرون في ممارسة أبشع أنواع السلطة على شعوبهم، وليبقوا في مواقعهم الى الأبد. أوضح الصور الفاقعة لذلك، بشار الأسد الذي ورث الرئاسة ويستمر فيها فوق مئات الآلاف من القتلى والجرحى في سوريا «الشهيدة«.

من المؤكد أن ما بعد «زلزال» البريكست، غير ما قبله. ذلك أن خسارة أكبر أعضاء الاتحاد الأوروبي خلقت «جرحاً عميقاً في جسد أوروبا. مهمة أوروبا خصوصاً الدول المؤسسة فيها و»محركها» الفرنسي الألماني، «منع تفشي الداء البريطاني». توجد أحزاب أوروبية تنادي بالانفصال، وقد وجدت الآن «فرصة تاريخية» لخوض معركتين في واحدة؛ الفوز بالسلطة، والعمل على الانفصال. في فرنسا هناك «الجبهة الوطنية« اليمينية المتطرفة بزعامة ماري لوبن، وفي هولندا «حزب الحرية« وفي ايطاليا «جامعة الشمال». أكثر ما يخيف الخائفين من إمكانية انهيار «أحجار الدومينو« الأوروبية أن خطاب الانفصاليين يقوم في معظمه على حجج مرشحة لتصاعد منسوبها وليس في انخفاضه فتجفيفه:

[ التصعيد في الخطاب السياسي لإلحاق الهزيمة بالنظام الليبرالي من أوروبا وصولاً إلى الولايات المتحدة، حيث صعد دونالد ترامب من القعر إلى القمة بسرعة صاروخية.

[ تنمية الخوف من اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وحصر مشكلتهم في نشر «المغتصبين» الذين يهددون المجتمعات الأوروبية.

[ «ان أوروبا الواحدة حوّلت الدول الصغيرة إلى مستعمرات تنوء تحت وطأة سندان الديون وليس لها أي مستقبل«.

الجنرال ديغول لم يحب بريطانيا يوماً، وهو لم يكن يريد أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، لأنه كان يرى دائماً أنها ستكون «رأس جسر» تعبر عليه الولايات المتحدة إلى داخل أوروبا لتتحكم بها. في النهاية قَبِلَ على مضض انضمامها على أمل ان يغيّر الزمن وايجابيات الاتحاد الأوروبي التوجه البريطاني. بعد «زلزال» بريكست ستكون بريطانيا أو انكلترا بعد تفسخها إلى جزء من القرار الأميركي، وستكون أكثر فأكثر بحاجة إليها. مَن يأمل إضعاف الولايات المتحدة الأميركية عليه أن يتابع نمو القوّة الأميركية، وضعفاً أوروبياً ملحوظاً. بهذا فإن الطامحين لإضعاف واشنطن قد خسروا قبل أن يحولوا حماستهم الخطابية الى مواجهة ميدانية.

ارتدادات «زلزال» البريكسات ستكون عديدة وقوية. أبرز ارتداداتها قد تكون في تغيير واسع في النظام الدولي يعادل دخول العالم عصر «العولمة»، فهل نعمل على التعامل مع هذا التغيير أم كالعادة سنصرخ إنها «المؤامرة»؟!