حدود الشرق الأوسط بعد سايكس بيكو: نحو القومية الواحدة أو التعددية؟

نشرت مجلة “فورين بوليسي” مؤخراً مقالاً يعارض تحميل اتفاقية سايكس بيكو مسؤوليّة التوتر الذي يشهده الشرق الأوسط حاليّاً. وفيما قد يكون كاتب المقال قد بالغ كثيراً في تبرئة المعاهدة وموقّعيها من اللوم المُلقى عليهما، إلا أنه من المؤكد أنّ الحدود التي ساهمت هذه الوثيقة في رسمها ليست المذنب الوحيد الذي سبب حالة عدم الاستقرار في المنطقة. فقد نتج عن استخدام سايكس بيكو ككبش فداء ما هو أخطر بكثير؛ إذ أُطلق النّداء لإعادة رسم الحدود من أجل بناء دول ذات قومية واحدة وفقاً للنموذج الأوروبي. ولسخرية القدر، لن تسبب محاولة التخلص من إرث سايكس بيكو إلا باستمرار اندفاع الغرب التاريخي إلى التدخل بشؤون الشرق الأوسط.

لطالما كانت مواقف السياسة الأوروبّية إزاء العالَم الإسلامي عبارة عن تشكيلة من سياسات مبدأ “فرّق تسُد” منذ اجتياح نابليون لمصر. فقد أشار المؤرّخ البارز برنارد لويس إلى أنّ الحملات النابليونية في مصر وسوريا أثبتت إلى الأجيال اللاحقة أنّ مجرّد قوّة أوروبية صغيرة قادرة على احتلال الأراضي الإسلامية وحكمها، وأنّ لا شيء قادر على إزاحة هذه السلطة إلا عن طريق أحد البلدان الأوروبية الأخرى. وعلى الرغم من انتقاد المنظّر العربي إدوارد سعيد وجهة نظر لويس المشرقية، لا يمكن إنكار تأثير المعاهدات السياسية الأوروبية في الساحة الجيوسياسية في الشرق الأوسط. فبدءاً بالحلف الأنجلو الروسي للسيطرة على بلاد فارس وأفغانستان، ومروراً باتفاقية سايكس بيكو مع ما نتج عنها من إعادة ترسيم الحدود بعد الحقبة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى النفوذ الأوروبي اللاحق عبر الانتداب والاحتلال، تحاول السلطات الأوروبية إعادة هيكلة الشرق الأوسط على الصورة الّتي تراها مناسبة منذ أكثر من قرنٍ من الزمن.

وقد ركز التدخل الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية على دعم القوى الإقليمية الأساسية، أي إسرائيل وتركيا والسعودية وإيران ومصر، بغية تحقيق أهداف استراتيجيّة. ومقارنةً بذلك، حاولت القوى الأوروبية باستمرار إدخال فكرة “الحداثة” إلى العالَم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر. وركز هذا التدخل على استبدال هويات الجماعات في الشرق الأوسط بمبدأ المواطنية الفردية المبنية على نموذج الدولة الفرنسية. ومع ذلك، اختلف شكل الحوكمة الذي اعتمدته كلّ من المنطقتين عبر التّاريخ كليّاً. فقد بنى نظام “الملة” الخاص بالإمبراطورية العثمانية الحوكمة الإقليمية على القيادة الجماعية الدينية وعلى المقاطعات الاستراتيجية المتعددة الأعراق، في حين بنى العالَم الأوروبي المسيحي نفسه في أممٍ ذات عرق واحد. غير أنّ هذا النموذج الأخير هو المثال الذي أيدته دكتاتوريات الشرق الأوسط المدعومة من الغرب، واستمرت في تأييده.

إلا أنّ النموذج الأحادي العرق سيصبح أكثر فأكثر غير ملائم ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً في الاتحاد الأوروبي، حيث تنشأ مجتمعات جديدة متعددة الثقافات بدافع الضرورة. فالمؤسسات القوية والشاملة في الدول المركزية الضرورية لدعم الديمقراطية العملية والتنمية في العصر الحديث، غير مضطرة لاتباع نموذج الدولة الأمة الأوروبي – حيث تقوم المواطنة الفردية بالضرورة على بعض العناصر المشتركة منها الهوية واللغة المشتركة . وبما أنّ الدول الأمم لا تنفك تواجه اليوم انتهاكات من قبل الجهات غير الحكومية او عبر الوطنية لحدودها الفعلية والوهمية، يجب أن يعتمد واضعو السياسات في كل من أوروبا والشرق الأوسط تشكيلات بديلة لبناء الدولة، بالاستناد إلى التعددية الشاملة.

وتتعدد الأعراق والديانات في جميع البلدان تقريباً، باستثناء كوريا الشمالية والجنوبية واليابان وبعض البلدان الأوروبية الوسطى. وصحيحٌ أنّه في بعض البلدان، مثل يوغوسلافيا السابقة ورواندا وسوريا، استخدمت النخب السياسية هذه الأعراق والديانات لتغذية النزاع. لكنّ الاختلافات في بعض البلدان مثل كندا وإندونيسيا لاقت قبولاً وتمت حمايتها من خلال رفع شأن التعددية والتسامح واعتبارهما أساساً للتطور الديمقراطي الوطني.

وفي الشرق الأوسط، قد يبقى تعدد الثقافات والقوميات الذي طبع القرون الماضية حقيقةً في المستقبل، إذا تمت إعادة تصوره بطريقة تتناسب مع تعدد الهويات الحالية. وما زالت الدول الأحادية القومية في المنطقة كثيرة – وتكافح إسرائيل لتصبح إحداها، كما تطمح تركيا أن تبقى واحدةً منها، ويبدو أنّ نية المفاوضات الراهنة في سوريا مماثلة – لكن حتى أكثر الدّول تجانساً ستضطر إلى الحد من تجانسها في هذا العالم الذي يتزايد خضوعه لتأثير العولمة. وفي النهاية فالأمة التي لا تعكس التعددية المحلية في سياستها سينتهي بها الامر في نهاية المطاف الى استنفاذ طاقتها للحفاظ على الوضع الراهن الذي قد يُستغَل لتحقيق التطور التكنولوجي والمجتمعي. كما ستكون قدرة هذه البلدان على استقطاب مختلف منافع المجتمع العالمي محدودة، سواء على صعيد الشركات الدولية أو على صعيد التبادل الثقافي والسياسي.

وتحمل العولمة في طياتها التنوع الذي يحارب العزلة. وقد تكون الأنواع الجديدة من الدول المتعددة القوميات هي الحل الأفضل لضمان توسع بنية الدولة. لكن يجب ألا يأخذ تعدد الثقافات شكلاً “ممأسساً” أو “متعدد الطوائف” (كما في لبنان). على العكس، يجب أن يأخذ شكل التنوع “الموحّد”، كالذي قد تطوره تركيا إذا اعترفت سلطتها بالقوة المحتملة المترتبة عن دمج هوية شعبها الكردي بهوية الأمة ككل. وهذا هو النموذج الذي يجب أن تشجعه البلدان الأوروبية، ليس من خلال الضغط المباشر، بل من خلال مشاركتها في النظام العالمي وتحفيز المساعي المحلية بالإضافة إلى التعددية على مستوى الدولة.

وعلى عكس النموذج الأوروبي التاريخي، ربما يشكل النموذج الإندونيسي مثالاً أفضل للشرق الأوسط. فهو خير دليل على أنّ عدداً هائلاً من المجموعات العرقية والديانات قادر على التعايش في جوٍّ من الديمقراطية التي لا تغضّ النظر عن الغالبية المسلمة في البلد. ويعود سبب نجاح إندونيسيا إلى الاعتراف بهويات الجماعات التقليدية. ولا يعود سبب علمانية الدولة إلى فرض قيم التعددية وفقاً للنموذج التنازلي، بل إلى فلسفة بانكسيلا المترسخة في أسس الدولة نفسها، والجامعة لتقبل تعددية الأديان وللإيمان بأنّ الدين هو إلهام وليس فرضاً في الحياة السياسية.

لقد كان الشرق الأوسط تعددياً لقرون، وباستطاعته أن يبقى كذلك، لكن يجب على السلطات الأوروبية أن تسمح للمنطقة بالاعتراف بهوياتها المتعددة بدلاً من التعتيم عليها، وتطوير أممٍ شاملة. وعوضاً عن تشجيع الانقسام إلى دول قومية عرقية والتي تتسبب دائماً في النزاعات الحدودية، يبدو أنّ التعددية تبقى السبيل الأفضل لتحقيق ما اعتبرته أوروبا غالباً سبب تدخلها في شؤون الشرق الأوسط على مدى القرن المنصرم، أي التطوير وإرساء الديمقراطية.

————————-

(*) معهد واشنطن