نال تقدير لجنة تحكيم «مهرجان الإسماعيلية»

«الشاهد والشهادة».. كمال جنبلاط سيرة لم تنتهِ

من النادر أن يكون قرار لجنة التحكيم في مهرجان سينمائي متفقاً ومتسقاً مع آراء النقاد والصحافيين، لكن هذا الاتفاق كان حاضراً بقوة في الدورة الـ18 من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، الذي أنهى دورته الأسبوع الفائت، وسط تحدٍّ ملحوظ من قبل إدارة المهرجان لإنجاح هذه الدورة التي تميزت بنوعية الأفلام المنتقاة، وبلجنة تحكيم برئاسة المخرجة التسجيلية الجورجية الشهيرة، نينوكيرتادزى، ضمت في عضويتها المنتجة الفلسطينية مي عودة، والناقد السينمائي المصري عصام زكريا، والمخرج الأرميني هراشيا كشيشيان، وفنانة التحريك اللاتفية، أنيت ميليس، حيث استمتع عشاق السينما بمشاهدة أكثر من 70 فيلماً من 44 دولة، واعتبرت نوعية الموضوعات المختلفة، التي جاءت على شكل شريط سينمائي، جرعة من تطوير الذائقة البصرية في تلقي النوعية في الأفلام، ومن ضمن الأفلام التسجيلية المميزة التي حظيت بنقاش طويل لدى المتلقين، فيلم «كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة»، للمخرج اللبناني هادي زكاك، الذي نال شهادة تقدير من لجنة تحكيم مهرجان الإسماعيلية، حيث استطاع أن يخفف ثقل الفيلم التسجيلي، خصوصاً إذا ما تحدث عن سيرة ذاتية، وأن يجعله محط ترقب وانتباه، فزكاك هو من ألّف سيرة كمال جنبلاط، وعلى الأغلب إذا ما كانت ثمة فرصة للراحل جنبلاط أن يكتب سيرته بنفسه، لما خرجت بكل هذه الشفافية والإتقان، وأنتجت جمعية «أصدقاء كمال جنبلاط» الفيلم، فيما قام المخرج برحلة بحث بدأ بها منذ عام 2012، جاب زكاك خلالها كل المطارح التي ترك جنبلاط أثره فيها، سواء من خلال لقاءات إذاعية، أو أعمدة صحافية، وآراء بعض الوجوه السياسية فيه، وصور أرشيفية استنطقها زكاك في أكثر من مشهد، وليس انتهاء بالهند التي كان يعتبرها الراحل ملاذه الروحي.

من الممكن أن يكون الحديث عن هذا الفيلم مناسباً لما يحدث من ويلات في المنطقة العربية، خصوصاً ما تحدث عنه الراحل كمال جنبلاط، الذي كان يلقب بـ«سيد القصر»، عن علاقة الوطن العربي والشعب السوري تحديداً، مع النظام السوري، حيث قال بما معناه «أتمنى أن يتخلص الشعب السوري من الحكم الديكتاتوري المتمثل في عائلة الأسد» وحرفيا كما قال في الفيلم: “نحن لا رغبة لدينا في السجن السوري الكبير، أنقذ الله سورِيا من هذا الحكم الطاغي، وإنما قسم كبير من خلاص العرب يكون في خلاص شعبِ سوريا من هذا الحكم الذي يستتر بالشِعارات، والذي يكشف عن وجهه الحقيقي المتآمر على وجود الثورة الفلسطينِية وعلى الحركة الوطنية” ، فقد استطاع زكاك ببراعة مخرج وتصوره أن ينقل إحساس جنبلاط من خلال صوت «رفعت طربيه» الذي يشبه إلى حد كبير صوت زعيم الطائفة الدرزية، كمال جنبلاط.

تنتقل المشاهد في الفيلم عبر رحلة للتعرف على جوانب عديدة من حياة جنبلاط، الذي ولد عام 1917، واغتيل عام 1977، صور نابضة بالحياة، وتفاصيل حميمة، ورؤية استشرافية للحاضر الذي نعيشه، والتقلبات الاجتماعية والسياسية في حياة الزعيم، حيث تستشعر الحياد في كل تفصيل من الفيلم، فمن يعرف زكاك وما قدمه للسينما من أفلام وثائقية يدرك بديهياً أنه لا يتأثر إلا برؤيته، وهو صاحب فيلم «مرسيدس» الذي نال عنه العديد من الجوائز، لذلك كان لافتاً أن يبدأ زكاك فيلمه الجديد بسيارة مرسيدس أيضاً، وكأنه يكمل فيلمه، ومشهد الرصاصة التي اخترقت هذه السيارة وأنهت حياة جنبلاط، كان مشهد النهاية المتوقع، لكن زكاك أراد أن يوصل سراً من أسرار الطائفة الدرزية التي تؤمن بالتقمص، فكان المشهد الأخير لحياة جديدة تعيشها سلالة جنبلاط، في شخص وليد جنبلاط، الذي ظهر في الفيلم ليس كسياسي، بل كابن لرجل تم اغتياله وكل أصابع الاتهام تتجه نحو النظام السوري، برئاسة حافظ الأسد، حتى إظهار المسبب بهذا الاغتيال في الفيلم كان ذكياً ومدروساً بشكل مهم، حيث أعطى فرصة للتفاعل بين المشاهدين والحدث، بأن يتكهنوا صاحب الرصاصة التي أودت بجنبلاط شهيداً.

«الموت وهم» عبارة من عبارات كثيرة قالها الراحل جنبلاط رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وزعيم الأحزاب اليسارية والحركة الوطنية، وزعيم طائفة الدروز الموحدة، الذي كانت له علاقات كثيرة مع قادة العالم والأحزاب، فتراه مع الراحل جمال عبدالناصر، وتراه مع مؤسس وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الراحل، جورج حبش، والرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، والعديد العديد من الأسماء السياسية التي تظهر عبر أرشيف صور، تنتقل مع جنبلاط وهو سيد القصر الذي قال عنه «غالبا ما أسمى هنا “بسيد القصر، البعض يضع في التسمية ظلال سخرِية كما لو كان ذلك يتناقض مع واقع كوني زعيما تقدميا، وأنا أقبل هذا النعت لا النوايا، فلا بد للمرء من أَن يكون سيدًا بالمعنى الحقيقِي للكلمة ذلك أَن معنى كل حياة هو أن يكون المرء سيد نفسه»، فهو سيد القصر الذي عاش فيه مع زوجته وابنه الوحيد وليد جنبلاط، الذي عاد إلى القصر ليسرد للمشاهدين حياته مع والده الراحل، ويجوب مع كاميرا زكاك أروقة القصر وغرفته ومكتبه، وغرفة التأمل، هذه الغرفة التي كانت مرتبة بشكل بسيط.

هذا الفيلم المصنوع بعوامل فنية عديدة ومميزة أدارها وبحث عن محتواها، المخرج هادي زكاك، أراد أن يحكي السيرة الذاتية بشكل غير متعارف عليه، فقد أحيا زكاك روح جنبلاط مرة أخرى، فجعله الراوي لحكايته التي مازالت مثار أسئلة كثيرة لم تجد الإجابة بعد.

كثيرة هي المعلومات في الفيلم، الذي يدور في 95 دقيقة، كثيرة هي التفاصيل، والمشاعر التي قد يؤججها العديد من المشاهد، لكن الخلاصة تؤكد أنه لو تم إعطاء فرصة للحياة لمدة أطول لمثل هذه الشخصيات سواء اتفقت معها أو اختلفت، لكان الكثير من المشاهد السياسية الحالية قد تغير، فالاغتيال عادة يصيب من أراد الحياة.

———————————–

(*) الامارات اليوم