المعركة من أجل “دير الزور”: جسر بين الولايات المتحدة وروسيا ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»؟

خلال الأسابيع الأخيرة، أصبح الوضع مقلقاً وحرجاً على نحو متزايد لآلاف المدنيين السوريين وأفراد الجيش المحاصرين في “دير الزور”. ونظراً لأن هذه المدينة كانت قد عُزلت للمرة الأولى في وقت مبكر من الحرب، فإن الوسيلة الوحيدة لتزويدها بالإمدادات هي عن طريق الجو. ويزداد الوضع تأزماً مع تصاعد ضغوط قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») للاستيلاء عليها قبل أن يتمكن نظام الأسد من إعادة فتح الطريق من مدينة “تدمر”. وهذا السيناريو الأخير، سيضع القوات المحلية لـ تنظيم «داعش» في الفخ، حيث ستكون محاصرة ما بين قوات الجيش التي تتمركز في الجنوب، وبين القوات الكردية المتقدمة من الشمال، وهو ما يهدد بقطع الاتصال بين جيوب قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق. وهذا بالطبع، يفتح المجال أمام التعاون المحتمل، أو على الأقل، السعي السريع وراء المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا، راعيتا كل من الأكراد والنظام.

التشابه بين حلب و”دير الزور”

منذ صيف 2012، عانت “دير الزور” نفس مصير حلب، حيث دخل إليها المتمردون، وهاجموا عدة أحياء، ليبسطوا سيطرتهم عليها. ومع مرور الوقت، تخلى الجيش عن بقية المحافظة، ليكتفي بتجميع جنوده على الضفة الجنوبية الغربية لنهر الفرات، ما بين المدينة، والمطار، والطريق إلى “تدمر”. وبذلك لم يعد النظام قادراً على بسط سيطرته على المقاطعة، في ظل الوجود القبلي القوي الذي جعل السكان يمتمردون على السلطة حتى قبل بداية الحرب. وقد حاول الجيش مراراً وتكراراً استعادة السيطرة على تلك الأحياء التي سبق وأن سقطت داخل المدينة، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، على الرغم من انتشار أفواج النخبة من “الحرس الجمهوري” في تشرين الأول/أكتوبر 2013 تحت قيادة أحد أفضل الضباط السوريين، وهو اللواء “عصام زهر الدين”.

لقد أصبحت مهمة الدفاع عن “دير الزور” أكثر تعقيداً بعد تموز/يوليو 2014، نظراً لأن تنظيم «الدولة الإسلامية» نجح في القضاء على باقي الجماعات الأخرى في جميع أنحاء المحافظة بحلول ذلك الوقت. وعندما سيطرت عناصر تنظيم «داعش» على “تدمر” في أيار/مايو 2015، وضعت قوات النظام في مأزق كبير. وعلى الرغم من نجاح النظام في تحرير “تدمر” في النهاية في آذار/مارس الماضي، إلا أن الضغط على مدينة “دير الزور” قد ازداد قوة. وقد أصبحت جهود الحكومة لتعزيز مطار المدينة ذات أهمية حاسمة على وجه الخصوص، إذ أضحى الحفاظ عليه مسألة حياة أو موت، مع خشية المدافعين عن المدينة من التعرض للمصير نفسه الذي لقيته القوات التي تم ذبحها على أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» في قاعدة “الطبقة” العسكرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013.

وقد بقي الجيش في موقف دفاعي في “دير الزور” لأن القوات المتوفرة كانت محدودة للغاية. بالإضافة إلى ذلك، يفضل اللواء “زهر الدين” استدراج قوات تنظيم «داعش» إلى المنطقة الصحراوية نظراً لأن دبابات قواته ستصبح أكثر فاعلية هناك من القتال في المناطق الحضرية المأهولة بالسكان.  ومن ثم، فإن الخطوط الأمامية لقوات النظام في “دير الزور” بالكاد تحركت منذ صيف 2012.

أما بالنسبة لقوات تنظيم «الدولة الإسلامية»، فقد ركزت على مهاجمة نقاط الدعم مستخدمة الانتحاريين، حيث أجبرت الجنود على الفرار، لتعمل بعد ذلك على مطاردتهم. وقد ساعد ذلك التكتيك مقاتلي تنظيم «داعش» ـ في عدة مناسبات ـ على دخول محيط المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري. ففي كانون الثاني/ يناير عام 2016، هاجمت قوات التنظيم الحي الشمالي من مدينة “البغيلية”، مما أسفر عن مقتل 280 شخصاً (من الجنود والمدنيين)، والقبض على 400 سجين، وذلك قبل أن يقوم الجيش و”قوات الدفاع الوطني” بطرد قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» خارج المدينة. وفى الواقع، تلعب وحدات “قوات الدفاع الوطني” غير النظامية دوراً حاسماً في الدفاع عن المدينة، في ظل الوجود القليل لوحدة “الحرس الجمهوري” المحلية التي لا يتعدى قوامها 2000 جندي في الوقت الحاضر. ويعود التشدد والولاء القوي لهؤلاء الجنود غير النظاميين إلى المصير الذي ينتظرهم، وينتظر عائلاتهم، إذا ما سقطت المدينة كلها في أيدي تنظيم «داعش». وقد شملت الغارات والهجمات الفتاكة التي قام بها التنظيم القيام بمذابح في حق المدنيين (على سبيل المثال، ذبح التنظيم 700 شخص من قبيلة “الشعيطات” في آب/أغسطس 2014)، وهكذا فلا بديل لقوات النظام عن القتال، إلى أن يتمكن الجيش من إعادة فتح طريق “تدمر”.

ممراً استراتيجياً لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»

كانت استعادة السيطرة على مدينة “تدمر” خطوة بسيطة نسبياً في هجوم أوسع وأكثر تعقيداً لكسر الحصار المفروض على “دير الزور”. وبالرغم من الحملة العسكرية التي كان على رأسها ضابط النظام المتميز اللواء “سهيل حسن”، إلا أن جهود فتح الطريق من “تدمر” كانت بطيئة حتى الآن. وقد أدى استئناف القتال في شمال شرق اللاذقية وحلب إلى إجبار الجيش على سحب بعض القوات التي كانت مخصصة لحملة “دير الزور”. وعلى الرغم من أنه كان بإمكان اللواء “سهيل حسن” الوصول إلى المدينة بعدد محدود من القوات، إلا أنه لم يكن بإمكان تلك القوات تأمين ممر بطول 300 كيلومتر دون تعزيزات خاصة. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» مزروعة بقوة في منطقة جبل “أبو رجمين” بين “تدمر”، و”السلمية”، و”أثريا”، وهو ما يمثل تهديداً لطريقين رئيسين. كما أن قوات تنظيم «داعش» تشكل تهديداً مستمراً لـ “تدمر” ذاتها، الشيء الذي يحتم على قوات النظام العمل أولاً على القضاء على ذلك التهديد، إذا ما أرادت المضي قدماً بسلام نحو “دير الزور”.

ومع ذلك، قد لا يكون للمدينة المحاصرة متسع من الصبر، فبعد عام من الاعتداءات المتكررة التي قام بها تنظيم «الدولة الإسلامية»، مازال سكانها الذين يصل عددهم إلى 100,000 نسمة على قيد الحياة، ويرجع الفضل في ذلك إلى الإمدادات الغذائية التي تسقطها الطائرات. ولم يعد بمقدور طائرات الشحن الهبوط في المطار العسكري الموجود بالمدينة، وذلك بسبب إطلاق النار الكثيف من قبل قوات العدو التي تتمركز في مواقع قريبة من هذه المدينة. ومن حسن حظ الجيش أن قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» تفتقر إلى صواريخ “أرض-جو”، وإلى المدافع الثقيلة. وإجمالاً، يبدو المستقبل قاتماً حتى في غياب امتلاك تنظيم «داعش» لهذه الأسلحة المهمة.

ونظراً للانتكاسات التي تعرض لها تنظيم «الدولة الإسلامية» في معاركه ضد قوات النظام المتمركزة في الغرب (في “تدمر” ومطار “كويرس”)، وضد الأكراد في الشمال، فقد قام مسلحو التنظيم بمضاعفة جهودهم في مواجهة مدينة “دير الزور”، وذلك خلال الأشهر الأخيرة. ومنذ صيف عام 2015، استطاع «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي إلى جانب حلفائه من العرب المنتمين لـ «قوات سوريا الديمقراطية»، تحقيق تقدم ملحوظ نحو الجنوب، حيث طارد قوات «داعش» بمدينة “الحسكة” في تموز/يوليو، ثم تقدمت قواته باتجاه “وادي الخابور” نحو “الشدادي” في شباط/فبراير، حيث تمركزت حول محطة نفط “الجويف” التي تبعد خمسة وثلاثين كيلومتراً فقط عن “دير الزور”. أما في حالة قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي»؛ فإن التقدم باتجاه الجنوب يمكن أن يكون الثمن الذي يدفعه الأكراد للحصول على الدعم الأمريكي في مدينة “منبج”، والتي هي الخطوة التالية لتحقيق هدفهم بتوحيد “كانتوناتهم” المنفصلة والمترامية على طول الحدود السورية مع تركيا.

وفي الوقت نفسه، في العراق، نجحت القوات التي تربطها علاقات بـ «حزب العمال الكردستاني» في طرد قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» من “جبل سنجار”، في حين سيطرت قوات “البيشمركة” من «حزب الديمقراطي الكردستاني» على مدينة “سنجار” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. ونتيجة لذلك، يمكن لـ “قوات سوريا الديمقراطية” في “الحسكة”، ووحدات الجيش السوري في “تدمر”، أن تقوم بقطع خطوط الإمدادات والاتصالات الخاصة بقوات تنظيم «داعش» بين “عاصمتي” التنظيم، “الموصل” و”الرقة”، مما سيجعل من جيب “دير الزور” هدفاً ذا أولوية.

من وجهة نظر تكتيكية، فإن كسر الحصار وإطلاق حملة مضادة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، سيكون أمراً في غاية الصعوبة، بسبب تدمير جسرين محليين على نهر الفرات، أحدهما قام بتدميره مسلحو تنظيم «الدولة الإسلامية» في أيار/مايو 2013، أما الجسر الآخر، والذي يقع على بعد مئات من الأمتار من الجسر الأول، فقد قامت قوات النظام بتفجيره في أيلول/سبتمبر 2014. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة الأخيرة كانت تستهدف عرقلة عبور مقاتلي «داعش» للنهر، إلا أن فعلها هذا سيعرقل الجيش أيضاً، وسيمنعه من الاستعادة السريعة لموطئ قدمه على الجانب الآخر في حالة وقوع هجوم ما. ويقع أقرب الجسور على نهر الفرات على بعد 70 كيلو متراً في اتجاه الشمال الغربي لمدينة “مُقلا”، بينما يقع جسر آخر على بعد 50 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي لمدينة “الميادين”. وبدلاً من ذلك، بإمكان الجيش إنشاء جسر مؤقت داخل المدينة، أو استخدام المركبات البرمائية للوصول إلى الضفة الأخرى، وهو ما يبدو صعباً للغاية. ومع ذلك، ستكون قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاؤه من العرب في موقع أفضل، يمكنهم من خلاله، قطع الطريق على تنظيم «الدولة الإسلامية» بين الموصل والرقة. ولكن بإمكان الجيش السوري أن يساهم بشكل كبير في دعم تلك الجهود، باستعادة سيطرته على الطريق المؤدى إلى “تدمر”، والذي من شأنه أن يمنع قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» من فتح طرق بديلة على الضفة الجنوبية من نهر الفرات.

التعاون الأمريكي-الروسي في “دير الزور”؟

نظراً إلى جميع العوامل المذكورة أعلاه، يمكننا القول بأن بقاء جيب لقوات النظام في “دير الزور” هو أمر أساسي في القتال الدائر ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»؛ فإذا كانت قوات الجيش السوري، وقوات «حزب الاتحاد الديمقراطي»، و”قوات سوريا الديمقراطية”، قادرة على إحداث نقطة التقاء فيما بينها، فعندئذ ستتمكن من تطويق قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» بصورة فعالة في سوريا، ومن ثم، ستمهّد الطريق لشن حملة ضد “الرقة”. وإذا ما افترضنا أن الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء، يهمهما ـ حقاً ـ تدمير تنظيم «داعش» تدميراً كاملاً في سوريا، فيمكن لكليهما أن يساعدا في تحقيق هذا الهدف من خلال حث حلفائهما المحليين على التوجه نحو “دير الزور”. وهذا بالطبع يعني زيادة الدعم الجوي الأمريكي للقوات الكردية المتقدمة جنوباً؛ وستتطلب الحملة أيضاً دعماً جوياً روسياً لقوات الجيش السوري التي تتقدم من “تدمر”. واستكمالاً لهذا السيناريو، يمكن القول أن “دير الزور” ستصبح “تورجاو الشرق الأوسط،” وهي المدينة الألمانية المشاطئة للنهر التي التقى فيها الجيش الأمريكي والجيش الأحمر في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد انتصارهما على عدو مشترك.

————————–

(*) معهد واشنطن