دور التربية في تحقيق التنمية المستدامة / بقلم د. كليب سعد كليب 

 

تمهيد:

تطورت مفاهيم التنمية في العقدين الأخيرين من  القرن العشرين إلى حد أنها جعلت من الإنسان الموضوع المحوري لسيرورة التنمية والمستفيد الأول منها بعد أن كانت نظريات التنمية التقليدية تضع هدف زيادة معدلات النمو الإقتصادي على رأس قائمة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.

فما الذي تغيّر في مفهوم التنمية؟ ما هي التنمية المستدامة؟ وما هي الأسباب التي أدّت إلى ادماج مفهوم “الإستدامة” في مفهوم التنمية البشرية؟ وكيف تسهم التربية في تحقيق هذا النوع من التنمية؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الورقة.

أولاً: في تغير مفهوم التنمية:

تغير مفهوم التنمية مرات عدة خلال العقود الستة الأخيرة. ففي عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين ساد مفهوم “التنمية الاقتصادية” بشكل واسع(1). ولقد استند هذا المفهوم إلى مؤشرات كمية خالصة أبرزها متوسط دخل الفرد الذي حظي بأكبر قدر من القبول من الاقتصاديين وتم استخدامه في عقد المقارنات الدولية بين الدول المتقدمة والأقل تقدماً.

فمؤشر متوسط دخل الفرد رغم بعض أوجه القصور فيه حيث أنه لا يعكس مدى التفاوت في مستوى المعيشة بين فئات السكان ضمن المجتمع الواحد إلا أنه يدل على مدى التفاوت في مستويات المعيشة بين البلدان المختلفة رغم الصعوبات الفنـية التـي تحـول دون إجراء مقارنات سليمة عن مستويات المعيشة في كل من البلدان المتقدمة والنامية لأن الأرقام المنشورة عن مستويات المعيشة في هذه الأخيرة تتحيّز نزولاً.

في أوائل عقد السبعينات من القرن العشرين ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين يسلط الضوء على مفهوم جديد للتنمية هو “التنمية الاجتماعية” يأخذ بعين الاعتبار انعكاس السياسات التنموية على بنى المجتمع وأنشطته الاقتصادية، ولقد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه معياراً آخر لقياس التنمية غير متوسط دخل الفرد وهو ما سمي بمعيار “إشباع الحاجات الأساسية”. ولقد اعتبر هؤلاء أن المعيار الجديد أفضل من معيار متوسط دخل الفرد في الحكم على مدى نجاح أو فشل التنمية لسببين:

الأول:   عدم تساوي الحاجات الإنسانية في الأهمية. وزيادة الدخل قد تستخدم لإشباع هذه الحاجة أو تلك. فقد ينتج عن زيادة الدخل إشباع حاجات قليلة الأهمية لتلبية مطالب الفئات المترفة مثلاً على حساب إشباع حاجات أكثر أهمية لقطاع واسع من الناس (كتوفير الغذاء الضروري أو اللبس والمسكن الملائمين).

الثاني: إن هناك من الحاجات الإنسانية ما لا يدخل في حساب الدخل. فقد يزيد  الدخل ولكن تزداد معه معدلات البطالة أو يقل وقت الفراغ فلا تدل زيادة الدخل على ارتفاع مستوى الرفاهية. (2)

تجدر الإشارة أخيراً إلى أن مؤيدي معيار إشباع الحاجات الأساسية رغم اعتبارهم أنه أكثر جدوى وأهمية من معيار متوسط دخل الفرد إلا أنهم لم يتنكروا لهذا الأخير أو يعمدوا إلى التقليل من أهميته.

في مطلع التسعينات طُرح مفهوم جديد للتنمية هو “التنمية البشرية” الذي اعتمد معياراً جديداً لقياس التنمية غير المعيارين القديمين: متوسط دخل الفرد وإشباع الحاجات الأساسية. لقد كان المعيار الجديد معياراً مركباً يتكون من ثلاثة عناصر:

  • متوسط دخل الفرد – 2- العمر المتوقع عند الولادة – 3- مستوى التعليم.

ووفق هذا الأساس جرى ترتيب دول العالم بعضها فوق البعض الآخر وفقاً لمدى نجاحها أو فشلها في الارتفاع بمتوسط دخل الفرد وزيادة العمر المتوقع عند الولادة وفي محو الأمية وزيادة نسبة المقيدين بالمدارس.

لقد تبنى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (undp) مفهوم التنمية البشرية والمعيار العائد له وراح يصدر منذ سنة 1990 تقريراً سنوياً عن التنمية البشرية يصنّف بلاد العالم تبعاً لهذا المعيار الجديد.

لقد لاقى مفهوم التنمية البشرية شهرة كبيرة وقبولاً واسعاً رغم أنه يستبعد عدداً من العناصر كالبطالة والعمالة وحجم وقت الفراغ ونمط العلاقات الاجتماعية ومدى الشعور بالاستقرار والحريات السياسية والفردية ومدى انتشار الجريمة… وغير ذلك.

وعند استعراض تطور تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ سنة 1990 وصعوداً يتضح أن مفهوم التنمية البشرية لم يتبلور بشكل كامل إلاّ في التقرير السنوي لعام 1993 حيث تم إبراز معايير المشاركة، المساءلة، التمكين، اللامركزية، الأسواق الرؤوفة، ودور الجمعيات الأهلية… وغير ذلك.

ويعتبر التقرير أن مفهوم التنمية المستدامة يُعنى بربط النمو الاقتصادي بهدف أكبر هو تحسن نوعية حياة الناس مع توزع سليم للدخل وعناية أكبر بشؤون البيئة.

ويبحث تقرير التنمية البشرية لعام 1996 طبيعة ودرجة العلاقة بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية التي تم تحديدها على أنها توسيع لخيارات الناس بتوفير الفرص لهم في مجالات العمل والدخل والصحة والتعليم والحقوق الأساسية. ويؤكد التقرير أن النمو الاقتصادي هو وسيلة أما الغاية فهي التنمية. وبهذا السياق يركز التقرير على أهمية المشاركة بين الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص والمنظمات الأهلية في قضايا إدارة هذه العملية.(3)

ثانياً: في مفهوم التنمية البشرية المستدامة:

يعرّف تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة للعام 1996 التنمية البشرية المستدامة بأنها ذلك الشكل من التنمية الذي يُلبي حاجات الجيل الحاضر دون أن يعرّض للخطر قدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتها.(4) ويلحظ مفهوم الاستدامة في هذا التعريف البعد الزمني المستقبلي في التحليل وهو ما كان مهملاً أو ثانوياً في اطار نظريات النمو الاقتصادي التقليدية التي كانت تضع هدف تعظيم الربح هدفاً شبه وحيد للنشاط الاقتصادي دون الأخذ بعين الاعتبار للآثار السلبية التي يمكن ان تنتج عن التنامي السريع لوتيرة الإنتاج على الإنسان نفسه وعلى الموارد الطبيعية وديمومتها وعلى المحيط والنظام الطبيعي.

والتنمية البشرية المستدامة وفق هذا المفهوم إطار متكامل من التحليل والعمل تشترك فيه المؤسسات الدولية والحكومات ومنظمات المجتمع المدني والأفراد، بشكل واعٍ وهادف، من أجل ضمان شروط أفضل لحياة الأجيال الحاضرة والقادمة على حد سواء.

ويتم النظر إلى موضوع الاستدامة وفق هذا المفهوم استناداً إلى منطق يعتبر أن لا إمكانية لتحقيق العدالة بين الأجيال الحاضرة والمقبلة إذا أغفلنا تحقيق العدالة والإنصاف والديموقراطية ضمن الجيل الواحد (الحالي).(5) وهنا يدخل تطوير جديد على مصطلح التنمية البشرية المستدامة لتصبح التنمية التي لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزّع عائداته بشكل عادل أيضاً. انها التنمية التي تجدّد البيئة ولا تدمّرها وتمكّن الناس ولا تهمشهم وتوسّع خياراتهم وتؤهلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم. إن التنمية البشرية المستدامة هي تنمية في صالح الفقراء والطبيعة والمرأة وهي التي تشدّد على تحقيق النمو الذي يولد فرص عمل جديدة ويحقق العدالة فيما بين الناس.(6)

لم يأت مفهوم التنمية البشرية المستدامة هذا من فراغ. ولا يمكن اختزال تاريخه بتبني البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة له في نهاية العام 1994.

إن ظهور هذا المفهوم الجديد جاء تتويجاً لمسيرة فكرية ابتدأت قبل ذلك بثلاثة عقود على الأقل. فالخطاب التنموي ذو المضامين التحررية والاستقلالية والاشتراكية والذي نادى به كتاب ومفكرون وأحزاب سياسية وأنظمة استقلالية في بلدان العالم الثالث خلال عقد الستينات من القرن العشرين شكّل أرضية مناسبة لهذا المفهوم الجديد.

كما أن التقرير الذي وضعته لجنة من الاقتصاديين في سنة 1976 حول إصلاح النظام الاقتصادي العالمي وكيفية معالجة الخلل الحاصل في علاقات التعاون الدولي شكل خطوة إضافية في هذا الاتجاه.

وقد أتى الإعلان العالمي عن حق الإنسان في التنمية الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 4/12/1986 والذي شكّل نصاً متقدماً في تعريف التنمية ومتطلباتها ومكوناتها، بمثابة خطوة متقدمة باتجاه اعتماد مفهوم مستدام للتنمية البشرية. إذ جاء في نص الإعلان أن التنمية هي سيرورة شاملة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق تقدم مستمر في حياة جميع السكان ورفاهيتهم، وهذه السيرورة تقوم على أساس مساهمة جميع الأفراد بشكل نشيط وحر في التنمية، وعلى أساس التوزيع العادل لعائداتها”.

كما جاء أيضاً في النص أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة: “تقّر بأن الإنسان هو الموضوع المحوري لسيرورة التنمية التي يجب ان تجعل من الكائن البشري المشارك الأساسي في عملية التنمية، والمستفيد الأول منها، وتقر بأن إيجاد الشروط المساعدة على تنمية الشعوب والأفراد، هو الوسيلة الأولى للحكومات. كما أنها تدرك ان الجهود العالمية المبذولة من أجل تطوير الالتزام بحقوق الإنسان والدفاع عنها، لا بد أن تتلاءم مع جهود مماثلة من أجل إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد” (7)

وما يميّز هذا الاعلان هو التركيز على الحق في التنمية باعتباره يقع في صلب حقوق الإنسان، وفي تركيزه على ترابط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. كما ان الاعلان يركّز كثيراً على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض الاستعمار والتمييز العنصري، وعلى تعزيز التمثيل الشعبي. كما يشّدد على مسؤولية الحكومات في تأمين مقومات التنمية وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.

إن العناصر التي أشرنا إليها أدخلت تغييرات نوعية على النظرة إلى معاني النشاط الإنساني وأشكاله، وأهدافه وغاياته، والى منهجية فهم الواقع ورسم الاستراتيجيات التنموية.

ولقد أتت إحدى الخلاصات التي خرجت بها قمة الأرض الأولى التي عُقدت في الريو ديجنيرو عام 1992 بالغة التعبير في هذا الشأن إذ اعتبرت “أن كوكب الأرض ليس ملكية خاصة للأجيال الحاضرة، بل هي تشغلها على سبيل الاستعارة من الأجيال القادمة”.

ولقد أتت قمة الأرض الثانية في جوهانسبورغ (2002) التي انعقدت بعد عشر سنوات على القمة الأولى لتؤكد بأنه لا يمكن الفصل بين أهداف التنمية في القضاء على الفقر ورفع المستوى الصحي والتعليمي لسكان الأرض ومكافحة فيروس نقص المناعة المكتسبة والأمراض المعدية الواسعة الانتشار، ومكافحة التلوث وحسن إدارة الموارد البيئية والطبيعية.. الخ.

كما لا يمكن الفصل بين هذه الأهداف باعتبارها حقوقاً إنسانية غير قابلة للاختزال والاستبدال وبين ضرورة إيجاد بيئة وطنية وعالمية ومؤاتية لتحقيق هذه الأهداف.(8)

إن التوجه الأساسي لمفهوم التنمية البشرية المستدامة يتمثل في اعتماد منهجية بديلة تنظر إلى التنمية في وقتنا الحاضر في بعدها الوطني والعالمي انطلاقاً من وجهة نظر المستقبل الذي تمثله مصالح الأجيال القادمة في العيش في بيئة صحية ونظيفة وفي مجتمعات قائمة على العدالة والديمقراطية.

إن مفهوم الاستدامة يتطلب وجود استراتيجية علمية تحدّد الغايات والأهداف وتختار الآليات والوسائل الضرورية لتحقيقها. أي أنها تتطلب التخطيط المستقبلي كشرط إلزامي.

كما تتطلب آليات ديمقراطية وتشاركية تضمن أوسع مشاركة ممكنة في صنع القرار، لضمان التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في عملية التنمية.

ومعنى البيئة من منظور مفهوم التنمية البشرية المستدامة لا يقتصر على الطبيعة ومواردها بل هو يعني أيضاً البيئة الإنسانية المتفاعلة مع المجال المكاني أيضاً في تطورها عبر الزمن.

ثالثاً: في الظروف والأسباب التي أدت إلى طرح مفهوم الاستدامة:

ما كان لمفهوم التنمية المستدامة أن يظهر إلا في الفترة التي ظهر فيها. فهو أتى في أعقاب عدد من التطورات والتحولات الكونية التي حدثت في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.

في مقدمة هذه التطورات الأزمات الاقتصادية التي بدأت بالظهور منذ مطلع السبعينات بعد ربع قرن من النمو الاقتصادي المتواصل أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد فرضت هذه الأزمات – وأبرزها أزمة النفط – نفسها على المستوى الفكري ودفعت باتجاه مراجعة كل النظريات التنموية القائمة ونبّهت إلى خطورة الاستغلال المفرط للثروات الطبيعية غير المتجدّدة والتزايد اللاعقلاني في معدلات الإنتاج والاستهلاك وما ينتج عن ذلك من تدمير للبيئة وتلويث للمحيطات وللفضاء ومن اختلالات عميقة في النظام البيئي مما يهدد أسس الحياة على الكوكب الأرضي. كما كان للتزايد الكبير في عدد السكان وللتسابق في ميدان التسلح النووي وما يمثله من تهديد لكل مظاهر الحياة دور بارز في البحث عن استدامة التنمية.

لقد كان إدماج مفهوم “الاستدامة” في مفهوم “التنمية البشرية” بمثابة الرد على الخوف الناتج عن تدهور المحيط بسبب التزايد السريع في وتيرة الإنتاج وزيادة الإنتاجية بسرعة قياسية. كما كان جواباً على إشكالية التعارض بين النمو الهائل في الثروة والتزايد الكبير في معدلات الفقر وانعدام العدالة على المستوى الكوني وداخل المجتمعات المحلية. وجواباً على اتساع الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وعلى تدهور البيئة الطبيعية وتردي نوعية الحياة بالنسبة لغالبية سكان الأرض على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الذي أحدثته ثورة المعلوماتية والاتصالات وعلى الرغم من توفر كل الأسباب لكي يعيش كل سكان الأرض في ظروف أفضل.(9)

ومما لا شك فيه انه كان لانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وما رافق ذلك من دعوات إلى  قيام نظام عالمي جديد دور في تغير أولويات التنمية وفي إطلاق مفهوم التنمية البشرية المستدامة.

إذن لقد جاء مفهوم التنمية المستدامة في زمن تراجعت فيه خيارات التنمية المستقلة وجرى فيه تطبيق الليبرالية الإقتصادية بشكل سريع فتم إعتماد سياسات جديدة مثل: تحرير الأسواق، تحجيم دور الدولة في الاقتصاد، خصخصة مشروعات القطاع العام تعديل السياسات الضريبية، الإنطلاق نحو العولمة… وغير ذلك.

لذا جاء بعض الاهداف والمفاهيم التي طرحها مفهوم التنمية المستدامة منسجماً مع شعارات تلك المرحلة مثل: اللامركزية- المشاركة- المساءلة- دور المؤسسات الدولية- دور الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني- الديمقراطية- التمثيل الشعبي- حقوق الإنسان- النظام العالمي الجديد- البيئة الوطنية العالمية… وغيرها.

وقد جاءت أهداف وشعارات أخرى تضمنها تقرير التنمية البشرية عن التنمية المستدامة تعبيراً عن الخيبة من عدم صدق تنبؤات الليبرالية الجديدة، حيث شهد العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين تدهوراً في معدلات النمو وانتشار المجاعات والنزاعات المحلية والإقليمية وتفاقم المديونية الخارجية وتراجعاً في شروط التجارة الدولية ومن أبرز هذه الشعارات: مسؤولية الحكومة عن عملية التنمية- الأسواق الرؤوفة- تحسين نوعية عمل الناس وتوسيع خياراتهم- توزيع سليم للدخل- تنمية تؤكد إيجاد فرص عمل وتحقق العدالة بين الناس- رفض الإستعمار والتمييز العنصري- تمكين النوع- رفاهية الناس- مساهمة جميع الأفراد بشكل حر ونشيط في التنمية- الحقوق الأساسية… وغير ذلك.

بينما جاءت مجموعة ثالثة من الأهداف لتعبر عن الخوف الناتج عن الإستنزاف الكبير للموارد والتدهور الخطير للبيئة، وتلوث المحيط والإرتفاع الكبير في درجة حرارة الأرض مثل: عناية أكبر بشؤون البيئة- البعد الزمني المستقبلي- التخطيط المستقبلي- الإستراتيجية التنموية التي تجدد البيئة ولا تدمرها- سياسة تنموية في صالح الفقراء والطبيعة والمرأة- مكافحة التلوث… وغير ذلك.

 

رابعاً: كيف تسهم التربية في تحقيق التنمية المستدامة:

بعد ما يقرب من عشرين سنة على إطلاق مفهوم التنمية البشرية المستدامة، وبعد حوالي ست سنوات على إنطلاق الأزمة المالية والإقتصادية العالمية (2008) والتي أدت الى إنهيار إقتصادات البلدان الأكثر تقدماً وانهارت معها الإيديولوجيا الليبرالية المفرطة، وبغض النظر عما ستكون عليه أشكال وملامح الأنظمة الإقتصادية والإجتماعية التي قد تتشكل مستقبلاً، وبصرف النظر أيضاً عن الفارق في الدرجة التي بلغتها دول العالم المختلفة في تحقيق بعض الأهداف المتعلقة بإستدامة التنمية… فإن كوكبنا الأرضي بات بحاجة ماسة لإعتماد سياسات تربوية كونية تستجيب لتحقيق الأهداف الأساسية التي وردت في تقريرالتنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة للعام 1996 والمتعلقة بمفهوم التنمية المستدامة، وهذه الأهداف هي:

  • تعديل أنماط الاستهلاك المبدّدة للموارد الطبيعية والتي هي في جزء كبير منها ناضبة وغير قابلة للتجدّد.
  • عقلنة إستثمار الموارد الطبيعية والحد من النمو الاقتصادي الأهوج الذي يحيل الغابات خراباً ويلوث الأنهار ويدمّر التنوع البيولوجي ويستنزف الموارد الطبيعية وهذا يتطلب التعديل في أنماط التكنولوجيات المستخدمة.
  • عدم توريث الأجيال القادمة ديوناً اقتصادية أو اجتماعية تعجز عن تحملها.
  • تحقيق العدالة والإنصاف في العلاقات الاجتماعية الاقتصادية الحاضرة (الجيل الحالي). لأن تنمية تؤدي إلى استمرار اللامساواة الحالية بين الأفراد والشعوب لا يمكن أن تستمر. (10)

وبغية تحقيق الأهداف الأربعة الكبرى المشار إليها آنفاً فإن على دول العالم المختلفة (خاصة البلدان الأقل نمواً) إعتماد سياسات تربوية تحقق الأهداف المرحلية التالية:

  • تنمية حس المشاركة في الأسرة والمؤسسة والمجتمع وتوسيع هامش المشاركة الديمقراطية وزيادة مشاركة الناس في الحياة العامة.
  • تقريب المسافة النفسية بين الدولة ومؤسساتها من جهة وجمهور الناس من جهة ثانية
  • تقرير اللامركزية الإدارية دون أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الوحدة السياسية للدولة.
  • تقوية دور هيئات المجتمع المدني والقطاع الأهلي على أن لا يكون ذلك بديلاً عن الدولة أو مدخلاً للتدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية.
  • تنمية حس الإنتماء للمستقبل واعتماد التخطيط المستقبلي كإستراتيجية حياتية للأفراد والجماعات.
  • تنمية مشاعر العدالة والإنصاف والرأفة بين الناس.
  • تنمية السلوك أللاعنفي وإعتماد السبل السياسية والمفاوضات لحل المشاكل الدولية.
  • تنمية النشاطات الرياضية والفنية والترفيهية.
  • نشر الوعي البيئي حول أخطار بيئية تهدد الحضارة البشرية والكون برمته: الإحتباس الحراري، التصحر، نقص المياه… وغيرها.
  • نشر الوعي حول أهمية تنظيم التزايد السكاني، إذ أن الزيادة المفرطة للسكان باتت هي أداة الضغط الأكثر ثقلاً على الحكومات بإعتبارها السبب الأساس للعجز في المالية العامة وللدين العام وللإضطرابات الإجتماعية والإنحراف الإجتماعي وإنتشار الإرهاب. كما أنه من المؤكد أن التطور التقني الذي رفع معدلات النمو الإقتصادي خلال المائتي عام الأخيرة في العالم بما يفوق معدلات الزيادة السكانية لن يكون قادراً على إداء هذه المهمة الى ما لا نهاية خاصة في بلدان زاد عدد سكانها حوالي 500% خلال نصف قرن من الزمن (كحال سوريا مثلاً… وغيرها من البلدان)
  • تنمية حس الإنتماء إلى الإنسانية بعيداً عن كل أشكال التمييز العنصري والعرقي والطائفي.
  • نشر الوعي عن الأخطار الصحية المحدقة بالعنصر البشري والناتجة عن التلوث وتدهور المحيط البيئي والإدمان على المخدرات … وغيرها.
  • إبراز الأهمية الإستثنائية لعنصر الوقت بإعتباره الرأسمال الأثمن في الوجود بعد الإنسان.
  • إعادة ترتيب الأولويات في قائمة المشاكل الإقتصادية إذ لا بد من إعادة وضع مشكلة الندرة في المقام الأول حيث جرت خلال القرنين الأخيرين إحلال مشكلة التوزيع في المقام الأول بينما أزيحت مشكلة الندرة الى المركز الثاني.
  • الأستغناء عن أسلوب النمو الذي يتغذى بالدين والذي أثبتت الأزمة المالية والإقتصادية العالمية الأخيرة (2008) فشله.
  • تنمية روح المساءلة والنقد الذاتي والشفافية لدى الأفراد والناشئة.
  • تعزيز دور المرأة في الحياة والمجتمع.
  • تنمية حس المواطنة الذي يعترف بالآخر وبحق الإختلاف استناداً إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في حرية القول والعمل وإبداء الرأي وحرية الإنتقال… وغير ذلك.
  • تشجيع الإستثمار في الإقتصاد الحقيقي أي إقتصاد الإنتاج والتوزيع والإستهلاك (انتاج السلع المادية والخدمات الأساسية).
  • تحسين مستوى معيشة الناس وتخفيف حدة التفاوت الإجتماعي بين الطبقات والمناطق.
  • تنمية حس الإدخار عند المواطنين واعتباره فضيلةً من الفضائل التي يجب تعميمها في المجتمع. ويمكن عن طريق التربية توجيه السكان لزيادة حجم الإدخار الذي يمكن ان يتحقق في المجتمع طبقاً لفكرة ” الفائض الإقتصادي” التي طرحها بول باران عن طريق الإستفادة من موارد إدخارية مبدّدة وأخرى مكتنزة وثالثة كامنة.

تتمثل الموارد الإدخارية المبدّدة في صورة الاستهلاك غير الرشيد نتيجة تقليد ومحاكاة أنماط الإستهلاك في البلدان الغنية والتي لا تتلاءم مع واقع الحياة في البلدان النامية. وتتمثل الموارد الإدخارية المكتنزة بالمقتنيات التي تراكمت عبر السنين من معادن ثمينة كالذهب والحلي والتحف بفعل الدوافع الإقتصادية والأعراف والعادات والتقاليد الإجتماعية. أما الموارد الإدخارية الكامنة فتتمثل بالطاقات البشرية الفائضة التي تأخذ شكل البطالة المقنعة (وحتى السافرة أحياناً) في الزراعة وفي القطاع الحكومي.(11)

 تستطيع البلدان الأقل نمواً زيادة معدلات الإدخارات الوطنية المحققة فعلياً عن طريق ترشيد الإستهلاك العام والخاص وتحرير المدخرات المكتنزة وتحويلها الى فرص أستثمارية وعن طريق سحب الفائض من الموارد البشرية في الزراعة وفي قطاع الحكومة وتحويله الى طاقات إنتاجية جديدة.

خاتمة

تغير مفهوم التنمية مرات عدّة منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين، فقد تدرّج من التنمية الإقتصادية الى التنمية الإجتماعية الى التنمية البشرية فالتنمية البشرية المستدامة.

لقد أتى إدماج مفهموم الإستدامة مع مفهوم التنمية البشرية في أعقاب عدد من التطورات والتحولات الكونية أبرزها: الأزمات الإقتصادية التي بدأت بالظهور منذ مطلع السبعينات من القرن العشرين، التزايد اللاعقلاني في معدلات الإنتاج والإستهلاك، تدمير المحيط البيئي وتلوث المحيطات والفضاء، التزايد الكبير في عدد السكان (خاصة في البلدان الأقل نمواً)، التعارض الناشىء عن التزايد الكبير في حجم الثروة العالمية وفي أعداد الفقراء في العالم، إنهيار الكتلة الإشتراكية وتراجع خيارات التنمية المستقلة في بلدان العالم الثالث، إنتشار الإيدولوجية الليبرالية المفرطة وقيام النظام العالمي الجديد… وغيرها.

كما أدت الأزمات والحروب والنزاعات التي إندلعت في النصف الثاني من عقد التسعينات من القرن العشرين الى إعادة الإعتبار لدور الحكومات في عملية التنمية المستدامة الى جانب القطاع الخاص بالإضافة الى إبراز دور هيئات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.

ولقد أتت الأزمة المالية والإقتصادية العالمية الراهنة 2008 لتؤكد على ضرورة السعي لتحقيق الأهداف الكبرى التي طرحها تقرير التنمية للعام 1996 حول التنمية المستدامة وهي: تعديل أنماط الإستهلاك، عقلنة إستثمار الموارد الطبيعية، عدم توريث الأجيال القادمة ديوناً لا تقدر على حملها وتحقيق العدالة في العلاقات الإقتصادية والإجتماعية .

ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى لا بد من مراجعة نقدية واعية للثقافة التي كانت سائدة خلال العقود الثلاث الأخيرة.

يظهر البحث أن التربية يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في هذا المجال، إذ يمكن السعي للوصول الى تحقيق هذه الأهداف الكبرى ولو بصورة جزئية من خلال إعتماد سياسات تربوية يمكنها أن تؤدي الى تحقيق بعض الأهداف المرحلية الضرورية في هذا المجال: تنمية حس المشاركة بين الناس وبينهم وبين الدولة، إعتماد اللامركزية في إدارة شؤون الثروة، تنشيط دور مؤسسات المجتمع المدني، إعتماد التخطيط للمستقبل، تنمية الإنتماء الإنساني، تعزيز دور المرأة، تنمية حس المواطنة والأعتراف بالآخر وحق الإختلاف والشفافية لدى الأفراد، نشر الوعي حول الأخطار البيئية والصحية وتلك الناتجة عن الزيادة المفرطة في عدد السكان، إبراز أهمية عنصر الوقت، إعادة التركيز على مشكلة ندرة الموارد، تشجيع الإستثمار في الإقتصاد الحقيقي والإستغناء عن اسلوب النمو الذي يتغذى بالدين… وإعتبار الإدخار فضيلة من الفضائل الأساسية في حياة المجتمعات والشعوب.

لائحة المراجع

  • تم إعلان عقد الستينات عقد أول للتنمية بموجب القرار رقم 1710 تاريخ 1961 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (إشارة من الباحث).

(2) جلال أمين – كيف ندرك الوجه الإنساني للتنمية – مجلة العربي – العدد 530 سنة 2003، ص.: 18.

(3) تجدر الإشارة إلى أن تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 طرح مفهوماً جديداً للتنمية هو “التنمية الإنسانية”.

يعتمد هذا المفهوم الجديد أيضاً معياراً مركباً لقياس التنمية يحتفظ بمؤشري العمر المتوقع عند الولادة ومستوى التعليم من المعيار الذي اعتمده مفهوم التنمية البشرية ويضيف إليهما أربعة مؤشرات جديدة هي: الحرية، مركز المرأة (أو ما أسماه التقرير بتمكين النوع)، درجة الاتصال بشبكة الانترنت ودرجة نظافة أو تلوث البيئة.

وبذلك تصبح المؤشرات ستة بعد أن كانت ثلاثة. ومن الجدير بالملاحظة أن مفهوم التنمية الإنسانية إستبعد تماماً المؤشر القديم المشهور، مؤشر متوسط دخل الفرد الذي ظل لفترة طويلة يعتبر مرادفاً أو حتى تعريفاً للتنمية. (إشارة من الباحث)

(4) تقرير التنمية البشرية لعام 1996– منشور لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي– ص 56.

(5) يمكن في هذا الصدد مراجعة تقارير التنمية البشرية الصادرة في الأعوام 1990 – 1991 – 1992– 1993. (إشارة من الباحث).

(6) التقرير الأهلي اللبناني حول التنمية المستدامة. تحضيراً لقمة الأرض الثانية في جوهانسبرغ آب 2002– بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي– ومنشور بدعم من منظمة اليونسيف– بيروت – لبنان ص10.

(7) المصدر نفسه ص 16

(8) المصدر نفسه ص 10

(9) المصدر نفسه ص 14

(10) تقرير التنمية البشرية 1996- مصدر سابق ص 4

(11) صبحي تادرس قريصة –  مذكرات في التنمية الإقتصادية – الدار الجامعية بيروت 1993 ص109 و110.

——————————-

(*) أستاذ جامعي وباحث في الشؤون الإقتصادية