أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

رغيد الصلح (الحياة)

استقبلت أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف نتائج الانتخابات النمساوية بكثير من الابتهاج. فرغم أن حزب الحرية بزعامة نوربرت هوفر الذي يمثل أقصى اليمين في النمسا، لم يتمكن من تسجيل انتصار ساحق على غريمه حزب الخضر، إلا الفارق الضئيل بينهما الذي لم يتجاوز بضعة آلاف من الأصوات سمح لهوفر بالإعلان عن جولات قريبة رابحة ضد الأحزاب الليبرالية واليسارية في النمسا وأوروبا. ولسوف تكون أولى هذه الجولات المقبلة في بريطانيا، حيث يلقي اليمين المتطرف الممثل بحزب «استقلال المملكة المتحدة» بثقله إلى جانب دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي تنظمه حكومة كاميرون حول العلاقة مع الاتحاد. ولئن صدقت التوقعات العديدة والقائلة إن حظ دعاة الانسحاب من الاتحاد أكبر من دعاة البقاء فيه، فإن هذه النتيجة سوف تتحول مشهداً أوروبياً جديداً من مشاهد صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في دول القارة لن يكون أقل أهمية ودراماتيكية، في حسابات المستقبل العربي، من مشهد استيلاء «داعش» على الموصل أو على مساحات واسعة من أراضي العراق وسوريا. إن هذا الصعود المتزامن تقريباً يفتح الباب أمام تطورات مهمة تؤثر على العرب والمنطقة العربية على الأصعدة التالية: الهجرة العربية إلى أوروبا، والحرب على الإرهاب، العلاقات بين الدول العربية والدول الأوروبية.

بين هذه القضايا الرئيسية، احتلت مسألة التخويف من الهجرة العربية إلى أوروبا القسم الأكبر من اهتمام أحزاب اليمين المتطرف والحملات الانتخابية التي نظمها لكسب الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية بصورة خاصة. ولقد حققت هذه الحملات نجاحات ملموسة، إذ تبنت -كما تقول صحيفة «التايمز» البريطانية – شعارات اشتراكية، فاستقطبت قسماً من قواعد اليسار والوسط النمساوي. وفي النمسا، كما هو الأمر في دول أوروبية أخرى، تنتقل أعداد متزايدة من العمال ذوي الياقات الزرقاء من تأييد أحزاب اليسار إلى تأيد أحزاب اليمين المتطرف. وتنظر هذه الشريحة من العمال الذين يفتقرون إلى مهارات محددة، إلى المهاجرين العرب باعتبارهم منافسين يحرمون النمساويين من فرص العمل ويضعفون موقفهم إزاء أرباب العمل. فلولا المهاجرين العرب، ولولا إغراق سوق العمل باليد العاملة العربية المهاجرة والرخيصة، لاستطاع العمال ذوو الياقات الزرقاء في النمسا أن ينتزعوا من الرأسماليين شروطاً أفضل للعمل.

ويقترن التخويف من المنافس – الغريم العربي في سوق العمل بالتخويف من «الإرهابي العربي». وبفضل المنظمات الإرهابية، أمكن حملات التخويف هذه أن تحقق نجاحاً باهراً، فالمنظمات الإرهابية تستسيغ توجيه ضرباتها في المسرح الأوروبي لأسباب عديدة، فتوجيه الضربات الإرهابية في المجتمعات المفتوحة أسهل من توجيهها في المجتمعات المغلقة التي تضع الكثير من القيود على حركة الأفراد والجماعات المنظمة. وتوجيه مثل هذه الضربات في المجتمعات الأوروبية يحقق للمنظمات الإرهابية مكاسب إعلامية نظراً لتمركز الإعلام الدولي في دول القارة الأوروبية وللحرية الواسعة في تداول المعلومات ونشرها في هذه الدول. ثم إن الخسائر التي تمنى بها المنظمات الإرهابية بفقدانها بعض عناصرها في العمليات الانتحارية في دول القارة، يوازيها مزايا المحاكمات العلنية والعادلة التي يلقاها المشاركون في المنظمات الإرهابية وفي نشاطاتها عند وقوعهم في يد السلطات. كل ذلك يغري المنظمات الإرهابية باختيار الدول الأوروبية مسرحاً رئيسياً لنشاطاتها، ومن ثم يضفي صدقية على حملات التخويف التي تشنها أحزاب اليمين المتطرف ضد العرب، سواء كانوا من المهاجرين أو من الذين يزورون دول القارة بصورة موقتة. ومما يضاعف أثر حملات التخويف هذه، لجوء المنظمات الإرهابية إلى تكوين الخلايا النائمة التي تضم أعضاء يتصرفون إبان إقامتهم أو زيارتهم دولاً أوروبية كما لو أنهم من الأفراد العاديين البعيدين من العنف. وبمقدار ما ينجح عضو الخلية النائمة في تكريس هذا الانطباع تتعاظم الفائدة منه عندما تدق ساعة العمل وعندما يكلف بتنفيذ مهمة إرهابية. وبهذا المقدار نفسه، يتحول كل عربي عادي في المهجر، في نظر الآخرين من مواطني البلد الذي تتكون فيه الخلايا النائمة ومواطناته، إلى «مشروع إرهابي» وإلى عضو في خلية نائمة، ما لم يثبت العكس وما لم يقدم الأدلة والإثباتات اليومية والملموسة والسلوكية التي تدل على أنه ليس عضواً في خلية نائمة ولا يعتزم أن يصبح عضواً في مثل هذه الخلايا في المستقبل.

وكما يؤثر صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا على أوضاع المهاجرين العرب في أوروبا والذين يقاربون العشر ملايين مهاجر تقريباً، أي ما يزيد على عدد سكان نصف الدول العربية على الأقل، فإن هذا الصعود سوف يؤثر بالضرورة على العلاقات الأوروبية- العربية، فأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا نشأت في حضن النزعات العنصرية، وفي خضم الحنين الجامح إلى عصور الإمبريالية والاستعمار. ولقد كان العالم بأسره مسرحاً للإمبريالية الأوروبية، لذلك فإنه ليس من الغريب أن يحن اليمينيون المتطرفون في البرتغال وفي إسبانيا إلى يوم تقاسم فيه البلدان حكم العالم بأسره. ولكن أحزاب اليمين المتطرف التي تحرص على التقرب إلى قوى الوسط وعلى الظهور بمظهر الأحزاب والجماعات الواقعية التي لا تقفز فوق حقائق التاريخ والجغرافيا، سوف تفضل التركيز على أهداف وسياسات واقعية في المناطق المجاورة للقارة الأوروبية وخاصة في المنطقة العربية التي تعاني من فراغ سيادي وضعف على كل صعيد يغري القوى الخارجية بالتدخل فيها.

في ظل صعود أحزاب اليمين المتطرف، فإنه من المتوقع أن تلجأ الدول الأوروبية، بما فيها بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبصورة متزايدة، إلى تطوير العلاقات الثنائية الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع دول عربية. وانسجاماً مع تشديد هذه الأحزاب على السيادة الوطنية والمصلحة القومية، فإنه سوف يكون طبيعياً أن تسعى هذه الدول إلى عقد التحالفات والشراكات مع الدول العربية خارج أي إطار إقليمي، سواء كان الاتحاد الأوروبي أو جامعة الدول العربية أو الاتحاد المغاربي. وفي مطلق الحالات، فإن الدول العربية سوف تجد صعوبة أكثر في قبول الشروط التي تقترحها حكومات اليمين المتطرف لأي اتفاق ثنائي يضم الجانبين العربي والأوروبي.

مقابل إصرار الحكومات التي يشكلها اليمين المتطرف في أي بلد أوروبي على الخروج بمكاسب على حساب الجانب العربي، وخلافاً لما يتوقعه البعض من هذا، تمسك الحكومات الأوروبية اليمينية بانتزاع التنازلات غير المحقة من الدول العربية، فإن اليمين المتطرف قادر على تقديم تنازل مهم سوف يسهل مهمته مع المفاوض العربي ويساعد ربما على تحسين العلاقات بين الحكومات العربية وحكومات أقصى اليمين في أوروبا. يتلخص هذا التنازل في كف الحكومات الأوروبية الجديدة التي يأتي بها صعود اليمين المتطرف عن إثارة قضايا حقوق الإنسان والحريات في المنطقة العربية التي اعتادت الحكومات الأوروبية الراهنة تحريكها بين الحين والآخر.

 

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي