لبنان أسير حروب الآخرين؟

عرفان نظام الدين (الحياة)

يوماً بعد يوم تتعمق جذور الأزمة المتشعبة في لبنان وتزداد معها أخطار التشكيك والتحلل وشلل المؤسسات، وتنتشر عدوى حالة الاستسلام للقدر والواقع والأوهام من القمة إلى القاعدة وسط تساؤلات كثيرة عن العقد المستعصية والحلول المطلوبة للخروج من النفق المظلم.

صحيح أن لبنان قد نجا – حتى الآن – من الوقوع في حرب تشبه حروب «الربيع العربي» على أرضه، لكنه تحول إلى أسير حروب الآخرين على أراضيهم ليعيش في محاذير المصير المحتوم وأخطار القادم من الويلات والكوابيس المرعبة.

من هنا، يبرز السؤال المحير الذي يتردد على كل لسان، وهو: هل سيبقى لبنان «سجين المحبسين»، أسير الهيمنة الخارجية على مفاتيح قراراته والعجز الداخلي في كل المجالات عن التصدي للمتدخلين من عرب وعجم وإقليميين ودوليين؟ أم أن العلة تكمن في صدور اللبنانيين حكاماً أو محكومين؟

عبثاً يبني البناؤون، ويحاول المخلصون إيجاد مخارج للأزمات إن لم تتوافر النيات الحسنة والإرادات المخلصة والمبادرات الجريئة، لقلب الطاولة في وجه المعرقلين والمتآمرين وأصحاب الأغراض الخبيثة والمطامع الشخصية، والبحث عن حل وطني شامل والتضحية لإنقاذ الوحدة الوطنية والكيان والأرض من المصير المجهول ويمنح الأمل للأجيال القادمة قبل فوات الأوان.

صحيح أن التنظير سهل، والواقع أكثر تعقيداً من أي كلام، لكن من يتمعن في أوضاع المتحاربين والمتصارعين والمتآمرين الخارجيين يدرك جيداً أنهم أضعف من أن يقاوموا إرادة اللبنانيين إذا وحدوا صفوفهم ورفضوا تدخلاتهم وأعجز من أن يعرقلوا أي اتفاق وطني. وأكبر دليل على ذلك فشل القوى العظمى والدول الإقليمية بكل جبروتها في تغيير مسار الأوضاع في ساحات الصراع والتوصل إلى مواقف مشتركة في ما بينها.

أما الدليل الآخر، فيتمثل في فشل هذه القوى في الحرب على الإرهاب والقضاء على «داعش» وأخواتها. والفشل في إنهاء مأساة الحرب في سورية على رغم كل ما شهدته من دمار وقتل وتشريد وتهديد الأمن العالمي، إضافة إلى العجز عن تحقيق الاستقرار في العراق ومنع اتجاهه نحو التقسيم وإخماد نار الفتن الطائفية بين السنة والشيعة والعرقية بين العرب والأكراد.

وعلمتنا الحوادث أن القوى المتغطرسة تضطر إلى الرضوخ للواقع، مهما حاولت تغييره، وتوافِق صاغِرةً على القرار الوطني الشجاع والموحد الذي لا مكان فيه لتسلل أو تخريب (كما جرى في مصر عندما فشلت الولايات المتحدة في منع ثورة الثلاثين من حزيران (يونيو) 2013 التي أسقطت الرئيس محمد مرسي وحكم «الإخوان المسلمين» وحملت إلى الحكم المشير عبدالفتاح السيسي).

فالمعضلة الأساسية التي وصلت إليها الدول العربية، وبينها لبنان، تكونت بسبب تعليق كل المشاكل والأزمات من الرئاسة إلى «الكناسة» والحراسة والقضايا الأخرى على شماعة الآخرين واستخدام هذه الذريعة لتبرير الفشل والهروب من تحمل المسؤولية وشرعنة الشلل الحكومي والتشريعي والإداري وتعويد المواطنين على العيش تحت وطأة العذاب والعلاج بمسكنات مرحلية موقتة والابتهاج لمكرمات وفتات تقديمات لا تسمن ولا تغني من جوع.

كل هذا يدخل في نطاق حجة العاجز، واستسلام الجبان، وشلل العقول قبل الأجساد، في غياب الروح الوطنية وغلبة الغرائز الطائفية والمذهبية والعصبيات والأنانيات والمحاصصة ضمن الفساد المستشري في غابات الدول والكانتونات، أو في «مغارة علي بابا والأربعين حرامي».

لا مبادرات جدية تجمع اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم، ولا جهود جدية لنزع فتيل التوتر، ولا إرادة حقيقية لمنع اندلاع حريق الفتن، ولا مشاريع خلاقة لوقف التدهور في الأوضاع الأمنية والمعيشية التي ستؤدي إلى ثورة أو انتفاضة للفقراء والجياع الذين صبروا وتحملوا كثيراً. والكل يعرف أن لصبرهم حدوداً لا يعرف غير الله إلى أين ستصل نيرانها وتحرق ما تبقى من أطلال الوطن النازف.

ولو فرضنا جدلاً أن عوامل الصراع الإقليمي والدولي تطغى على إرادة اللبنانيين وتمنعهم من اتخاذ قرارات سياسية، فما هو مبرر عدم القيام بخطوات لتحسين الظروف المعيشية وحل المشاكل اليومية وبينها كارثة النفايات التي يبشروننا بأنها ستتكرر قريباً لتنشر مزيداً من الأمراض؟ وما الذي يعرقل التشريع لإيجاد حلول لأزمات لا تحتاج إلا إلى خطوات سريعة وحاسمة، مثل انقطاع الكهرباء والازدحام والحوادث وتثبيت دعائم الأمان ووضع حد لمسلسل الجرائم والسرقات والخطف.

وحتى في القضايا السياسية العليا المستقلة، لا يمكن لعاقل أن يقتنع بعدم قدرة المسؤولين على انتخاب رئيس للجمهورية على رغم الخجل والقرف من التبريرات والذرائع وتبادل الاتهامات حول الأسباب والجهات التي تقف خلف التعطيل، ما جعل لبنان مادة للسخرية والاستغراب لأنه لا يوجد بلد في العالم، ولو في مجاهل أفريقيا، يعجز عن انتخاب رئيس لأكثر من سنتين، كما أن كل إنسان يعرف أن الرئيس، مهما كانت صلاحياته، هو الذي يضمن وحدة لبنان ويؤمن التوازن ويقود السفينة إلى شاطئ الأمان.

ومع احترام آراء كل من يتحدث عن العوامل الخارجية، مثل الأزمة بين السعودية وإيران والحرب في سورية والتنافس الأميركي – الروسي، فإن المشكلة تعود إلى غياب المحاسبة ورفض التضحية بالذات والأنانية وتقديم المصالح الشخصية والحزبية على مصالح الوطن والمواطن.

فلا أحد يقبل ما يعلن عن حصر حق الترشح بشخص أو شخصين أو أربعة، ولا أحد يقتنع بما يتردد عن احتكار هذا الحق برئيس قوي وفق معادلة الرئيس الأكثر تمثيلاً في طائفته، حتى الزعم بأن الطوائف الأخرى تختار الأكثر تمثيلاً لا يمت إلى الحقيقة بأي صلة، فلا الرئيس تمام سلام يدعي أنه الأكثر تمثيلاً في الطائفة السُنية ولا الرئيس السابق نجيب ميقاتي ولا الرئيس الراحل عمر كرامي.

حتى الرئيس الأكثر تمثيلاً في طائفته، وهو سعد الحريري، أجبر على الاستقالة في شكل مهين ومستهجن من جانب طوائف أخرى، وجرى حجز بطاقة سفر بلا عودة له، كما ردد أحد السياسيين تشفياً، قبل أن يعود أخيراً ليستأنف اتصالاته.

كما أن الطائفة المارونية (التي اتفق على أن يكون رئيس الجمهورية من أبنائها) مشهود لها بأنها تضم الآلاف من المميزين والمتفوقين وأصحاب الخبرة والنزاهة والقدرة على تحمل المسؤولية، وكانت توصف بخزان الخبرات والشخصيات الوطنية القادرة على لعب دور توفيقي تؤمن مسيرة الدولة وتحمي الوحدة الوطنية إذا توافرت النوايا الحسنة لدعمها، ليس من أجل «سواد عيونها»، بل لإنقاذ لبنان من مصير أسود في حال استمرار الشلل وتفاقم الخلافات واشتعال نيران الفتن، عدا عن أخطار التطرّف والإرهاب الذي يخطط لإقامة موطئ قدم له في الأراضي اللبنانية للتعويض عن خسائره في سورية.

أما الخطر الناجم عن لجوء مئات الآلاف من السوريين وإقامتهم في مخيمات وسط ظروف غير إنسانية، فحدث عنه ولا حرج. فكل ما يعلن وما يقال لا يمثل سوى جزء من الحقيقة، خصوصاً أن عشرات الآلاف من اللاجئين يحملون سلاحهم أو من المدربين على استخدامه. كما أن التنظيمات الإرهابية وغيرها تحاول استغلال محنتهم لتجنيدهم في صفوفها وتحويل الضغوط التي يتعرضون لها إلى انفجار يتيح لها التسلل إلى العمق اللبناني.

وهذا دافع مهم آخر لإنهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس توافقي يعيد الاستقرار والاطمئنان وينزع فتيل الانفجارات وينقذ البلاد والعباد. وهناك أسماء كثيرة متداولة لمرشحين لا يشك أحد بقدرتهم على تحمل المسؤولية، مثل قائد الجيش العماد جان قهوجي والصحافي والسياسي المحنك جان عبيد الذي يحظى باحترام معظم الأطراف، والوزير السابق زياد بارود، ممثل التغيير والشباب. وهناك أسماء لشخصيات وطنية قديرة أخرى، وفي مقدمها الأمير حارث شهاب، سليل المدرسة الشهابية الإصلاحية والإعلامي ورجل الحوار الإسلامي – المسيحي والاعتدال السياسي والديني.

وهناك أسماء أخرى كثيرة لا يتسع المجال لتعدادها، لكن الأزمة تعود إما إلى الارتهان للإرادة الخارجية أو انتشار آفة «الأنا» والجري وراء المصلحة الشخصية، ما يقفل الباب أمام أي مبادرة تضع حداً لهذه المهزلة وتوقف الانهيار والغرق في مستنقعات النفايات والأنانية والفساد المستشري، وتسقط الأقنعة عن وجوه من يضع اللوم على الخارج والعودة إلى ترداد طرفة «كل الحق على الطليان» والزعم بأن على الجميع انتظار الفرج على يديه أو الحصول على الترياق من أميركا أو أوروبا أو السعودية وإيران وسورية والعراق.

وكل هذا يدل على أن الشلل سيبقى قائماً، وسيجري إدمان أسلوب «انتظار غودو» الذي لن يأتي أبداً لأن «الله لا يغير ما بقومهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم»، على ما تقول الآية القرآنية الكريمة.