الفوضى أخطر من الحرب

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

13 أبريل 2016، الذكرى الحادية والأربعون لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان التي دامت خمسة عشر عاماً، أكلت الأخضر واليابس ودمّرت كل شيء، وخلالها وبعدها كانت حروب مع إسرائيل العدو الوحيد لنا. وإذا كان ثمة ضرورة للعودة إلى تلك التجربة فبالتأكيد ليس لنكء الجراح، بل لمزيد من التبصّر والتفكير واستخلاص الدروس والعبر لتجنب تكرار ما جرى والبحث دائماً عن اتفاقات بيننا كلبنانيين تعزّز مناعتنا الداخلية، ووحدتنا الوطنية وتلاقينا حول بناء دولة راعية لكل أبنائها. بعد توقف الحرب، وتحرير الأرض من إسرائيل عام 2000 وكسر العدوان الإسرائيلي عام 2006، قلت أكثر من مرة: انتصر الشعب اللبناني مرتين: مرة على ذاته بالخروج من الحرب والذهاب نحو المصالحة وإعادة البناء والإعمار، ومرة ثانية بالانتصار على إسرائيل، لكن الحياة تعلم، والتجارب التي مررنا بها جعلتني أقول لاحقاً: نحن جديرون بالنضال من أجل الحرية والتحرير، لكننا حققنا التحرير ولم نتحرّر.. وبالتالي لسنا جديرين بالحرية وممارستها! هذه هي الحقيقة وللأسف، نحن أبطال، رجال أشداء أقوياء بعزيمتنا وإرادتنا وانتمائنا الوطني، وهذا ما جعلنا ننتصر على إسرائيل ونحرّر أرضنا منها دون قيد أو شرط، لكننا لم نثمّر انتصارنا. وبدل التثمير كان التدمير، نعم عندما دخلنا في لعبة الزواريب الضيقة والمذهبية، واستُخدم السلاح في الداخل، انحرفنا وانجرفنا نحو متاهات لم نخرج منها بعد. وعندما ذهبنا إلى سياسات التعطيل والنكايات والأحقاد أضعنا الفرص التي كانت متاحة أمامنا للافتخار بالانتصار والإنجازات والعمل على تكريسها واستكمالها. ما حصل هو العكس، ولذلك ما تحقق من إنجازات تبدّد، وما بقي من أحلام مهدّد! وهذه نتيجة كارثية بعد التضحيات الهائلة التي قدمناها كلبنانيين كل من موقعه دفاعاً عن «لبنان العظيم»!

وكتبت سابقاً وفي ذكرى اندلاع الحرب ذاتها: لبنان يعلّم واللبنانيون لا يتعلمون! كل العالم يشيد بلبنان وتنوّعه والخبرة السياسية التي يمكن اكتسابها فيه والفرص الكبيرة التي تتاح للدبلوماسيين المعتمدين فيه أو المكلفين متابعة شؤونه وشؤون المنطقة. فلبنان يُقرأ من الخارج ومنه يمكنك قراءة كل السياسة الخارجية في الشرق الأوسط وما بعده! مع ذلك، نحن لا نتعلّم. لم يعد لدينا ذوو خبرة ومعرفة وكبار في إدارة الشأن السياسي وممارسة السياسة إلا قلة قليلة جداً للأسف. الغالبية العظمى هي من العاملين في السياسة وليست من السياسيين وثمة فرق كبير بين الأمرين، فالسياسة التي هي شرف قيادة الرجال كما كان يقول كمال جنبلاط هي ثقافة ومعرفة ومتابعة وقراءة دقيقة للواقع ورصد للوقائع والحقائق والمعطيات وتحليل سليم عقلاني بعيد عن العاطفة والتمنيات، وحاسة شمّ واستقراء وخبرة… فأين نحن من كل هذه الصفات في من يتولى شؤون إدارة البلاد اليوم؟ البلاد الغارقة في النفايات ومسلسلاتها بروائحها الكريهة وفضائحها التي لا تصدق، وبالإتجار بالبشر، وشبكات الإنترنت غير الشرعي، والسرقات والفساد في المؤسسات والإدارات، والفضائح في أهم المؤسسات المعنية بأمننا وحقوقنا ورعاية حقوقنا اليومية. البلاد التي نرى فيها وقاحة في الاستباحة للمال العام والإدارة لصالح فئة قليلة من اللبنانيين. البلاد التي نستيقظ فيها كل يوم على فضيحة مدوِّية، فنعيش واقعاً يقول: ملف يبلع ملفاً، وفضيحة تغطي فضيحة، ولا نصل أبداً كأفراد وجماعات إلى حق أو حقيقة ولا يحاسب أحد! وهذه هي الفضيحة الكبرى، خصوصاً أن كل الذين يتعاطون السياسة يرفضون الواقع ويدعون إلى المحاسبة، حالة غريبة عجيبة، فهل ثمة من يرتكب مثل هذه الارتكابات دون أن يكون مطمئناً إلى حماية مسبقة موفرة له من هذه الجهة أو تلك؟ فيعطّل القضاء ويحمى الفاسدون بعدم إدانتهم أو تبرئتهم أو بتجميد ملفاتهم بسبب التدخل السياسي، وذهاب حماة الفاسدين في مواقفهم إلى ضمان مصالحهم من جهة، وإلى اللعب على وتر المذهبية والطائفية من جهة أخرى، وكأن للسرقة مذهباً أو ديناً أو طائفة! وإذا أوقفت سارقاً أو مرتكباً بادر «كبار المسؤولين» إلى سؤالك: أليس ثمة غيره؟ أليس ثمة مرتكبون من طوائف ومذاهب أخرى؟ ووصلنا اليوم إلى مرحلة إذا نقل فيها موظف من الفئة الخامسة أو السادسة إلى مكان غير المكان الموجود فيه لقامت قيامة الطوائف والمذاهب وعلت صرخات «الروحيين» «والسياسيين» دفاعاً عن الكرامة والحقوق، وكل ذلك لا علاقة له بالقانون أو بالدستور أو بالآليات المعتمدة أو بصلاحيات الجهات المعنية.

lebanona

إنها حالة من التسيّب والتفلّت وانعدام الوزن والجاذبية! حالة يمكن أن يحصل فيها كل شيء يومياً، ويمرّ دون أن نتعلّم منه أو نحاسب فيه المعنيين!

إنها حالة الفوضى الكاملة الأخطر من حالات الحرب دون مبالغة. عشنا الحرب، كان لها قواعد وضوابط وسياسات وتحالفات ووضوح، وكان فيها تواصل بين الناس وكان لها اقتصادها وتمويلها ولم يعش الناس ضائقة كالتي يعيشونها اليوم، والأهم كان الكل يتوق إلى الدولة! الخطورة اليوم، وفي ظل الفوضى التي نعيش أن لا حرب في لبنان، لكن الدولة تحتضر، فإلى أين يذهب الناس أمام الكمّ الهائل من المخاطر والتحديات وزنّار النار الذي يحيط بنا؟ يكاد اللبنانيون يعيشون حالة فقدان الأمل، ويلامس بعضهم حدود اليأس، ألا يستحق ذلك وقفة ضمير شُجاعة لوقف مسلسل الانهيار قبل سقوط الهيكل على الجميع؟ والخروج من أسر نظريات المؤامرة وكأن الفساد ومسلسل الفضائح مؤامرة خارجية علينا بينما هو من صنع أيدي «كبار» اللبنانيين وأزلامهم في الإدارة! إنها مناسبة للدعوة إلى تسوية سياسية بيننا تعيد تفعيل مؤسسات الدولة وتطلق مجدداً مشروع إعادة بنائها وغير ذلك، فعلى لبنان التنوّع والحرية والإعلام الحر والديموقراطية والعدالة.. السلام!