هيكـل.. هو ونحن

بسام الحلبي

من هو مثل الكبير محمد حسنين هيكل وُجب على جيلنا، ليس ذرف دمعة عليه والرثاء فقط، بل لا بد من ذكر دوره بتأصيل الفكر العروبي الناصري في وعينا وإدخالنا، نحن الجيل الذي ولد في نهايات الحرب العالمية الثانية، في التاريخ الحديث والمعاصر للعالم، وخاصة الشرق الأوسط، ودور العظيم عبد الناصر في هذه المرحلة، لذلك بعد مرور ما يقارب الأشهر الخمسة على رحيله أستذكر كيف عشنا معه في تلك المرحلة الرائعة من تاريخنا خاصة الممتدة من سنة 1952 حتى سنة 1970، تاريخ وفاة العظيم، التي أستمرت محاولة السير بها حتى سنة 1977، تاريخ إغتيال حزب البعث لأمير الشهداء.

في بداية وعينا الوطني، الناتج عن أحياء الكرامة والعروبة من العظيم عبد الناصر بعد الإنتصار السياسي الرائع الذي حققه سنة 1956، بعد فشل العدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، في تحقيق أهدافه بالإطاحة بالنظام الناصري بدأنا بسماع إسم صحافي مصري يدعى محمد حسنين هيكل وأنه من المقربين من “الريّس” ويرافقه في غالبية رحلاته خارج مصر وأنه من المستشارين المقربين، وحتى أقربهم منه. وكنّا قبل ذلك قد قرأنا كتاب فلسفة الثورة الذي كتبه العظيم عن مفهومه للثورة والإشتراكية والعروبة والتي هي في مضمونها متآلفة مع ميثاق الحزب التقدمي الإشتراكي، وبدأت تتردد أخبار أنّ كتاب فلسفة الثورة هو أفكار عبد الناصر مصاغة بقلم هيكل.

هيكل

قامت الجمهورية العربية المتحدة في 21 شباط سنة 1958 وحصل ذلك الهياج الشعبي في سوريا، وكانت الجماهير في دمشق تحمل سيارة عبد الناصر وتسير بها على طريق المطار الى دمشق، وعند إطلالته على شرفة قصر الضيافة تمنعه من إلقاء خطاباته بالهتافات المدوّية، وكان بقربه دائماً ذلك الرجل الذي يلفـُت بقِصره، نسبة للريس العملاق، وكان هذا الرجل هو محمد حسنين هيكل.

أحببناه لأنه من المقربين من العظيم. وفي سنة 1959 صدر له كتاب هو “العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط”، وهو ثاني كتاب له بعد “إيران فوق البركان” الذي كتبه على أثر زيارته لإيران بعد ثورة مصدّق، وأقول بجرأة أن كتابه عن العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط كان قراءة مستقبلية لدور الأحزاب في الدول العربية، وتحديداً لدور الحزب الذي دمّر هذه الدول لاحقاً و هو لم يسميه بل تنبأ بقيام حزب يقوم بالدور التدميري الذي قام به حزب البعث الإشتراكي العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

بعد ذلك التاريخ أصبحت متابعتنا لهيكل تتم من خلال مقالته الأسبوعية في صحيفة الأهرام ” بصراحة ” والتي كنا نعتبرها الرأي الأسبوعي للريس ، وكنا في لبنان ننتظر يوم السبت من كل أسبوع لقراءة المقالة التي تنشر يوم الجمعة في مصر وتصل في اليوم التالي جواً إلى بيروت.

في منتصف ستينات القرن الماضي حصلت صحيفة الأنوار اللبنانية على إمتياز نشر مقالة” بصراحة” يوم الجمعة، في الوقت عينه مع الأهرام، ما أدّى إلى تحويل الأنوار إلى أكثر الصحف مبيعاً في لبنان في ذلك اليوم، وكان هذا المقال هو المرشد الروحي للناصريين ومؤيديهم في ذلك الحين.

وفي سنة 1967 إنتقلت مقالته “بصراحة” في مضمونها إلى نوع من النقد الذاتي للناصرية وعن مسؤولية الهزيمة و أطلق منها التسمية الشهيرة “فلاسفة النكسة” على المنتقدين للفكر الناصري بقصد الهدم وليس التصحيح. وتابع الكتابة حتى نسة 1970 بإتجاه النقد الذاتي البنّاء، وتوضيح أهمية حرب الإستنزاف التي أعلنها الريس كما عيّنه العظيم وزيراً للإرشاد القومي في السنة الاخيرة من حياته.

هيكل وعبد الناصر

في 28 أيلول سنة 1970، الذي كان تاريخ التحوّل المدمّر للأمة العربية، بوفاة العظيم عبد الناصر، وعين هذا التاريخ كان أيضاً اللحظة التي حوّلت محمد حسنين هيكل من صحافي إلى مؤرخ، إذ بدأ كتابة التاريخ الحديث والمعاصر للشرق الأوسط، وتحديداً مصر ودورها في الشرق الأوسط والحركات التحريرية فأصدر على أثر وفاة العظيم كتابه الأول عن الرئيس عبد الناصر بعنوان “عبد الناصر والعالم” وكان يتضمن غالبية المراسلات التي تبادلها الرئيس عبد الناصر مع رؤساء الدول، وقد يكون أهمها تلك المتبادلة مع الرئيس جون كنيدي، والتي تبيّن مفهوم العظيم للحياد الإيجابي، وحفظه للمسافات في علاقته مع الإتحاد السوفياتي، وعدم إقفالها مع الولايات المتحدة. ومن هذا الكتاب أضاف هيكل إلى صفته ككاتب مقال صفة المؤرخ.

عند إستلام السادات للحكم حافظ هيكل على علاقته معه كمستشار معتذراً عن قبول أي منصب سياسي، وبقى بقربه حتى بداية حرب 1973 إذ كلّفه بكتابة الأمر التوجيهي الإستراتيجي، لوزير الدفاع، الذي أصدر فيه أمره ببدء المعارك الحربية يوم 6 تشرين الأول. لم تصمد هذه العلاقة إذ وقع الخلاف بين الأثنين حول وقف إطلاق النار وحول توظيف إنتصار العبور مع وزير الخارجية الأميركي، هنري كسنجر، وقد أوضح التناقضات بينه وبين السادات قبـل المعركة وبعدها في مجموعـة مقالات نشرها في الأهرام في مقالتـه “بصراحة” التي أصدرها في كتاب من بعد الحرب بعنوان “عن مفترق الطرق”.

 في سنة 1973 بعد أن إصابة السادات بعقدة القيصرية الألوهية والبونابّرتية، وهجمته على عبد الناصر، الذي كان قد إنحنى أمام صورته في مجلس الأمة يوم أدائه لليمين الرئاسيـة، طارحاً شعار “كلنا جمال”، مع الإشارة الى أنه سبق للسادات أن كتب مؤلف “يا ولدي هذا عمك جمال” يصف فيه عظمة عبد الناصر، بدأ هيكل بالتحوّل الجذري نحو تدوين التاريخ فأصدر مجموعة كتب تتناول وقائع تاريخية حاول السادات تزويرها في هجمته وكان أهمها “الطريق الى رمضان ” الذي بين فيه  أن عبور القناة سنة 1973 جرى وفقاً لخطة وضعها عبد الناصر مع أركان جيشه أطلق عليها الإسم الكودي “غرانيت 2″ و”لمصر لا لعبد الناصر” التي بيّن فيها دور عبد الناصر في كثير من القضايا الداخلية وخاصة محاكمات الأخوان المسلمين في سنة 1956 التي كشف فيها أنّ السادات كان عضواً في المحكمة التي حاكمت الأخوان وقضت بإعدام القيادات المخططة للإغتيالات، خاصة وأنّ السادات كان يروّج أنّ عبد الناصر أعدم الأخوان دون محاكمة، وتلى هذا المؤلف كتاب “معركة السويس” وهو بيّن فيه تفاصيل حرب 1956 عسكرياً، وكان أروع ما كتب في تلك الفترة مؤلف “حديث المبادرة” وهو يتناول بالنقد زيارة السادات إلى إسرائيل، وعلى أثر إصدار هذا الكتاب مُنع هيكل من الكتابة في مصر .

ما أدّى به إلى متابعة الكتابة في الكويت، فأصدر كتاباً يحلل فيه تفاصيل العلاقة المصرية السوفياتية بعنوان “القيصر وسفينكس” وبدأ في هذه الفترة الكتابة باللغة الإنكليزية وكانت هذه الكتابات تترجم إلى العربية، وتوسع في التحليل فكان أن أصدر كتابه “مدافع آية الله” الذي حلل فيه أسباب إنهيار دولة الشاه وقيام دولة آيات الله، وفي الفترة عينها أصدر كتابه الرائع” زيارة جديدة للتاريخ” وفيه يحلل آراء اعطيت من سسياسيين ومفكرين في الخمسينات و كيفية فهمها في حينه، و فهمها بعد مرور ثلاثة عقود وأهمها المقابلة التي أجراها مع أينشتاين في جامعة برينستون في الولايات المتحدة الأميركية.

 في أيلول 1981 أقدم السادات على إعتقال هيكل مع ما يفوق ألف مفكر، وبعد إغتيال السادات وإطلاقه من السجن، مع سائر المفكرين الذي كان قد إعتقلهم السادات، في بداية عهد مبارك، بدأ بتدوين تاريخ مصر وعلاقتها مع العالم في عهد السادات وكان الكتاب فيه الكثير من السيرة الذاتية لأنور السادات وقد كتبه بالإنكليزية بعنوان “خريف ألغضب”. وهذا الكتاب هو ما أعطى مؤلفاته الصفة العالمية.

أمام النجاح الهائل الذي حققه هذا الكتاب يبدو أنه قرر كتابة تاريخ مصر بدأ من الظروف التي أنهت حكم أسرة محمد علي وحتى سقوط حكم حسني مبارك. فأصدر على التوالي مؤلف “عروش وجيوش” الذي يتناول فيه حرب فلسطين، و”سقوط نظام” الذي يوضح فيه الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة 1952، وإنتقل إلى تدوين وتفصيل الصعوبات التي واجهها الحكم الجديد وصولاً إلى حرب 1956 تحت عنوان “ملفات السويس”، وتأتي المرحلة الثالثة من حرب السويس إلى حزيران 1967، التي فصلها في مؤلفه ” سنوات الغليان” وتابع مصدراًكتابه “الإنفجار ” الذي تناول فيه ظروف إندلاع حرب حزيران، حتى وفاة العظيم. أما مرحلة التحضير لحرب 1973 فقد كانت المؤلف الرابع عن التاريخ المعاصر لمصر بعد إستلام السادات للحكم والإنتصار النسبـي للجيـوش العربيـة سنة 1973 ونشر المؤلف تحت عنوان “حرب 1973” وهنا جاء كتاب خريف الغضب الذي أصدره قبل هذه الخماسية الرائعة وكأنه الجزء السادس من الموسوعة التي قد تكون أهم المراجع التاريخية الحديثة .

بعد سقوط مبارك تابع الكتابة فألف كتاب “ماذا جرى في مصر” و “مصر إلى أين”.

4

وبهذين المؤلفيـن أصبح هيكل المؤرخ الذي دوّن تاريخ مصر منذ سقوط نظام أسرة محمد علي، حتى سقوط مبارك وأسرته وجاء هذا التدوين يجمع بين المعرفة والمعايشة والمشاركة والتحليل ما يجعل إطلاق كلمة ثُمانيّة هيكل على هذه المؤلفات، التي يضاهي بها الثلاثية القصصية الخالدة للأديب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب، تستحق جائزة لا تقل قيمة عنها.

ما قلناه لا يعني أنّ هيكل تفرّغ لتأليف الثمانية، إذ لم يكن يمر حدث تاريخي في المنطقة أوالعالم إلا ويناقشه ويحلله شارحاً وموضحاً. فعلى أثر إتفاقية أوسلو أصدر ثلاثية عن الإتصالات العربية اليهودية بإسم “الإتصالات السرية العربية اليهودية”. وعلى أثر إجتياح العراق للكويت أصدر كتاب “حرب الخليج”. كما أنه لم ينقطع عن قرائه الأسبوعيين فإستمر بنشر مقالاته الشهرية في مجلة “وجهات نظر” المصرية التي توقفت عن الصدور بعد بلوغ هيكل الثمانين وتوديعه للقراء بمقال من أمتع المقالات تحت عنوان “الإستئذان بالإنصراف”.

 إنّ الكتابة عن هيكل تتجاوز المقالات فقد صدر أكثر من مؤلف يتناول شخصه وثقافته وناصريته ودوره أثناء حكم العظيم عبد الناصر. وما ذكرته في كلمتي هذه هي بعض المؤلفات التي إعتبر أنها كانت ذات أثر على منطلقاتنا الثقافية. فهناك العديد من المؤلفات التي نشرت وتتعلق بالسياسة والأحداث العالمية خاصة عن حرب أمريكا في أفغانستان، وكتب مجموعة من المقالات لأشهر الصحف الأميركية نشرت بعنوان “المقالات الأسيوية”.

 هيكل كان الشاهد الأخير على أشرف وأعظم المراحل في التاريخ العربي الحديث والمعاصر بقيادة جمال عبد الناصر. ويبقى جيلنا شاكراً هيكل على مؤلفاته لأنه أدخله في ضميره الوطني.