كيف تحول مقاتلون سابقون الى محاربين من أجل السلام؟

كتبت نضال داوود

من مقاتلين في زمن الحرب الأهلية اللبنانية الى محاربين من اجل السلام، استبدل مجموعة مقاتلين من إنتماءات حزبية يسارية ويمينية بندقيتهم بشعار السلام، ويحاولون زرعه في عقول الشباب اللبناني، لعدم إنجراره الى أتون حرب يقضي على أحلامهم ومستقبلهم.

25 مقاتلاً سابقاً بعدما خبروا حمل السلاح والقتال بسن راوحت بين 14 و20 عاماً، يحملون ما لديهم من خبرة وذاكرة مثقلة بأبشع صور الحرب، يعقدون حلقات حوارية، وورش تدريب على حل النزاعات السلمية، لحث الشباب على تقبل الآخر الذي يشبه بشخصيته وأفكاره، ومشاكله.

القياديون السابقون زياد صعب بالحزب الشيوعي، واسعد الشفتري الذي تنقل بين الكتائب، والقوات اللبنانية فحزب الوعد، وبدري ابو ذياب من الحزب التقدمي الاشتراكي. مقاتلون تصالحوا مع ذاتهم ومع بعضهم البعض، بعد العودة الى الذات، ومراجعتها، عبر جمعيات مجتمع مدني، اوصلتهم اثر اندلاع الاحداث بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس عام 2012 الى إطلاق “محاربون من اجل السلام”. يعملون يداً واحدة لتعزيز الحوار والتلاقي، وتقبل الآخر، والتوعية على ان العنف لا يؤدي الى حل. قناعة توصلوا اليها بعد مسيرة حافلة بالاقتتال والبطولات الوهمية ، يروون تفاصيلها لجريدة “الأنباء” الإلكترونية.

زياد صعب

مؤسس جمعية “محاربون من اجل السلام” المقاتل والمسؤول السابق بالحزب الشيوعي اللبناني زياد صعب من راشيا الوادي، يروي لـ “الأنباء” ما يلي: “حملت السلاح قبل التاريخ الرسمي للحرب، وبسن الرابعة عشرة، عند وقوع اشتباك بين الجيش والفدائيين”. ويقر ان اسباب ثلاث دفعته لحمل السلاح بسن مبكرة، “أولها متعلق بموروثات الأجداد وبطولاتهم ضد الانتداب الفرنسي، واسماءهم على اللوحة التذكارية، وثانيها اقتصادي – اجتماعي لجهة سعيي لتغيير الواقع للتماثل مع الأبنية الشاهقة التي كانت ترتفع في حينه بمحيط النبعة. اما السبب الثالث فإيديولوجي”.

ويروي: “قصة دخولي الحرب طريفة، برغم بشاعة ما استتبعها من محطات. كان يحضر أحد المشايخ الى بيتنا في النبعة لمناقشة والدي بشؤون الدنيا والآخرة، ما يستدعي بوالدي الطلب منا ملازمة غرفة أخرى من دون ضجيج. بحثت عما يمكن ان يكون ضد الشيخ، ووجدته بالحزب الشيوعي الذي استقلت ومجموعة منه قبل شهرين من التاريخ الرسمي لاندلاع الحرب، لأنه لم يسع للتغير باستخدام العنف الثوري بمواجهة العنف الرجعي، ولأتلقى في 13 نيسان 1975 اتصالاً للعودة إليه. يومها كنت طالباً بثانوية برج حمود الرسمية التي كلفنا افتتاحها بالحسينية اضراباً مفتوحاً وتوقيع عريضة حملت 100 الف توقيع”.

war15

“بدأ نشاطي السياسي الفعلي بنضال مطلبي”، يتابع صعب، ويضيف: “تدرجت بالحرب الأهلية من مقاتل الى مسؤول عن القوات المركزية بالحزب. وعندما انتهت الحرب بعدما تمنيت ذلك، سلمت سلاحنا للجيش وفق ما نص عليه اتفاق الطائف، وقدمت لوزير العدل لائحة بــ1200 مقاتل من اختصاصات عسكرية مختلفة ليتم الإختيار من بينهم لإلحاقهم بالقوى الأمنية الرسمية. لكن لم يؤخذ احد منهم”.

ويتابع صعب: “لازمت البيت 6 أشهر، وعملت على تحويل صناديق الذخيرة الخشبية الفارغة الى اثاث منزلي. كنت امام خيار الهجرة الى بلد لا يعرفني فيه احد لأني تعلمت كيف اهدم بناء وليس كيفية بناءه. كنت يومها في التاسعة والعشرون من عمري. لكني عدت عن قراري، وأنشأت ومجموعة من الشباب مزرعة دمرتها اسرائيل لاحقاً”.

صعب الذي اكتشف عبر قراءاته ان معظم المقاتلين السابقين يلجأون الى الطبيعة كعلاج شفاء، طلب منه العمل بوزارة المهجرين، حيث وجد صعوبة الانضباط بوظيفة بعدما كان مسؤولاً عن مجموعة كبيرة من المقاتلين. ويضيف: “قررت العمل على ملف التلاقي بين المقيمين والمهجرين، فشكل ذلك نقطة تحول ايجابية بحياتي، ومع اول لقاء شبابي نظمته بمجدل معوش، جمعنا فيه 60 شاباً وشابة. وخلال تقييمنا لنشاطات المخيم والمقابلات، قالت لنا صبية وهي تبكي أننا دمرنا علاقتها بعائلتها التي تحبها لعدم قدرتها النظر اليهم بعدما اكتشفت اننا نشبهها. هذه الحادثة، جعلتني أفكر انه يمكننا تغيير القناعات بالحوار. فسلكت هذه الطريق، لاسيما واني أشارك بنشاطات حركة السلام الدائم”.

وعن انشائه جمعية “محاربون من أجل السلام”، يعلق صعب: “برزت الفكرة خلال دردشة مع مجموعة من المقاتلين السابقين لجهة كيفية تقديم أنفسنا نموذجاً. وعندما إندلعت احداث جبل محسن – باب التبانة في 2012، عقدنا مؤتمراً صحافياً وجهنا نداء من مقاتلي الأمس الى مقاتلي اليوم، واكتشفنا انه يمكننا السير بفكرتنا. انطلقنا بـ 5 أشخاص وأصبحنا اليوم 25 مقاتلاً سابقاً من كل الأطراف بعدما كنا نمثل 3 أطراف متنازعة باستثناء تلك التي لا تزال تعتقد ان السلاح يحقق ما تريده”.

يقول صعب “سلاحنا الحوار المباشر بيننا وبين الشباب بسن 14 و25 عاماً، لأنهم الأكثر قابلية لوقود الحرب ويمثلون عمرنا، والأفلام الوثائقية المرتبطة بالحرب من موقع نقدي، وورش عمل حول النزاعات المسلحة بطرق سلمية، والمسرح على انواعه، لرواية قصص عن الحرب. تنشط الجمعية، وبشكل شبه يومي على تنظيم حلقات حوارية بمختلف المناطق، والجامعات والثانويات الرسمية والخاصة. نجسد قوة جذب للطلاب الذين يريدون مشاهدة شكل الديناصورات الخارجة من الحرب، فيرون اننا مثلهم”.  ويلفت إلى أن “عملنا لا يظهر الا بتغير السلوك، والدليل اننا مؤخراً وفي ورشة عمل بالجامعة اللبنانية – الأميركية في جبيل، قالت لنا طالبة انها تعرفت علينا قبل ثلاث سنوات بمدرستها ودفعناها لتأسيس مجموعة “التربية على السلام”.

ويشير صعب إلى أن الجمعية “تعمل أيضاً مع قياديين شباب سوريين يرون بما نقدمه لهم املاً بأن سوريا ستقف شرط الاعتراف بالآخر”. وبما يقومون به، يدرك انه “ليس لدينا أوهام أبدأ بإحداث تغيير، لكننا كغيرنا نعمل على بناء السلام على طريقتنا. دخلنا الحرب وكان البلد بكل ملاحظاتنا عليه يحافظ على تماسك عملته التي كانت تعتمد عملة صعبة، وباحتياطي خاص للدولة بالمصرف المركزي، والمياه تتدفق من الصبنور، وعامل النظافة يقرع الأبواب لجمع النفايات”.

بدري ابو ذياب، من بلدة الجاهلية الشوفية، مقاتل سابق في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما اندلعت الحرب ويفرح لغياب الأساتذة  بسببها. ومع اشتداد الحرب، كان يتحمس لرؤية البذة العسكرية على أجساد شباب البلدة، وما كانت ترمز اليه من عنفوان، الى ان بلغ الثامنة عشرة من عمره، وليلتحق بالحزب، وبدورة تدريب على حمل السلاح بروسيا.

بدري ابو ذياب

يروي ابو ذياب لـ “الأنباء”: كنت أوزع وقتي بين الدراسة ومساعدة والدي خلال السنوات الأولى من اندلاع الحرب. دفعني الاجتياح الاسرائيلي للبنان بصيف 1982 للانجرار وراء الانتصارات الوهمية، واثبات الذات بصفتي مسؤولاً عسكرياً. كان والدي – رحمه الله – يطلب مني مع انتهاء كل جولة قتال التوقف نهائياً عن المشاركة بها. الا ان العمل العسكري جذبني الى ان انتهت الحرب، فتسجلت في 1991 بالجامعة لدراسة العلوم السياسية والادارية، كسلاح آخر لحياتي الجديدة”.

“نقطة التحول الاساسية بحياتي”، يقول ابو ذياب “كانت في العام 1992، عندما طلبت للعمل على ملف العودة  بوزارة المهجرين. بدأت بلقاء الآخر، والاستماع الى معاناته، فتحركت مشاعري الانسانية، والتساؤل عما سأكون عليه لو أن الأمور حصلت معي. وذات يوم، تقدمت عجوز ترتدي قلادة فيها صورة لابنها الشهيد، وقالت لي انها تريد تقديم طلب لترميم بيتها الذي حوله “الزعران” الى ثكنة. وبعدما استوضحتها عن موقعه بالتفاصيل المملة، اكتشفت اني المقصود بكلمة “زعران”، وأيقتنت انه فيما يعتبرني جماعتي بطل، فإن الطرف الآخر يراني “أزعر”. أدركت بوجود خطأ ما. وبعدما تعرفت على مقاتلين سابقين، خطونا باتجاه بعضنا، والتقينا بالعمل المدني ومستمرون به من اجل تقديم أنفسنا كنموذج ليدركوا ان التقاتل طريقة وأفقه مسدودان”.

ويوضح ابو ذياب: “اقدم تجربتي للطلاب، وأقول لهم اننا اختلفنا وتقاتلنا، واكتشفنا ان التلاقي اهم بكثير من التقاتل. أعيش شعار “الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم”، اي معرفة الذات والآخر وتقبله وصولاً الى تهذيب خطابي وثقافتي وتغيير الكثير من مفاهيم الانسانية التي تقود الى الحل. هذه الأمور سمحت لي عند لقائي بالآخر الذي واجهته وجهاً لوجه  بالحرب  ملاقاته. لذا، ادعو كل مقاتل من اي جهة كان، الانسجام مع نفسه والخروج من قوقعته، من دون التخلي عن أفكاره وحزبه، لتحقيق التلاقي الذي أحققه اليوم عبر الجمعية  والندوات. نحاول جذب الشباب للاتعاظ من تجربتنا، بعدما لم استمع لما كان يقوله لي والدي عندما كنت بسنهم. يحتاجون لتجربة أشخاص عاشوا الحرب التي لم تكن صوراً وفيديو على التلفزيون بل ضحايا ودمار. نسلط الضوء على المآسي كي لا يكرروها”.

 وفيما يرى ان ما يقومون به “عمل طويل وشائك”، يؤكد “اننا نضيء” شمعة بدلاً من لعن الظلام، لإننا نحاول ايجاد فسحة تلاقي. صحيح اننا لا نستطيع وقف حرب اذا اندلعت، لكننا ن نساهم بانقاذ حياتهم. وبذلك، نقوم بواجبنا وبدفع ديننا للمجتمع الذي ساهمنا في تدميره وتشريده وقتل أولاده، ومحو ذنوبنا، وتنقية ذاكرتنا”.

اسعد الشفتري، اسم لمع بالحرب التي دخلها قبل اندلاعها بانتسابه عام 1974 الى حزب الكتائب اللبنانية. وعندما اندلعت الحرب، كان الى جانب الرئيس الراحل بشير الجميل. ويروي لـ”الأنباء”: “كلما كان مركز بشير متقدماً، كنت اتحول لموقع متقدم، حتى اصبحت في 1985 الرقم 2 بجهاز الأمن والاستخبارات بعد حبيقة. شاركت بمفاوضات الاتفاق الثلاثي، لننتقل الى زحلة بعد الانقلاب عليه، وتأسيسنا حزباً للقوات. وبعد محاولة دخولنا الاشرفية في ايلول 1986، عدنا الى البقاع وأسسنا حزب الوعد، ولنعود الى الاشرفية في 13 تشرين الأول 1990 مع الجيش السوري، ولأبقى بالحزب حتى 1995”.

زياد الشفتري

بعد لك التاريخ، يضيف الشفتري “اصبحت حراً بعدما ساعدتني أفكار جمعية “التسلح الخلقي” التي تعرفت عليها في 1988 . أصبحت إنساناً جديداً. إقتنعت أن التغيير يبدأ بالذات قبل تغيير العالم، وقياس حياتي وفق معايير الصدق، والطهارة، وأفكار الذات والمحبة”. ويروي: المرة الأولى التي نظرت فيها الى المرآة بعد اندلاع الحرب، رأيت نفسي بشعاً، فقررت الانطلاق بعملية التغيير ومستمر بها. وما حققته، أوصلني للعمل مع من قاتلت ضده، وتحت مظلة عدة جمعيات مدنية، آخرها “محاربون من اجل السلام”.

عن هذا التلاقي، يقول:”بعدما التقيت الآخر بمفاوضات الاتفاق الثلاثي، وجلساتها الخالية من الانسانية، التقيت الآخر الحقيقي بجلسات حوار جمعية “التسلح الخلقي” في أديرة بعيدة عن الاعلام. شعرت بداية اني اريد إبراز ما لدي ضد هذا الآخر، الذي بدوره لديه لائحة طويلة من الملاحظات على أدائي في الوطن كمسيحي. اكتشفت اننا لسنا مختلفون كما كنت اعتقد. سقطت منظومة الأحكام المسبقة على الآخر، وأدركت اني استطيع الاستماع إليه بسهولة، وبأن أفكاره صحيحة. تعلمت تطعيم أفكاري بأفكاره. وهذه كانت الخطوة الأساسية بحياتي”.

أما الخطوة الأهم فهي “محاربون من أجل السلام”. ويقول: “رأينا ان ما يحصل في طرابلس قد يشعل حرباً، فقررنا توعية الشباب لتفادي جرهم الى هذه اللعبة. نوجه رسالة مزدوجة، الاولى تقول ان السلاح والعنف ليسا الحل، والثانية تدعو للعمل سوياً من أجل المصلحة العامة، للوصول الى بلد مسالم. وعما اذا تصل رسائلهم يعلق: بحسب الأصداء تصل. عملنا لا يوزن بالمثقال، لأن ما نفعله هو نثر بذور السلام. نسعى لتغيير حياة شباب اليوم نحو الأفضل كما تغيرت حياتي، وأصبح لبنان كله وطني، بعدما كان للفئة التي انتمي لها. بات لدي قناعات جديدة، وخطابا موجهاً للشباب الابتعاد عن العنف، والذي  أقول له أخرجوا من قوقعتكم واكتشفوا الآخر. فهذه الخطوة، ختم ستكشف لهم انها ستلاقي بخطوتين، ومد اليد ستتحول الى احتضان. فهؤلاء يريدون ايضاً العيش في بلد مستقر”.