شرح الإقطاع

سمير عطاالله (النهار)

حدثت في القرون الأربعة، أو الخمسة الأخيرة، متغيرات كثيرة في الرواية والرسم والموسيقى والمسرح والشعر والتأريخ وباقي الفنون. ولم يعد هناك أي معنى، أو أهمية، للكثير جداً من الآثار الأدبية، أو المطالعات الفكرية. وحتى تلك التيارات التي غيّرت مسار الشعوب في القرن العشرين، كالماركسية، اصبحت شيئاً من الماضي لا يعوّل عليه إلا في انتماءات محدودة بالمقارنة مع عاميّات الدول والأمم في الماضي.

في المقابل، لم يطرأ تغيير، مهما كان طفيفاً، على علوم نيوتن وغاليليو. وأعلن أخيراً أن نظرية النسبية التي تركها اينشتاين اثبتت المزيد من صحتها وأهميتها. وقد اخترع الإنسان آلة عجيبة للحساب، لكنه لم يُضف رقماً جديداً. تغير ايقاع كل شيء حتى المناخ في الطبيعة، وتضاعف عدد الناس في هذه المسكونة، واكتشف الإنسان في متاهات هذا الكوكب عوالم جديدة وقارات جديدة، ووصل إلى اعالي وأقاصي اليابسة والبحار، وظل شيء واحد لا يتغير منذ أن أضاف الهنود علم الصفر إلى الأرقام التسعة، والبعض يقول إن العرب هم الذين اخترعوا هذه الدائرة اللامتناهية ولم ينقلوه عن الجارة الهندية عبر “بحر العرب”.
المصارف تقوم على علم واحد هو علم الأرقام. والخزانة المالية، رابحة لم خاسرة، هي رقم غير قابل للتفسير أو للتأويل. وهذا الرقم اللعين، والكافر أحياناً، هو الذي يحدد حالة الأمم والشعوب، مثل مقياس الضغط، أو أي مقياس صحي آخر. الأرقام، ومن خلالها النسبة، هي التي تحدد مستويات البطالة والازدهار والفقر والنمو والتخلف والتقهقر والانتاج وغير ذلك من طبيعة حالنا واحوالنا في سياق الأمم.
المسألة المصرفية في لبنان لا يمكن اخضاعها لأي عامل خارج على مكوّناتها. لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في حسابات الحاضر والمستقبل. تسلم حاكمية المصرف المركزي في الماضي رجال ضمانات خُلقية، يجمعون اليها احياناً، الخبرة العلمية، أمثال الشيخ ميشال الخوري، أو الرئيس الياس سركيس. وفي ذروة الفلتان الأهلي، تحوّل الدكتور ادمون نعيم من حاكم إلى حارس، ينام في مبنى المصرف، ويأكل هناك، ويخبىء مفاتيح الخزنة تحت وسادته. غير أن الكفاءة المصرفية المجردة الأولى التي عرفها لبنان كانت رياض سلامة. جاء مع عودة البلد من غابة الحرب، وأخذ يبني بعيداً من الفوضى المستمرة في كل مكان، نظاماً نقدياً تبين أنه أهم من جميع الأنظمة الأخرى التي تقوم عليها الدولة. وفيما مضى لبنان في الغرق والتعثر والجمود، كان النظام المصرفي، على نحو سحري لا يفهمه العاديون أمثالنا، يمضي في الترقي والازدهار. وفيما ساءت سمعة لبنان كدولة فاسدة، وسياسيين فاسقين، وانهارت معالم البقاء ومظاهر الاستمرار، وتردَّت أوضاع الحكم، وخطفت السياسة والفراغ والعُند والغلوّ واللامبالاة، رأس الدولة، بقيت دولة رياض سلامة على حالها ومنوالها، وكأنها تعيش وتعمل في بلد آخر ودنيا أخرى، خارج هذه الحدود السائبة.
الأزمة الحالية بين الحاكمية و”حزب الله” هي الامتحان الأول للفريقين. كلاهما متضرر، ربما بالتساوي، من قانون دولي لا علاقة له به، اصداراً أو تعديلاً أو تجنباً. الحزب يعتبر أن قرار العقوبات الأميركي يتقصده وحده، كما يتقصّد ما يسمى بيئته الحاضنة. والحاكم يعتبر أنه مسؤول عن النظام برمّته وسلامة المصارف بأجمعها، وليس عن جزء منها، بصرف النظر عن هوية هذا الجزء ومن يَطال.
في أي حالة عادية، يجب أن يكون الحاكم هو المرجع. ولكن في حالات القرارات الدولية، كالعقوبات أو قرارات مجلس الأمن وسواها من الخطوات الملزمة، ليس للحاكمية سوى صلاحية التنفيذ، وإلا فالبديل الآخر هو الخروج، ومعها لبنان، من النظام المصرفي العالمي الذي نعرف جميعاً أنه خاضع للسلطة النقدية الأميركية، التي لا تزال حتى الآن، هي سلطة العالم أجمع. حتى دولة في أهمية روسيا وغناها الطبيعي وثرواتها البشرية، رأت وحدتها النقدية تهوي واقتصادها يتردّى بسبب العقوبات نفسها. وقد استطاعت روسيا أن تتحدى أميركا في سوريا وأوروبا في أوكرانيا على الصعيد العسكري. غير أن التحدي المالي بين الفريقين كان مختلفاً جداً، وبدت روسيا الفريق الضعيف، أو غير القادر على الاعتراض. ولا شك في أن عقوبات لبنان تطال دوائر إنسانية كالمستشفيات وغيرها، وهي الناحية الأكثر قسوة في الموضوع، غير أن سمة السياسة العقابية لا تتغير. ففي ليبيا والعراق، خلال الحصار الدولي اثناء نظام القذافي وصدام حسين، لم تتوقف المحظورات عند الأدوية والطبابة وسواها من المناحي الإنسانية.
المواجهة بين “حزب الله” والغرب يجب ألا تتحول إلى مواجهة بين اللبنانيين، وألاّ تؤدي إلى المزيد من الخراب في بلد ومتهالك الاقتصاد، متداعي الاركان الوطنية، وعاجز عن البحث عن رأس لجمهوريته القائمة منذ نحو قرن. تلك هي مأساة الأرقام. ففي السياسة مثلاً، اتخذت الخارجية اللبنانية مواقف خارجة على الاجماع اللبناني والعربي معاً. وفي الداخل يتحمل البلد، ولو في صعوبة بالغة، تعطيل الانتخابات الرئاسية وتحويلها إلى مسخرة تاريخية، من غير أن يعرّض ذلك كيانه للاهتزاز. فهو كيان متصدّع منذ زمن طويل. وهو لا يتمتع بالقوة، ولكن بحصانة الحجر الصحي. لذلك تستمر المؤسسات المهترئة في العمل، وتمضي الحكومة في ادارة ما تستطيع ادارته من صرف وتصريف. وما من سابقة في أي مكان للحالة الموصوفة التي نحن فيها. لا شيء في مكانه، وحكم المستقيل مثل حكم رافض الاستقالة. وعرّاب الدستور وحكيمه جالس في عزلته النقية يقرأ مزاميره على أهل الماضي ودروس التاريخ. والذين يتمتعون بشروحات الرئيس حسين الحسيني واطلالاته الحاملة الكثير من البَرَكة في هذا الشهر المبارك، يطيب لهم، ولو من قبيل الذكرى، أن يتذكروا أن الدول تحكمها الدساتير. والتوافقات والرؤية المنطقية المتجانسة، نحو المشاكل والحلول وباقي القضايا الوطنية الجماعية.
كان يمكن رئيس الجمهورية أن يلعب دور الحَكَم في مثل هذه الحالات العدمية وغَيبوبات الشعور الوطني في حدوده الدُنيا. لكن هذا الحَكَم تحوَّل هو ايضاً إلى موضع نزاع عنفي بارد – والحمد لله. وكلما اشتدّ ثقل الفراغ على صدور الناس، وعوا عمق الحاجة المصيرية إلى حَكَم يتّسم بالوعي والعدالة، ويتذكرون قول الإمام علي “أن آلة الرياسة سعة الصدر”، وتالياً، احتضان اجنحة الرعية واحتواء مناحي الرعايا. والدول القائمة على التشعّب والمفارقات والمذاهب، لا يقيم بها إلا رجل خَبِرَتهُ سياسات الصفح والترفع والابتعاد عن مغريات الذات وطموحاتها، وجموحها الذي غالباً ما أدّى بالبلدان والأمم إلى خراب لا عودة منه.
تجنبتً الكتابة في مسألة الرئاسة إلا قليلاً، لئلا انضم إلى الفِرق شبه الرسمية والرسمية والعادية، في تحويل القضية الأولى إلى مسخرة أولى. يسوؤنا جداً أن يَغرق اصحاب المقامات غير العادية في تكرار الكلام الأقل من عادي. الحجر مكانه قنطار، يقول الفلاحون. وذو المقام يجب أن يحفظ مقامه اولاً، وألا يتعرض لما تعرض له المكثرون من ذوي الأقوال. والأكثر تراجيدية في هذا الباب هو أن أحداً لم يعرف كيف يرتقي إلى التعامل مع قضية الجمهورية. لا المرشحون ولا المؤيدون ولا المعارضون. تعاملنا معها جميعاً كأنها كرنفال بيتي أو مهرجان حزبي أو قرار بسيط نتخذه ونخرجه من جيوبنا عند الحاجة. غريب أن أحداً لم يَعِ مدارك المحنة الكبرى التي نحن فيها، وظَنَّنا أنها مجرد جولة فولكلورية أخرى، تُرفع فيها البيانات وتُلقى الخطب وتُعدّ في الزوايا الزغاريد والبواريد.
إذ نتطلع اليوم إلى أكداس ما قيل في العامين الماضيين، ينتابنا حزن وندم وأسى. قضية كبرى والعاب صغيرة وترديدات مثل طقاطيق القرى في الافراح. أي علاقة الدفّاف بالعرس. فلا دور له ولا مكان بعد انتهاء الزمر. وكان أحرى بذوي المقامات ألا يلقوا كلامهم على القارعة، فالكلمة التي لا وقع لها مثل الردة التي يصبح تكرارها رتيباً ومملاً.
في هذه الحرب على الاقطاع، كان أجدر بالمحاربين أن يدركوا أن الرئاسة أيضاً، بل خصوصاً، ليست اقطاعاً ولا اقتطاعاً. كما كان أحرى أن يعرفوا معنى الاقطاع، لأنه لم يعد مرابع ومرابعجية واطياناً وفلاحين وسَخَرة. فالسخرة السياسية اكثر فظاعة بكثير. الاقطاعي الجديد يحتكر ولا يقاسم، ولا يترك للاتباع سوى لذة الهتاف. ومن كان ضد الاقطاع القديم، لا يمكن أن يكون ضد الاقطاع الجديد. فالشروال وربطة العنق واحد في هذه الحال. ومحاربة الاقطاع تعني التزام مجموعة من القيم والأصول والسلوكيات الإنسانية والأخلاقية غير اللفظية. وهذه كلها متفق عليها ومعروفة لدى البشر، وليست مخبأة في حوارات افلاطون أو المدينة الفاضلة.
أعادتنا المسخرة التي احاطت بالرئاسة إلى ذكريات الاقطاع الذي ساد في القرون الوسطى، الاقطاع الطاغي الفارض الذي لا يُناقش ولا يُحاور ولا يحترم رأياً ولا يداري وضعاً ولا يعنيه وطن، أو دولة، أو أحد. فإذا كان الخيار املاءً، كيف يكون القرار؟.
هزمتنا معركة الرئاسة لأنها لم تبدأ. أفرغنا الجمهورية من معناها وجعلنا الاقتراع فرضاً اقطاعياً قاطعاً. نحن، البلد الذي انسحب فؤاد شهاب الاقطاعي من الرئاسة وهو أقوى مرشح وطني واقليمي ودولي في تاريخ لبنان. كما ترك الرئاسة الطارئة بعد ثلاثة ايام وسلمها للرئيس الشرعي، هكذا ترك الرئاسة الدائمة وتركها لمن لا يتمتع بأي قوة على الاطلاق. لكن فؤاد شهاب كان يدرك أن الناس لا تطيق القهر عندما رأى تجربة بشارة الخوري. وبعدها تجربة كميل شمعون. ولم يعش ليرى ماذا حدث في نهاية التجديد لأميل لحود.
تواضع فؤاد شهاب أمام مصير الدولة وانسحب بأربعة أسطر، وترك في التاريخ مكاناً لا يعرفه أحد سواه. لا. لسنا نأمل بشيء، أو بأحد. فإذا كان الخيار املاءً، كيف يكون القرار؟.