الأعراف الدستورية.. النموذجان البريطاني واللبناني
د. ناصر زيدان (الخليج الاماراتية)
26 مايو 2016
تتمتع الملكة بصلاحيات دستورية واسعة وفقاً للعُرف غير المكتوب، ولكنها لا تُمارس هذه الصلاحيات عادةً، فتبتعد عن الغوص في الشؤون السياسية التي تُديرها الحكومة التي تحصل على ثقة مجلس العموم (البرلمان) ورئيس الحكومة يمارس عملياً مهام رئيس الدولة، ولكن الملكة هي التي تُعينه بعد فوز حزبه في الانتخابات التشريعية.
نجحت الملكة اليزبيت الثانية بإضفاء بعض الحداثة على سياق عمل العائلة المالكة البريطانية لتتلاءم مع تطورات العصر، من دون أن تمس برمزية التاج الجامع لفسيفساء الكومونولث الانكلوفوني الذي يشتهر بالمرونة وبالتشدُد في آنٍ واحد، وهي لم تقم بأي إجراء دستوري كبير – كحلّ البرلمان أو إقالة الحكومة – يمكن له ان يُصيب البلاد بأزمة تُهدِد الأعراف، أو تؤدي إلى انتفاضة على التاج، كما حصل في العام 1215، عندما قام النبلاء بثورة على الملك جون، كادت تُطيح النظام الملكي برُمّته.
الأعراف الدستورية غير المكتوبة؛ لها قوتها القانونية المُلزِمة أكثر من النصوص المكتوبة أحياناً، لكن الممارسات الحكمية يجب أن تراعي الميثاقية التي انبثقت منها هذه الأعراف، وإلا نكون امام استبداد، أو تعنُت، تخرُج من ثناياهما تداعيات غير محسوبة، يمكن أن تُهدِد تلك الأعراف، أو تُصيب الاستقرار بشوائب مُخيفة.
في 20 مايو/أيار 2016 تكون الجمهورية اللبنانية قد أمضت عامين من دون رئيس للجمهورية. والعرف الدستوري في لبنان يقضي أن يكون رئيس الجمهورية من حصة المسيحيين، والموارنة بالتحديد، ذلك ما جرت عليه العادة بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943. علماً بأن رئيسين من غير الموارنة توليا رئاسة الجمهورية إبان مرحلة الانتداب بين العام 1926 والعام 1943، هما بترو طراد (ارتوذكس) وأيوب ثابت (بروتستانت)، كما ترشح أحد النواب المسلمين لمنصب الرئاسة؛ هو الشيخ محمد الجسر، وكاد يصل للرئاسة لولا قرار تعليق العمل بالدستور الذي اصدره المفوض السامي الفرنسي هنري بونسو في9 مايو/أيار 1932، كما تضمن القرار تكليف المسيحي شارل دباس رئيساً للحكومة، في خرق آخر للعرف؛ حيث رئيس الحكومة يكون عرفاً من المسلمين السنة.
وأدت تداعيات منتصف ثلاثينات القرن الماضي إلى انتخاب الأرثوذكسي شارل دباس رئيساً للجمهورية، رغم الصداقة القوية التي كانت تربط الموارنة مع دولة الانتداب فرنسا. وكادت الخلافات بين القطبين المارونيين اميل اده، وبشارة الخوري آنذاك؛ ان توصِل المسلم محمد الجسر إلى الرئاسة لولا إلغاء الانتخاب وتعليق العمل بالدستور، لأن الجسر استفاد من الصراع الماروني – الماروني، والدستور اللبناني المكتوب منذ العام 1926؛ لا ينص صراحةً على طائفية أي من الرئاسات، بل انه اكتفى لاحقاً بعد اتفاق الطائف العام 1989، بالإشارة إلى توزيع النواب ووظائف الفئة الأولى في الدولة؛ مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين وفقاً لما جاء في المادة 95.
الاضطراب السياسي الكبير الذي يعيشه لبنان اليوم يُهدِد بانفراط الأعراف إذا ما استمرَ اكثر. والسياق الذي تسير فيه الأمور تُنذر بتداعيات كبيرة، وقد تكون اكبر بكثير مما يتوقعه بعض الذين يتعاطون في الشأن السياسي.
إن الحفاظ على العرف الرئاسي في لبنان، يتطلب بالدرجة الأولى التخفيف من حِدة الصراع الماروني – الماروني على موقع الرئاسة. والميثاقية الدستورية تفرض على المستفيد منها احترامها، قبل الآخرين. فليس سراً؛ أن هناك طموحات عند بعض المسلمين بإحداث تغيير في هوية رئيس الجمهورية، كما أن هناك قوى سياسية واسعة تطالب بإلغاء الطائفية السياسية برمّتها، واستبدالها بحياة مدنية كاملة بعيداً عن خصوصية الالتزامات الدينية.
لا يمكن تجاهل تأثير الفراغ الدستوري في العُرف الدستوري في أي دولة؛ فكيف إذا كانت هذه الدولة مثل لبنان المُحاط بالمشكلات المُستعصية من كُلِ حدبٍ وصوب. – See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/ec8953c4-bb27-4693-854d-a16654d28f23#sthash.qFnPF8eS.dpuf