العروبة والبعث والإنبعاث

د. ناصر زيدان (الأنباء)

في احدى جلسات تبادُل الرأي حول ما آلت اليه احوال الامة العربية من تراجع، وتقهقر، قال رئيس المؤتمر القومي العربي السابق، ورئيس المجلس الدستوري اللبناني الاسبق المرحوم الدكتور محمد المجذوب: “بعد غياب الرئيس جمال عبد الناصر وفي اعقاب العدوان الاسرائيلي عام 1973. دعانا كمال جنبلاط الى منزلهِ في بيروت، وكنا مجموعة من الاساتذة الجامعيين والمُهتمين بالفكر العربي. كان الهدف من الاجتماع – على ما اشار المعلم جنبلاط – بحث السُبل التي يمكن ان تُساعد على بلورة شكل من اشكال الوحدة العربية، تطال في الحد الادنى، تجميع الجهود العربية في سبيل مواجهة المُستقبل، لاسيما في مجال الدفاع والامن والصناعة والتجارة والزراعة والبحث العلمي”.

ويُتابع المجذوب: “كان كمال جنبلاط يحمل مسودة مشروع عن التكامل العربي، يبدأ بتطبيق سوق عربية مشتركة، لا يُشكِّل اي ضرر على خصوصية اي من الدول العربية المُستقلَّة. وتابع جنبلاط – دائماً وفقاً لما نقله المجذوب –ان الفكرة القومية العربية هي رؤية حضارية لها مقومات مُتكاملة في الانفتاح والتنوع، وبالتالي لا يمكن التسليم بإعطاء مهمة تطبيق الوحدة العربية، او إنعاش مفهومها؛ لمجموعة من الاحزاب التي وصلت الى السلطة بإسم استعادة بعث امجاد الامة، ولكهنا تعمل لمصالحها، ووفقاً للطموحات الشخصية لقادتها العسكريين”.

وقال جنبلاط: ان على لبنان، والنُخَب اللبنانية؛ مسؤولية ثقافية في تصويب الاعوجاج الذي يُصيب الفكرة العربية. فالعروبة؛ إنفتاح وعلم وتنوع وتسامُح، والعرب كانوا على الدوام صِلةُ وصل بين الامم والشعوب، وقد استضافوا المُضطهدين والملاحقين من ابناء القوميات الأُخرى، لاسيما من الارمن والاكراد والامازيغ وغيرهم.

مما لاشكوك حوله؛ ان العروبة ليست لغة فقط، ولا هي صدى للحركات القومية التي اعتقدت انها صنعت الفكرة بعملها السياسي. انما العروبة حضارة بالدرجة الاولى، وثقافة وآمال في الدرجة الثانية، وهي تاريخٌ وانتماء بالدرجة الثالثة. وليس بالضرورة ان يكون هناك رابط عرقي، او رابط دموي لتتحقَّق وحدة الامة ( على حد تعبير عزمي بشارة )، لكن القومية العربية تُعتبر في مصاف اعرق القوميات على الإطلاق.

شعر العرب إبان مرحلة ظهور الاسلام؛ انهم أُمة مُتميِّزة داخل هذا الاسلام، فقد أنزل الله القرآن باللغة العربية، ذلك بالتأكيد اغنى العروبة، واثبت هذا الحدث اكثر فأكثر ان العرب؛ أمةٌ قابلة للإنفتاح على الآخرين، وهي أُمة عِلم وتقوة وايمان، ولا تتنكَّر للآخرين، بل تُنشِدُ التعاون وتبادُل المنافع معهم. اما الجغرافيا العربية؛ فهي ايضاً مُلتقى القارات، وجسر تواصل بين الأُمم، ومن على ارضها خرجت الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام.

والعروبة وفقاً لفهم قسطنطين زريق وعبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري وزكي الارسوزي، وحتى ميشال عفلق؛ ليست ايديولوجيا حصرية، او مقاربة فكرية جامدة، بل هي أُمة تنتمي الى حضارة لها خصوصيتها اللغوية والانسانية والعلمية والادبية، والأُمة ناس لهم مميزاتهم الآدمية، تحديداً في التقاليد والعادات والقيِّم.

تعرَّضت العروبة للعدوان عبر التاريخ. كان هناك من يُحاول الغاء الفكرة عن بِكرةِ ابيها. فالسلطنة (او السلطة العثمانية) التي تاسست في العام 1073، مارست التسلُّط في عدد من الاقطار العربية، وهي تركت آثار مؤلِمة في زوايا عربية مُتعدِدة، وشجعت المجموعات العربية على الاحتماء خلف الدين، او خلف القبائل. لكنها سببت في الوقت ذاتهبإنبعاث صفوة واسعة من المُثقفين اعادوا للفكرة العربية وهجها من على ضِفاف الاضطهاد العثماني ومن انياب التدخلات الشاهنشاهية في الشرق.

اما الاستعمار الغربي؛ فلم يألوا جهداً، في مسيرة التفتيت. ونظَّم هذا الاستعمار بمرجعياته المُختلِفة – الفرنسية والانكليزية والايطالية – حرباً ضروس لتدمير العروبة؛ لُغةً وثقافة وتقاليد، حتى وصل الى حد ضمّ الارض (كما حصل مع الجزائر قبل الثورة) ووزَّعَ هدايا مجانية من هذه الارض على جيران العرب في الاهواز والاسكندرون وسبته ومليلة وطنب الصغرى وطنب الكبرى، ثُم اقام كياناً صهيونياً غاصباً على ارض فلسطين.

والتدخلات الخارجية التي ساعدت على تأسيس بعض الدول الوطنية على قاعدة التسلُط والاستبداد خلال القرن العشرين، ساهمت ايضاً في تشجيع التنظيمات الجهوية والطائفية وفي إنتاج ثقافة التشتُّت والفوضى. فبريطانيا شجَّعت تنظيمات الاخوان، بينما ساهم شاه ايران في تأسيس حزب الدعوة المذهبي في العراق، وساهمت تركيا والولايات المتحدة الاميركية في إنتاج مقاربة الفوضى الخلاقة، وهي مُقاربة تفتيتية تقف وراءها بعض الاوساط المُرتبطة “بإسرائيل”. كل تلك التدخلات هدفها الاول والاخير المساهمة في تدمير بُنيان العروبة.

العروبة هي الحل لمُعضلات الامة

رُغم كل ذلك؛ قاومت العروبة كل تلك التحديات، ولم يتمكَّن المتربصون من إلغاء الفكرة القومية. وإذا كانت الُلغة تترنَّح تحت تأثير المُغريات التي حملتها تقنيات العصر المتطورة، او بسبب الهرولة الاجتماعية نحوى الثقافة الغربية من قبل بعض الذين ينتمون الى طبقاتٍ ميسورة؛ إلا ان تلك الظاهرة لا يمكن اعتبارها عاملاً حاسماً سيؤدي حُكماً لموت الفكرة العربية. فتجارُب الماضي – لاسيما تجربة “فرنسة” الجزائر، او المغرب العربي بشكلٍ عام – لم تنجح في تدمير العروبة عند شعوب تلك البلدان، واستعادت تلك الدول اللغة العربية من بين الزوايا المُعتِمة، حيث حاول وضعها الاستعمار الى الابد. وشهدت مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين ثورة ثقافية حقيقية، استعادت الشعوب بموجبها حقها في التحدُّث والكتابة باللغةِ الأُم، ونشطت الحركات القومية الصافية في العديد من الدول العربية.

ان ضرورة تعلُّم اللغات الاجنبية؛ لايمكن ان يكون بحالٍ من الاحوال صائباً إذا ما كان على حساب تهميش اللغة العربية. والعكس هو الصحيح؛ فإن معرفة اللغات الاجنبية – لاسيما الانكليزية – قد يكون دافعاً لتطوير بعض مصطلحات اللغة العربية لتواكب العصر، وهناك تجارُب حصلت في الماضي لم تؤدي الى نتائج خطرة. واللغات الاجنبية – كألفرنسية والبرتغالية والايطالية والتركية والفارسية– اخذت في مرحلة مُعينة الكثير من المُصطلحات من اللغة الغربية، ولم يكُن الامر عيباً حضارياً، واللهجات المحلية بالعربية موجودة منذ مئات السنين ولم تُلغي واقعة وحدة اللغة، ذلك لأن اللغة هي لخدمة حاجات الناس، وهذا لا يتعارض مع كونها تُعبر عن الحضارة العربية وتحفظ تاريخها.

والعروبة في اللغة، وفي خصائصها الأُخرى؛ هي الملاذ الاول والاخير للحفاظ على وحدة الأُمة. والأُمة واقعٌ حسي، وهي الوعاء الوحيد، والملاذ الآمن، لصيرورة التاريخ العربي، فالإجتهادات “السيسيوميثولوجية” والتطورات التقنية، والتغييرات “الجيوبوليتيكية” الناتجة عن تطور المواصلات والاتصالات، وعن الاختلافات في المقاربات الدستورية – العرفية منها والمكتوبة– خصوصاً لناحية قوانيين التجنيس وحق الإقامة والعمل، او القوانيين الدولية المُتعلِقة بحقوق الانسان، كلها لا تُلغي كون العروبة هي التي تجمع هذا الخليط الهائل من التنوع، وما ينتج عنه من تشعُبات.

ان الذين خرجوا من “مانيفست” اللوائح الاسمية من العرب، واعتنقوا جنسيات وطنية او قومية غير عربية، لم يتمكنوا من التحلُّل الكامل من تبعِات الانتماء القومي. ورغم مرور مئات السنيين على بعض هذه الوقائع؛ ما زال هؤلاء يحملون توصيفة لها طابع انتروبولوجية؛ فيقال عنهم: انهم من اصولٍ عربية.

امَّا تنوع الانتماء السياسي والديني والجهوي للمجموعات العربية، لا يتعارض مع انتساب كل هؤلاء للعروبة الجامعة، ومعهم شرائح واسعة من الذين ينتمون الى قومياتٍ أُخرى، كانت العروبة احتضنتهم منذ مئات السنيين، وهؤلاء لم يشعروا عبر التاريخ بالعداء للعروبة، بل كانوا جزء من حراكها العام، ذلك قبل ان يبتدِع بعض ” جهابذة البعث ” فكرة الفرض على هؤلاء الهوية القومية العربية؛ كما حصل مع بعث العراق، او مع البعث في سوريا، فأدت هذه الخطوات الى نتائج عكسية، خلقت تخوَّف من المجموعات الكردية وغيرهم من الفكرة القومية، ولم تكُن هذه الاجراءات في صالح الفكرة العربية الحاضنة.

في الوقت ذاته؛ لايمكن مواجهة الهجمة العقائدية والسياسية والعسكرية التي تستهدف العديد من الدول العربية، إلا من خلال تضامن عربي شامل، يتبلور فوق بساط الحسابات القطرية الضيقة، لأن الاستهداف الذي يطال مناطق عربية عديدة، من قبل دول اقليمية كبيرة، ومن قوى دولية طامعة؛ لا يمكن مواجهتة على شاكلة إنفرادية، بل ان المواجهة العربية الشامل وحدها الكفيلةبوقف الاطماع والتدخلات. وقد بدأت تباشير مثل هذا التضامن من خلال بعض قرارات الجامعة العربية مؤخراً.

العروبة ما بعد العام 2010

ان استفحال الخلافات العربية- العربية قبل العام 2010، ووصول التشرذُم الى حد عقد تحالفات بين دول عربية ودول غير عربية لمواجهة دول عربية أُخرى؛ ارهق ذاكرة المواطن العربية، وكاد عدد كبير من المواطنيين العرب؛ ان ينصرفوا عن الاهتمام الراسِخ في اذهانِهم عن اسبقية الولاء العربي فوق كُل اعتبار. تلك كانت تجربة بعض الانظمة التي استفادت اكثر من غيرها من شعارات الحفاظ على القومية العربية لترسيخ سلطان حكمها، وعلى وجه التحديد الانظمة التي كانت تحكُم تحت راية ” البعث ” في العراق وسوريا. تبيَّن من دون اية شكوك ان هذه الانظمة إنحرفت عن جوهر العقيدة البعثية ذات المنطلقات القومية والفلاحية، وحوَّلت العروبة الى ما يُشبه ” المطية ” لتحقيق مصالح شخصية، او فئوية.

مع إنبلاح الاحتجاجات الشعبية العارمة في عدد من الدول العربية منذ نهاية العام 2010؛ تبين ان هذه الاحتجاجات استهدفت انظمة ذات طابع عسكري – او امني – وتستخدم المقاربة القومية لتعزيز مكانتها بين افراد الشعب. والشعب شغوف في استعداده للتضحية من اجل القضايا العربية المُشتركة – خصوصاً من اجل فلسطين – ونجحت الانتفاضات الشعبية في احداث تغييرات هائلة في تلك الانظمة، خصوصاً في تونس وليبيا ومصر، والمصالح الاقليمية والفئوية والاطماع الاقليمية والدولية، اغرقت سوريا – والى حدٍ ما اليمن – في بحرٍ من الدماء، والهدف من مواجه الاحتجاجات الشعبية بالعنف والسلاح؛ كان خارجياً اكثر مما هو داخلي، وذلك كي تبقى الانظمة التي تخدم مصالح الخارج على قيد الحياة، لأنها تفسح المجال امام تدخُّل الآخرين في شؤون الامة العربية.

وكان جلياً للجميع؛ ان شعارات الاحتجاجات الشعبية في مواجهة الانظمة المُستبِدَّة، لم تتنكَّر للعروبة، او للقضايا العربية. بل على العكس؛ فقد كان اهم شعار اطلقه المنتفضون في تلك الدول،هو ” واحد واحد واحد .. الشعب العربي واحد ” ذلك ان الاعتبارات القومية كان لها مكانة مُتقدمة في ذاكرة المُنتفضين الى جانب المطالب المعيشية، والتوق الى التحرُّر من قمع اجهزة الامن التي صادرت الحريات العامة.

العروبة ليست سجناً، كما حوَّلها بعض الغُلاة من “صقور البعث”. بل انها فعل تسامُحٍ، وواحة حرية. وعندما كانت العنصرية والنازية والصهيونية البغيضة تتغلغَّل في مساحات واسعة من اوروبا واميركا وبعض آسيا؛ كان العرب يتمسكون بالإنفتاح على الآخر، واحتضوا المُضطهدين من شعوب الارض، من دون تفرقة عنصرية او دينية او عرقية.

والعروبة رسالة حضارة وتقدُّم وعلم، وهي الوعاء الحاضن للتنوع السياسي والثقافي الموجود على امتداد الوطن العربي.

ومواجهة التدخلات الاجنبية في شؤون الدول العربية؛ لاتكون إلا بالعروبة الجامعة والمُنفتحة، بعيداً عن نظريات الاستبداد، وممارسات القهر والظلم. والاستفادة العلمية من تجارُب الغير، ضرورة واجبة. فالعرب كانوا على الدوام طلاب علمٍ ومعرفة، وساهموا في إغناء الثقافة العالمية في مختلف المجالات.

اما في السياسة؛ فإن حالة التوحُّد القاري او الاقليمي (مثال الاتحاد الاوروبي) يجب ان تكون دافعاً بإتجاه التفكير الجدي في خلق مقاربة عربية جامعة، تتجاوز الدور المتواضع الذي تلعبه الجامعة العربية، او تطوير هذا الدور الى مراتب مُتقدِّمة على اقل تقدير.

———————–

*استاذ في العلوم السياسية والقانون الدولي العام

*تنشر بالتزامن في مجلة أُفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي