الحياة العصرية وزيادة الحاجة لدور الدولة / بقلم د. ناصر زيدان

يفرض نمط الحياة العصرية الذي انتشر على شاكلة واسعة بين شعوب الارض دوراً مركزياً متنامياً للدولة، ذلك ان الترابط الاجتماعي والاقتصادي مع مستوجبات الامن والسياسة، لا يمكن ضبطه، او تحقيق التوازن بين خطوطه إلاَّ من خلال وسيطٍ قادر على اخذ القرار، وتنظيم المُندرجات المُتعددة لجوانب السيرورة البشرية. والوسيط القادر – او صاحب القرار – هو الدولة، لأن الابتكارات السوسيولوجية والتكنولوجية والبيوجينية، لم تُقدِّم حتى الآن بديلاً عن دور الدولة كناظمٍ إلزامي لحياة الناس.

 واثبتت التجارب المُعاصرة للشعوب– اي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية – انه حيث يوجد دولة قوية، تسيرُ عجلة الحياة برشاقةٍ وانسياب، وعندما تكون الدولة ضعيفة – او غير موجودة – ترتبكُ العجلات، وتنتشِرُ الاخفاقات لدى الشعوب في الجوانب المُتعدِدة، بصرف النظر عن نوعية هذه الدولة، او طبيعة الحكم فيها، بشرط ان تتوافر المقومات الموضوعية في الدولة والتي تعني كل الشعب، بمعنى ان لا تكون مطيَّة شكلية يستخدمها شخص او حزب أو جماعة من أجل تحقيق اهدافهم الخاصة.

القوانين الدولية التي انتجها الانتظام الدولي منذ تأسيس الأُمم المتحدة في العام 1945 تحتاج الى أدوات تنفيذية لتجسيدها على ارض الواقِع، ولتطبيق مضامينها المُختلفة. وهذه القوانين عالجت عناوين وشروط الحياة العصرية من جوانبها المُختلفة، ولعلَّ اهم هذه الجوانب؛ مبدأ المساواة بين البشر، والحقوق البديهية للإنسان في العيش بكرامة وبسلام، ناهيك عن الجوانب الأُخرى التي تطال تأطير الحياة الدولية في تنوعاتها المُتعدِدة؛ الامنية والصحية والغذائية والسياحية والقضائية والمدنية والاجتماعية، وفي سياقات الانتقال والتواصل وتبادل السلع والاموال. وكل هذا التنظيم لا يعني شيء، ولا يتجسَّد واقعاً ملموساً؛ إلا من خلال اجهزة حكومية فاعلة، لا تنضوي تحت سلطان التأثيرات الفئوية او العصبية او الشخصانية.

اما المُشكلات العصرية التي تواجه البشرية –  لا سيما حالات الفُقر والمجاعة والعَوز وعدم الاستقرار والشعور بالدونية وقمع الحريات – فهي تحتاج الى دورٍ فاعلٍ للدولة، ونكاد نقول ان تفاقُم هذه المُشكلات ناتجٌ عن غياب دور الدولة، خصوصاً في مجال الرعاية الشاملة، وان بعض هذه الاخفاقات مصدرهُ خللٌ في بُنية بعض الدول، او بسبب عجز بعضها الآخر، او تخلُف عدد منها عن القيام بواجباتهم، او بسبب عدم قدرة هذه الدول على مُعالجة تلك المُعضلات.

وترابط الحياة الدولية العصرية في مختلف جوانب الانشطة، خصوصاً في الاقتصاد والصحة والامن والاحوال الشخصية، وفي تحديد مُندرجات الجودة النوعية المُتخصِصة في تقديم الخدمات والسلع. كُل ذلك يُعزِّز الحاجة الى دور الدولة.

النمطية الاستهلاكية، والماكينة الانتاجية المُتطورة التي يشهدها عالم اليوم، لم تتمكَّن جميعها من الاستغناء عن دور الدولة. والشركات العابرة للقارات، والتي اعتقدت انها يمكن ان تستغني عن الدخول في الهيكلية العامة للإنتظام المحلي – او العالمي – شعرت بإستحالة التحلُّل من هذا الانتظام، وسلَّمت بالانصياع للمنظومة القانونية على مُختلف مستوياتها – المحلي منها والدولي – لأن هذه الشركات العملاقة – منفردة ومُجتمعة – ادركت بأن استقرار حركيتها الصناعية والمالية والتجارية ، لا يمكن ان يتوافر إلا من خلال منظومة تشريعية وتنفيذية، مُمأسسة في سياقٍ دستوري واضح، يتعاملُ مع الاشخاص الطبيعيين والاشخاص المعنويين (الشركات والمنظمات) بمساواةٍ تلحظها القوانيين المشروعة، والمرعية الإجراء. ولم تتمكن “كارتيلات” الشركات الكبرى من إنتاج منظومة مُستقلة عن الدول، تحمي مصالحها وترعى انسياب حركيتها، برغم الامكانيات المالية الهائلة التي تحوُزُ عليها هذه الشركات.

ولعل المنظومة المالية الرقمية المتطورة التي يتعامل بموجبها عالم اليوم- عنيتُ البنوك – تفرض اكثر من غيرها الحاجة الى دور الدولة، من خلال وجهين مُختلفين:

الوجه الاول؛ هو في حماية المواطنين من شراهة هذه المنظومة المالية التي لا تتوانى عن السعي لإمتلاك كل شيء، وبالتالي سيكون البشر بالنسبة لهذه المؤسسات المالية الكبرى نوع من السلع المُقيَّمةِ البدل. بالمقابل فإن تحرُّر هذه البنوك من الضوابط القانونية – المؤسساتية، سيترك لها فرصة استباحة كُل شيء، وبالتالي الاستحواذ على الثروات الطائلة، والاستخفاف بالحياة البشرية برُمتها، على طريقة “معك ليرة بتسوى ليرة”.

الوجه الثاني؛ هو في عجز هذه المنظومة المالية عن حماية نفسها بنفسها، لأنها مُعرَّضة على الدوام لخطر إنفلات الجماعة من القيود، عندما يصل الامر بهذه الجماعة الى الحاجة الماسة، وبالتالي فإن الاعتراضات الشعبية ضد مؤسسات الاحتكار – ومنها البنوك – تُشكلُ خطراً مُحدقاً على هذه المنظومة، ولدينا نماذج مُتعدِدة عن هذه المُقاربة. ناهيك عن حاجة المنظومة المالية الى تشريعات لا يمكن القفز فوقها، ولا يمكن الولوج الى ثقة المواطنيين بهذه المؤسسات المالية؛ إلا من خلال الارضية التشريعية، والثقة هي المصدر الاساسي الذي ترتكز عليه استمرارية عمل البنوك المالية.

الشخصية المُجتمعية – او ما يمكن تسميته الموروثات السوسيولوجية للشعوب – لها تأثيرت كُبرى على الدولة. ويتراوح مدى الفهم المُجتمعي للدولة وفقاً للمزاج العام للشخصية المُجتمعية؛ بين شعوب تعتبرها رمزاً للكرامة الوطنية او للشوفينية العرقية او للإعتدادالقومي، وبين شعوب تعتبرها سلطاناً جائراً، وسيفاً مُسلطاً على حياة المواطنين، قَدِم مع الاحتلالات الامبراطورية ومع الاستعمار، او أنها اداة للتسلُّط ولسلب الحرية ولِسرقة الثروات.

كيف ينظر المزاج الشعبي العربي لدور الدولة، وما هي اهمية هذا الدور في الزمن الراهن؟

لا ينفُر المزاج العربي العام من دور الدولة، وفي ذهنية الاغلبية المُطلقة من الشعوب العربية صورٌ ناصعة عن تجربة دولة الخلافة الاولى، او عن التجارب الاموية والعباسية وغيرهما. ومع خضوع الواقع العربي للهيمنة العثمانية، ومن ثم للإستعمار الغربي، وفيما بعد للتدخُلات الخارجية الامبريالية؛ حصل تشويش هائل في ثقافة المواطن العربي، وصلت الى حد إعتبار الدولة اداة لتغيير واقع الانتماء القومي العربي (تجربة الجزائر وبعض المغرب العربي إبان الاستعمار الفرنسي) او انها في احيان كثيرة وسيلة لفرض الانماط الخارجية على الحياة العربية – او الاسلامية – ولكن هذه الرؤية وتلك لا تنفي كون الشعور العربي العام يتفهَّم ضرورة وجود الدولة، بصرف النظر عن الواقع القبلي الذي يتحكَّم بالسوسيوبوليتيك في عدد من المناطق العربية.

لا يمكن التماشي مع مُندرجات التطور العام للحياة العصرية في جوانبها المختلفة بمعزل عن السياق العام لتطور مفاهيم الدولة، وتنوع ادوارها وتعدُّد مهامها. وانواع الدول؛ لا يخفِّف من مكانة دورها. فالدولة؛ اذا كانت برلمانية او رئاسية، ملكية او جمهورية، ديمقراطية او ديكتاتورية، يبقى لها دور اساسي في تنظيم الحياة العامة في الاقليم المُحدَّد لها، من خلال احتكارها الطبيعي للتشريع والتنظيم وحصرية امتلاك السلاح (او حصرية بناء القوى العسكرية النظامية).

تلك المهام التوحيدية الجامعة للدولة، تبقى ضرورة إلزامية للحياة العصرية، لا يمكن القفز فوقها، والانفلاشات الفوضوية المُخيفة التي يتطلَّع اليها البعض – من الافراد او الجماعات – توصِل الى هاوية حتمية لايمكن ان تنتظم حياة الناس فيها إطلاقاً. ان الرغبة بتغيير انماط ادوات الحكم، او التطلُّع الى تطوير اداء السلطة؛ شيء، وتدمير فكرة الدولة؛ شيءٌ آخر. فالنزعة الانسانية الفطرية نحو الرؤية الاولى؛ مشروعة، اما التطلُّع الى الرؤية الثانية على خلفية الانتقام – او احياناً على خلفية الهلوسة السياسية والعقائدية – فهو تدميرٌ للذات، وتشويهٌ للإسلام الراقي، ودخولٌ في مجهول مُعتِم، والحياة العصرية تحتاج الى ضوءٍ مُنفتِح الأُفق.

تقنيات التواصل الجديدة، وتطور علم الاداء الاداري، والتغيير الهائل في نمطية الانتاج على اختلافه؛  الصناعي والخدماتي والزراعي والسياحي والمالي، كلها بحاجة الى ناظمٍ قادر- اي الى دولة قادرة – ومن دونها لا يمكن ولوُج العصرنة، والعيش خارج العصر موتٌ مُحتَّم.

التعاضد الشعبي العربي من اجل بناء دولٍ وطنية قادرة – من دون استعادة تجربة الديكتاتورية المُدمِّرة لبعض القيادات العسكرية – واجبٌ قومي، علينا العمل في سبيلهِ قبل فوات الأوان.