والدي والقيم والحلم المستحيل

محمود الأحمدية

بعيداً عن السياسة المثيرة للشفقة في وطن يحتضر فيه كل شيء حتى القيم والعادات، وبعيداً عن البيئة المادة التي عملت فيها ربع قرن من الزمن بنقاء وصفاء وضمير حي وإيمان برفقة مئات من الذين نذروا أنفسهم من أجل وطن أنظف وانقى…

قصة من عمري في ذلك الزمن الجميل عندما كان والداي ما يزالان أحياء ونرى الدنيا من خلال ابتسامة تظلل محياهما ونرى فعل الاندهاش من قبلة نادرة نتذوقها وتبقى زوادة للزمن…

في تلك الأيام وبالذات في السبعينات وكان قد مضى على تخرجي سنتان كمهندس من معهد الهندسة العالي في الجامعة اليسوعية وكان عملي كمهندس مبيعات في شركة لبنانية كندية كانت تصنع القوالب والسقالات الحديدية وكانت تصدر من مرفأ العز والإزدهار،مرفأ بيروت… بيروت درة البحر الأبيض المتوسط في تلك الأيام… وكانت أسواقها تناهز الأربعين دولة ونحن سبعة مهندسين كل مهندس مسؤول عن ستة دول إلى سبعة دول حسب حجمها وكانت صناعتنا تنافس الأوروبيين وبالذات أسبانيا ايطاليا وفرنسا ومسؤوليتي كانت أسواق مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، والمغرب، والسودان… وفي مرحلة ثانية طهران ودول جنوب شرق آسيا… ومرحلة ثالثة دول أفريقيا السوداء وكان راتبي في تلك الأيام كمهندس مبيعات لا يتجاوز الثمانماية ليرة لبنانية وعمولة على البيع لا تتجاوز إلى النصف بالمئة…

ومرت الأيام وكانت رحلاتي تستند إلى معرفة مسبقة بالمشاريع الخرسانية في الدول التي أزورها وذلك من خلال مجلة اسمها (ميد)… وكنّا نأخذ المواعيد عبر الفاكس في تلك الأيام مع الشركات التي رست عليها المشاريع ونحن علينا عرض صناعتنا والمهنة تتطلب بُعْداً وثقافة ومعرفة بالهندسة حتى نتمكن من دراسة خرائط المشروع المنوي قولبته بالقوالب الحديدية بدل الخشب أي بتعبير أوضح كل الأساسات والأعمدة والحيطان والأسقف حيث الباطون المسلّح يحتاج لصبه قالباً فإما الخشب وإما الحديد… وكانت صناعتنا القالب الحديدي… وعلى مدى خمس سنوات كانت رحلاتي تتلاحق عبر الطائرات أكثر من عشرين رحلة سنوياً… والنتائج تتراوح بين طلبيات للمصنع بقيمة خمسين ألف دولار إلى ماية ألف دولار في مختلف الأسواق وكانت الشركة تعاني الأمرّين حتى جاء الفرج بمشروع ناهزت قيمته المليون ومايتي ألف ليرة لبنانية أي وبحسبةٍ بسيطة ما يعادل في تلك الأيام المليون دولار مما نتج عنه انقلابٌ في سياسة الشركة رأساً على عقب…

وقصتي تكمن بالعبرة والنموذج والهدف الذي تحتويه من خلال هذا المشروع… وموجهة للأجيال الجديدة ولكل من يمسك مسؤولية ويتبوأ مركزاً… وصلت في ذلك اليوم الذي لا أنساه إلى الفندق في بنغازي (ليبيا) وبعد عدة زيارات للشركة والمشروع وبعد دراسات مضنية فاقت الشهرين ورحلات مكوكية بين بيروت وبنغازي… المشروع قوالب للأساسات الخرسانية لعدد يربو على المايتي بناية… وكانت أيام القطاع العام الذي يمسك بأضخم المشاريع السكنية أيام ثورة القذافي… وذهبت للموعد باكراً مع مدير المشروع… وجاء يوم الصعود بكل وضع شركتنا عندما جلست وناقشت في الأسعار وبشكل مُضْنٍ ونهائي ووصلنا إلى المبلغ مليون وماية وأربعة وتسعون ألف ليرة لبنانية ولكن بقي العنصر الأهم وهو الخصم النهائي وكان سقف الخصم المسموح لي اعطاؤه خمسة بالماية فهز المدير رأسه رافضاً بشكل قطعي وطالباً 15% ومناوراً بعروض الشركات الأوروبية المنافسة وخاصة الأسبان، فاستأذنت منه بفتح خط مع بيروت من فندقي مع رئيس الشركة وصاحبها وكان الجواب السعيد بصوت لا أنساه: شو ناطر محمود اتكل على الله لأن الطلبية تمثل عشرة أضعاف اي طلبية سابقة ومن كل الأسواق وتمثل انقلاباً في مسيرة الشركة… وكانت خطواتي تسابق الريح لموعد بعد الظهر وقلت للمديربسعادةٍ غامرة: اتفقنا… وكانت المفاجأة الصاعقة قوله لي: الآن أغلق الباب يا أحمدية وجاءت ساعة الجد!!! فكنت مندهشاً وماذا يخبىء لي القدر؟؟ وأنا المهندس بمعاشي ثمانماية ليرة لبنانية وعمولة سقطت إلى الربع بالماية بفعل الخصم العالي، قال لي بعد غلق الباب: هذه الـ 15% لن تنزل على الورق سأعطيك رقم حسابي في جنيف (سويسرا) وسأفتح اعتماداً بالمبلغ الأساسي بدون الخصم لأنّ سعركم يبقى الأقل في المنافسة!!! وتحوّلون لي المبلغ بعد أن يصل الإعتماد… وهنا القنبلة؟! (نصفهم لك) عندما يصل المبلغ جنيف أحولهم لك على رقم حسابك… وحسبتها بسرعة يصل المبلغ الخاص بي إلى الماية ألف ليرة لبنانية أي ثمن بناية بسبعة طوابق في تلك الأيام وقيمة عمل اثني عشر عاماً بمرتبي! وكنت أمام أمرين أما خسارة هذه الصفقة أي الرفض وهذا نوع من الطوباوية أو القبول بعد تفكير.

وكان تعلقي بتربية والدي هو الأقوى لحظتها فطلبت منه اذناً واسرعت إلى الفندق للإتصال هذه المرّة بوالدي لكي أسأله عن القبول أو عدمه بعد شرح كل تفاصيل الموضوع وكنت في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من العمر وشرحت كل شيء لوالدي فكان جوابه درساً في القيم والتقاليد والعادات المبنية على البصيرة والواقعية والعقلانية والشهامة في نفس اللحظة وكان جوابه حاسماً قائلاً حرفياً كلمات لن أنساها مدى العمر رحمات الله عليه قال: “محمود انت بتعرف معاشي لا يتجاوز الألف ليرة وديوني كبيرة حتى أن كل المعاش لا يغطي فوائد الديون ولكن كرامتنا أعلى وأكبر بما لا يقاس، ولكنني أريدك أن تدخل دائماً إلى شركتك مرفوع الرأس عالي الجبين، عليك بالقبول حفاظاً على شركتك ورئيس شركتك وأغناء شركتك… إقبل بعرضه واعطه رقم حسابك في بيروت(على فكرة) كان المبلغ هزيلاً لا يتجاوز الخمسة آلاف ليرة لبنانية… وعندما يحول المدير الليبي حصتك، أنت بدورك تقدمها لرئيس شركتك لأنهم الأحق وأولياء عيشك وتكون قد ربحت شيئين: سعادة رفع شأن شركتك أولاً وكرامتك ووفاءك ثانياً… وأسرعت كالطير إلى مدير الشركة ودخلت إليه كالمنتصر في معركة رائعة عنوانها الكرامة والعقل!! وقلت له قبلنا!!! وكان فتح الإعتماد وعدت في الطائرة وصدري بحجم هذا الكون… واختصاراً للمسافات أخبرت رئيس الشركة بأنهم يريدون تحويل الخصم إلى سويسرا كعمولة من المبلغ الأساسي بدون خصم على الفاتورة الرسمية ولم آت على سيرة حصتي… حتى تبقى المفاجأة بحجمها الجميل… وهكذا كان وذات صباح شتاؤه كثير وأمطاره غزيرة وصواعقه تحولت إلى مهرجان فرح جاءني تلفون من المصرف الذي اتعامل معه: جاءك تحويل من سويسرا بقيمة ماية ألف ليرة لبنانية وأسرعت الخطى وأتذكر أنني سحبتهم نقداً في ظرف كبير ووصلت شركتنا وقلت لرئيس الشركة: سيدي هذا نصف الخمسة عشر بالماية قبضته من مصرفي وهي لكم وأنتم أولياء نعمتي وأحق بها!! قسماً بالله قفز الرئيس من مقعده يقبلني في جبيني قائلاً: أدهشتني محمود كان بامكانك أخذ المبلغ ونحن أرباحنا كبيرة ومدروسة بارك الله بك يا بني!! وأخذ الظرف وراحت الأيام وبالذات في يوم وفاة والدي بعد سنتين كان رئيس الشركة حاضراً المأتم ومسؤولياتي تهد الجبال وعائلة خمسة أخوة وأختين ووالدتي وجدتي مسؤول عنهم في أوائل العمر… وبعد المأتم بقي بجانبي وتحدث إلى سائقه وكانت المفاجأة: “محمود خذ هذا الظرف وفيه خمسون ألف ليرة لبنانية نصف المبلغ الذي سلمتني منذ سنتين وأنت أحق بهم اقتسمناهم مناصفة!! وبقدر ما كان حزني كبير على المرحوم والدي بقدر ما شعرت أن كل همومي زالت لأن المبلغ كاف للأيام السوداء في تلك الأيام حيث يكلف عمار طابق حجري عشرة آلاف ليرة…

رب قارىء يطرح سؤالاً: هذه حادثة شخصية أرد مباشرة وبرأس مرفوع وبقي مرفوعاً حتى تاريخه: هذه عبرة ونموذج ودلالات لأجيال حاضرة وأجيال آتية وخاصة هذه الأيام السوداء… والدي العيون الزرق والدموع المستحيلة … شكراً وللأبد … ولن أزيد!!

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!