برسم وليد جنبلاط: يقظة صناديق طرابلس

د. قصي الحسين

استيقظت فجأة صناديق طرابلس الانتخابية. فتحت عاصمة الشمال، صباح يوم الانتخابات شبابيكها على كل الصناديق. ذلك أن عاصمة الشمال كمدينة شهدت كافة الحروب الأهلية، مثل العاصمة بيروت. وشهد ريفها المجاور: الكورة والبترون وزغرتا وزغرتا الزاوية وحدث الجبة و بشري، بالإضافة إلى الميناء والبداوي والقلمون وعكار والمنية والضنية، كل سنوات الحرب، وذاق مرّها، لا بل أمرها أيضاً. ولحق بالمدينة وريفها التدمير والتهجير، مثل بيروت والجبل والجنوب، غير أنها لم تشهد فتح أي صندوق لها، لا للتعمير ولا للتهجير ولا للمهجرين، بخلاف ما عرف الطرابلسيون عن مجلس الانماء والإعمار، وعن صندوق المهجرين في الجبل وعن صندوق الجنوب.

وعاصمة الشمال كمدينة، شهدت حروب الأسواق، وحروب المحاور، وحروب الاقاليم. وكان شهداؤها يملؤن الصناديق إلى مقابر الشهداء والمدافن والترب. وكانت دمعتها تسيل على خدها لفقد شبابها الناضر. وهم بمعظمهم من فقراء الأحياء الشعبية المكتظة، حيث الشهيد منهم كان يعيل العشرة والعشرين من أفراد عائلته. ولم تعرف لشهدائها صناديق ولا لعوائل الشهداء صناديق. ولا حتى صناديق لمشوهي الحروب، ولا للمنكوبين والمعطلين والمقعدين.

وعاصمة الشمال التي ذاقت بيوتها المستورة جميع جولات الحرب منذ خلية خليعها أحمد القدور في الأسواق في العام 1972 وحتى خلايا أحمد بن لادن والبغدادي وداعش والنصرة اليوم/ العام 2016، استبدلت هذه البيوت القديمة المستورة والمتآكلة والمتهالكة والتي تعرضت للفيضانات والنيران والزلازل وحروب الشوارع والأزقة، ببيوت الصفيح والتنك والتخاشيب. وليس بعيداً عنها بعل التنك وبعل الدراويش وتخاشيب جبل النار وتخاشيب وبيوت التنك في أحياء محلة الخناق وضهر المغر، بل وعلب التنك وصناديقها المصفحة والمخيشة التي تحشر فيها العائلات المستورة، والتي لا يقل عدد أفراد العائلة الواحدة فيها عن العشرة والخمسة عشر والعشرين. وهي لم تعرف صناديق الانقاذ ولا صناديق التنمية ولا صناديق الدعم ولا صناديق الأخوة العربية والإسلامية ولا صناديق الأخطار واللجوء والإيواء للأمم المتحدة والتنمية الأميركية والاتحاد الأوروبي أو الصيني أو الياباني أو السيريلانكي أو البنغلادشي. لم لا. بل عرفت فقط طيلة نصف قرن وأكثر من “الاستقلال” و”الحرية” والفوضى والموت البطيء المسكوت عنه، صناديق الانتخابات فقط لا غير.

Tripoli

وتعرضت أسواق طرابلس للهدم بفعل النكبات الطبيعية والعسكرية وكذلك تعرضت مبانيها الأثرية القديمة المتآكلة والمهملة، بفعل الاعتداء عليها. وجرفت السراي العثماني. وجرف مسرح الانجا. وتساقطت أعمدة الدعم لمقهى التل العليا. وتآكلت ساحات الجامع المنصوري الكبير وقبة جامع المعلق الأثرية وجامع التوبة وتهدم شارع الكنائس وتهدمت الديرة ومدارس الفرير والراهبات وكنائس القبة والاسواق القديمة. وجرفت الخانات التاريخية في باب التبانة وعلى ضفتي النهر. وجرفت طواحين طرابلس واعتدي على مشروع النهر بسقفه وحوائطه وجسوره. وأقيمت التخاشيب على الأتوستراد العام بعد مستديرة نهر أبو علي، وقبلها. وكذلك أقيمت على الساحات والباحات والمستديرات وتحت الجسور، وعلى طول الشاطئ في رأس صخر وحتى الحمام المقلوب. واستملكت سكك الحديد والمرفأ والشاطئ الجميل من برج النهر وبرج السباع، حتى المرفأ وبوابة ابن عفان. وكل ذلك تمّ على مرّ التاريخ الطويل دون أن تعرف طرابلس صناديق ولا حتى رجالاً لرفع الذل ومباشرة الدعم وحفظ الكنوز بل عرفت فقط صناديق الانتخابات.

وطرابلس التاريخية، بحماماتها المملوكية والعثمانية، وبمدارسها وتكاياها وزواياها المحفوظة بأسمائها وأسماء بناتها في سجلاتها وفي سجلات الآثار العالمية في جميع عواصم العالم، تحولت إلى مكبات للنفايات ومآوي للشذاذ والآفاك والمتسكعين، وحجرات مهملة ومصندقة ومتهالكة بسقوفها وجدرانها وأبوابها ونوافذها وبركها وساحاتها ومداخلها، لمولدات الكهرباء وقبضاياتها وزعرانها وللجرذان والفئران والقطط والكلاب والأفاعي الدهرية التي تلوذ بها، وتجد تحت مطامرها مأمنها ومخبأها. بل تحولت إلى أمكنة موبوءة، ترمى فيها النفايات العضوية والكيميائية التي تفسد الماء والهواء، وهي المدينة التاريخية الفيحاء بزيتونها وليمونها، فغاب رجالها وحماتها الصادقين ولم يتبق لها إلاّ السماسرة لصناديق العقارات وصناديق الانتخابات.

قلعة طرابلس

طرابلس، كمدينة من العواصم، كما عدّها القدماء، لا تصحو ولا تنام إلا على تقنين الماء والكهرباء. وعلى الفساد والعطالة في الإدارات العامة. وعلى الفضائح المختلفة في المدارس والجامعات وفي البور/المرفأ وفي السراي وفي البلدية والعقارية والمالية. وفي دوائر الميكانيك ومصلحة تسجيل السيارات ودفاتر السوق. وفي فضائح المحاصصة والابتزاز للناس، الأغنياء والفقراء على حد سواء، إن في البريد أو في الاعتداء على سكك الحديد، أو في الـ”ليـبان بوست” أو على الشطآن البحرية وإقامة المرافئ الخاصة والمجمعات السياحية الخاصة على حساب المال العام ووضع اليد على عقارات الدولة في القبة وجبل البداوي والمنكوبين والعيرونية، ومصفاة النفط وعقاراتها وشواطئها ومسابحها ودروبها ومسالكها وخزاناتها وتحويطاتها، ووضع اليد على الجبل المطل عليها، لإقامة المشاريع الخاصة والاستملاكات النافذة، للنافذين والشذاذ والآفاك والزعامات والقبضايات والمتسلطين بثيابهم وياقاتهم المدنية وغير المدنية. ناهيك عن فضائح الانترنت في أعالي جبال الضنية، والأجهزة المركبة هناك بالطائرات والممرات الجوية لا بالونوش والممرات البرية. ومع ذلك فليس لطرابلس من رجاء صناديق ورجال، إلاّ رجاء صناديق الانتخابات.

ويسألونك بعد، عن يقظة صناديق طرابلس!!

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث