ركيزة ثالثة للديموقراطية اللبنانية – بقلم منح الصلح

 منح الصلح كاتب عروبي ومفكر لبناني، تمتع بعمق التحليل وخفة الظل وترك عدداً من المقالات التي عكست مواقفه الوطنية والقومية والعروبية. 

إذا كان اللقاء برجال الدين يكون أحياناً للاعتراف، فإن اللقاء معكم في مثل هذا المقام للتعرف والتعارف وهو أسهل لي ولله الحمد ولهذه المؤسسة أيضاً، مركز عصام فارس بإدارة الصديق الاستاذ عبد الله بوحبيب، التي أعرف فضلها في مسيرة هذا الوطن. لقد نعت أمين الريحاني المتن أنه قلب لبنان. وعشنا حتى اكتشفنا ان لبنان بحاجة فعلا الى قلوب تحب كما الى عقول تنير الطريق، ولعل القلب والعقل معاً ضروريان لدل اللبناني اين الطريق.

البداية في رأس بيروت

نشأتُ في عائلة لبنانية عروبية، لا تعمل إلا في السياسة او مشتقاتها كالصحف والكتابة والنوادي السياسية. هكذا كانت عائلتي لجهة أبي، ولكنّي كنت أحفظ لأمي التركية المتحدرة من عائلة عثمانية ملكت حتى امس قريب ملكا في بقاعنا اللبناني، نصرتها الحماسية لمصطفى كمال العلماني. فالمرأة التركية من دون أن تتنكّر لتاريخ تركيا الطويل تعصّبت لأبرز علماني أخرجه الشرق.

تأثرت أثناء دراستي الابتدائية بجو رأس بيروت منذ دخولي مدرسة السيدة أمينة الخوري المقدسي الانجيلية الراقية المنفتحة على العالم والتقدم، لكن العروبية أيضاً، فأخوها أنيس الخوري المقدسي هو من قال في قصيدة: «كفوا البكاء على الطلول الهمد ليس القضاء على البلاد بمعتد … تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طغى الخطب حتى غاصت الركب».

درست كذلك سنة في المقاصد ولكن بعد أن كنت قد طردت من الكلية الثانوية العامة (اي سي) القسم الفرنسي لمشاركتي في نشاط سياسي، لأعود فأتخرج من الجامعة الاميركية بشهادة (ماجستر) أستاذ آداب.

في باريس درستُ على يد المستشرق الفرنسي غاستون فييت الأستاذ الجامعي في الكولج دي فرانس التابعة للسوربون ومدير المتحف المصري في القاهرة لمدة طويلة من الزمن. وهو شخصية ثقافية فرنسية لا تنسى.

ترعرعت في منطقة رأس بيروت المنفتحة حيث قضيت كل عمري تقريباً. هذه المنطقة المنفتحة على العرب والعروبة وعلى نوع متقدم من البشر، هو ذلك الصنف الراقي من الغربيين الذي وهب نفسه للتعليم. كان جو رأس بيروت بسبب الجامعة الاميركية وكثافة طلابها العرب وكثافة الوافدين اليها من البلدان العربية سوريين ومصريين وعراقيين وفلسطينيين نقطة التقاء ووصل بين عربي وعربي من كل الاقطار، وبينهم قادة فكريون وصحافيون وزعماء مجددون يأتون الى رأس بيروت ولا سيما الجامعات والمقاهي والمطاعم المحيطة بها وكأنهم يتعرفون من خلالها ومَن فيها الى صورة زاهية من المستقبل العربي. وقد عقدت بسبب هذا المكان والجو صداقات لا تنسى مع سادة ومفكرين هم صانعو الفكر في بلادهم.

كان الكاتب والصحافي والسياسي المصري أحمد بهاء الدين عندما يزور بيروت، ولا سيما مطعم فيصل في رأس بيروت التي يصفها بالحي اللاتيني، يشعر انه اتصل بأمته العربية كلها بلا تمييز. وهكذا فكل الأسماء التي تظهر في مصر والعراق وسوريا كقادة تيارات ومثقفين كبار مثل كامل الزهيري وميشيل عفلق وأحمد بهاء الدين وغيرهم، كنا نلتقي بهم في المقاهي المحيطة بالجامعة متبادلين معهم الآراء والأفكار وآمال الحاضر والمستقبل. بل كثيراً ما كان يحصل أن المصري يتعرف الى مصري آخر والعراقي الى عراقي آخر في جو رأس بيروت. وكان قادة الفكر السياسي العربي الجديد يرون في من يتصلون به من شباب صورة المستقبل العربي الجديد والقادر ودور لبنان في نهضة العرب، وهو المفتوح على المستقبل، وكثيراً ما كانوا يحدثون عن مقالات كتبها أحرار لبنان والعرب في «حوادث» المرحوم سليم اللوزي وحوادث ملحم كرم و«نهار» غسان تويني، بتوقيع او غير توقيع، وكنت أنا صاحبها بتوقيع وغير توقيع.

ومن هذه الكتابات ما كتبتُه على سبيل المثال في كراريس منها الاسلام وحركة التحرر العربي، والانعزالية الجديدة في لبنان، والكيان والثورة في العمل الفلسطيني، وغيرها مما مثل ويمثل دلائل المستقبل اللبناني والعربي عند أجيال الشباب المثقف. وقد كتب أحدهم ان لا أحد نظَّر للشهابية ثم ضدها كمنح الصلح، ولا أحد نظَّر للإنسان العربي وقلبه على لبنان وفلسطين مثل منح الصلح، ولعلّه كان يقصد أنني لم أكن دوغماتياً على النحو الذي يريد.

الأثر العائلي

آمنت دائماً بمركزية مصر في العالم العربي وعلاقتها النهضوية بلبنان منذ مجيء مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده منفياً الى لبنان وصداقته مع مؤسس مدرسة الحكمة المطران يوسف الدبس في ما يوحي من سياق ما كان يدور بينهما بأنه بذور اولى للفكر الذي قام عليه فيما بعد الميثاق الوطني اللبناني. فمصر بالمناسبة قامت بنهضتها في العصر الحديث وهي تنادي يحيا الصليب مع الهلال.

عمي تقي الدين كان لبنانياً عروبياً مندمجاً في المحيط اللبناني التعددي، أستاذاً في اللاييك، وعمي كاظم كان رئيس حزب النداء القومي ذي الاثر في زمانه. وعمي الأصغر عماد كان أقرب الناس إليّ.

أبي كان من مؤسسي «حزب الاستقلال الجمهوري» مع الشيخ عزيز الهاشم الذي كان رئيس الحزب. وكان معه الدكتور الياس جبر ونجيب الصايغ ونصري معلوف وغيرهم من أبناء المتن الذي نحن فيه.

سمي الحزب «حزب الاستقلال الجمهوري» أسوة بـ«حزب الاستقلال العربي» الذي أسسه الرعيل الأول السوري والعربي التابع لفيصل الهاشمي، ولكن ذاك كان ملكياً، قال لي أبي، فزادوا على الاستقلال كلمة الجمهوري. إنها خصوصية لبنان داخل العروبة، عروبي وجمهوري ديموقراطي في الوقت عينه.

خصوصية لبنان في العروبة

إن لبنان في سباق مع الزمن فلا يكفي أن يكون أخاً لأخوته العرب وصديقاً لأصدقائه وعدواً لأعدائهم، بل ينبغي أن يتصف ايضاً بصفة التنافسية للعدو والصديق على حد سواء. وهو لا يكون كذلك إلا بالصحوة على ما هو فيه وعلى ما حوله وعلى نبض العصر وهذا هو الأهم.

إن لبنان في سباق مع الزمن ولم يعد يفيده لا أن يكون مع الغرب ولا أن يكون ضده، بل المطلوب أن يكون مثل المتقدمين جدياً في قراءة قدراته مستخدماً هذه القدرات في سبيل أمنه وسلامته وخيره ونموه ودوره في محيطه، بل من السطحية تصوير الوجود اللبناني بأنّه مجرد قرار من الجنرال غورو اتُّخذ بعد الحرب العالمية الأولى، بينما الحق أن لبنان قام أولاً بإرادة من أبنائه وبدعم من العروبة التي عملت للوحدة العربية ولكنّها قبلت وأيّدت وجود لبنان واستقلاله ورأت في ذلك ما يفيد المنطقة ويفيده فهو إضافة نوعية للوجود العربي. ولولا إيجابية المنطقة العربية إزاء الكيان اللبناني وحرصها على الاغتناء بتعدديته لخسر الاستقلال اللبناني وخسرت العروبة الجامعة الكثير.

إن العدو الأساسي للبنان هو إسرائيل الطامعة لنفسها بدور لبنان في المنطقة، والصديق الاساسي للبنان هو ديار العروبة.

إسرائيل كرهت لبنان لأنّه نقيضها، فهي عدوة المنطقة. أما لبنان فهو طليعي في حياة العرب.

المتني الكبير ابن بحرصاف المرحوم توفيق يوسف عواد في آخر إطلالة له قبل وفاته على التلفزيون كان يتحدث عن الصيغة اللبنانة ناسباً الى عمي تقي الدين أنّه هو وابن عمه الكبير رياض كتبا البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى، «لن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولا لاستعمار أخواته العربيات ممراً بل وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً». وهذا الفهم للبنان كان صحوة في وقتها شدت من بنيان هذا الوطن.

الفائدة اللبنانية للعروبة

الميثاقية والشهابية وثبتان تاريخيتان في عمر لبنان، بهما عزز ودعم ديموقراطيته. فإذا كانت الأولى أي الميثاقية نداءً لتوحيد الوطن وتنظيم تعدديته وتحقيق استقلاله فإن الشهابية هي النداء الى العبور من استقلال الدولة الى دولة الاستقلال. ولعلنا اليوم بحاجة الى وثبة ثالثة من هذا النوع.

أذكر يوم ذهبتُ مع تقي الدين الى منزل صديقه الرئيس فؤاد شهاب في صربا قرب جونيه لنسلمه الخطاب المعد للإلقاء بمناسبة عيد الاستقلال. بعد نظرة سريعة ألقاها الرئيس على البيان قال: «يا ليتني أستطيع أن اتكلم بالعربي الدارج لقلت إن الدولة والإدارة صار لازمها خراطة»، وبالفعل كما تبين في ما بعد كان هذا هاجس الرئيس فؤاد شهاب، وقد استقدم الأب لوبري على هذا الأساس طالباً منه إجراء هذه الخراطة. فالديموقراطية بشكل الحكم لا تكفي.

ما اذكره أيضاً من تلك الجلسة أنّه أضاف متحدثاً الى العم وإلي، «إن هذا لا يتم، أي الخراطة، إلا بأخذ رأي المسلم ومشاركته»، مضيفاً شرط أن يكون مثل أفضالكم أنتم الاثنين. لم أفهم بالضبط ماذا كان يقصد بشرط أن يكون المسلم مثل حضرتكم وقلت ذلك للعم فأجاب أنّه يقصد المسلم الذي لا ينظر الى لبنان من زاوية عددية رقمية صرفة، فإذا كان أكثرية ارتضى لبنان دولة سيدة وإذا كان أقلية نادى بعدم ضرورته.

إن لبنان لم يقم بالأساس لأن أكثريته مسيحية ولأن المسلمين أقلية فيه تريد ولا تقدر على الإطاحة به، بل إن لبنان المستقل السيد خيار حر لأهله من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ولأن عروبة المنطقة ارتضت ورأت في قيامه وديمومته ضرورة لشعبه ولها.

إن لبنان لولا المسيحيين ما قام ولكنّه أيضاً لولا المسلمين ما دام، وهذا ما أؤمن به وما قلته في بعض كتاباتي.

إن المنطقة كلها رأت ولا تزال ترى في لبنان ودوامه فائدة وطنية وقومية لبلدانها كافة. بل لو لم يكن لبنان موجوداً لرأت الأمة العربية، بل القومية العربية ضرورة في إيجاده وتكريسه وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب كما في بيان حكومة الاستقلال الأولى.

إن لبنان كان دائماً ضرورة للنهضة العربية بعامة وضرورة للأمن العربي وللتقدم العربي.

إن وجود لبنان حر وديموقراطي قرارٌ من أهله كما هو إرادة ومصلحة لشعوب المنطقة ودولها، بل هو أقرب الى معظم الدول العربية من أي دولة عربية أخرى.

إنّه برأي أبنائه جميعاً أكثر الكيانات العربية حقاً بالوجود والدوام المستقل، وهو ضرورة وفائدة لقضايا العرب الكبرى كالقضية الفلسطينية والعروبة الجامعة. بل هو كان ولا يزال جسراً للعلاقات العربية – العربية والعلاقات العربية – الدولية.

وثيقة ثالثة بعد الميثاقية والشهابية

لم تكن الشهابية، أي نهج فؤاد شهاب بالحكم بلا أخطاء، ولكن تبقى بلا شك أفضل من الذين نصّبوا أنفسهم قضاة وبدائل عنها من مواقع الرجعيات والطائفيات والليبراليات المغالية.

وحسب الشهابية والميثاقية الاولى، أنّهما لعبتا دوراً في تجنيب لبنان جدلية التداول بين الليبرالية المنفلتة والانقلاب العسكري، ذلك الثنائي الذي تسلّط على الحياة العربية مانعاً إيّاها من الوصول الى الديموقراطية الحقة. فإما الليبرالية المغالية والتقليد الرجعي الموروث أو الانقلاب العسكري.

كان فؤاد شهاب يتّهم معارضيه من مهاجمي حكمه واعتماده المبالغ فيه على المكتب الثاني بأنّهم هم، أي المعارضون الذين يخرجون على وصايا «الكتاب»، أي القوانين والأعراف والأصول المتبعة حتى الدستور.

أما المعارضون لحكم شهاب فكانوا يقولون عنه أنّه معقّد ازاء طريقة الحكم في مصر ومقلّد لعبد الناصر وسوريا الانقلابات العسكرية. وذلك ما اعتبرته أغلبية الناس تجنياً عليه من خصومه وأخذ عليه أنّه قال: «إن علينا أن نعرف كيف نعيش في ظل الرجل العظيم أي عبد الناصر»، وهي كلمة املاها عليه في زمانها حبه للبنان ليس الا. والواقع أن الرئيس فؤاد شهاب وإن كان عسكرياً يقدّر الأكفاء من العسكريين ويعتمد عليهم عن اقتناع بحكم نشأته وظروفه، الا أن مرجعيته كانت الدستور وكان يميل دائماً الى إبعاد الجيش عن السياسة، وأغلب العسكريين وغير العسكريين الذين كان يتشاور معهم الرأي ويعتمدهم كانوا من الصنف المتفهم للحياة الديموقراطية والمدنية، والدليل أنّه رحّب بل سعى لأن يأتي بعده الرئيس شارل حلو الديموقراطي قلباً وقالباً والمثقف وغير المنساق الى العصبيات.

والذين عرفوا فؤاد شهاب عن قرب ودققوا في فهم طريقته في الحكم، اكتشفوا أن الأمير في شخصية فؤاد هو الذي كان يحكم رئاسته للجمهورية لا الجنرال، بكل ما في كلمة أمير هنا من سلبيات وإيجابيات. ونقول الأمير هنا بالمعنى الشعبي، أي الرجل المترفع غير الرخيص والمؤهل لأن يكون حَكَماً وليس حاكماً فقط.

هاتان المدرستان السياسيتان، أي الميثاقية والشهابية كان لهما فضل كبير في تجنيب لبنان الآفة التي تعرّضت لها المنطقة العربية ألا وهي المراوحة بين الرضى بنظم الحكم المتخلفة بشكليها القديم والاقطاعي والجديد المتمثّل بالليبرالية المتخلفة من جهة أو الحكم العسكري من جهة ثانية. فضيلة النظام الديموقراطي اللبناني القائم أنّه وحده، بفضل الميثاقية والتجربة الشهابية، كان المستعصي على جدلية الرضى بالتخلّف بألوانه القديمة المتجسدة بالإقطاع الموروث والليبرالية المتخلفة من جهة أو الانقلاب العسكري. وكأن هذا قدر كل بلد عربي إلا لبنان.

إننا بعيدون عن أن نرضى بالكثير من نقاط الضعف والقصور وعدم اللحاق بالعصر في حياتنا السياسية، ومركز عصام فارس بالذات هذا الذي نحن فيه، هو مظهر راقٍ من مظاهر شعور لبنان بالتطلع دائماً الى الامام. والتحدي هو اطلاق ركيزة ثالثة لديموقراطيتنا بعد الميثاقية والشهابية، يستولدها المثقفون ورجال الفكر من بطن الحاجات على غرار نية وتجرد هذه المؤسسة التي نحن فيها الآن. والتي تسعدنا اليوم زيارتها والتواصل معها لا لوقف جلد الذات فقط، بل لتحديد الركيزة الثالثة المطلوبة بعد اليوم لتحصين الديموقراطية اللبنانية في المستقبل كما حصنت الميثاقية والشهابية الديموقراطية اللبنانية في وقت من الأوقات ولو تحصيناً غير كاف، وبالتالي غير قادر على الدوام.

(*) كلمة ألقاها المفكر الراحل منح الصلح في مركز عصام فارس عام 2009.