التّقاليد المعروفية التاريخية ودورها الوطني الجامع

محمود الأحمدية

“الإنسان، فيما هو عليه، هو إتصال لا إنفصال عن الماضي والحضارة، بما فيها الأخلاق والتقاليد الجميلة والقيم الروحية وليس نكراناً لما فات ورفضاً لما مضى بل إمتداد لما سبق وتطوير لما نتلبّس به من تاريخنا وتقاليدنا وماضينا” (كمال جنبلاط)

في مناسبة وطنية بإمتياز هي عيد إستقلال لبنان كنت أحد المدعوّين إلى السّفارة اللبنانية في فرنسا في مدينة باريس وكان ذلك في الثمانينات وكانت الدعوة موجهة للجالية اللبنانية في فرنسا… ومن حظّي أنّه وأثناء الكوكتيل كان بجانبي أحد الفرنسيين وعرّفته على نفسي وعندما انتهيت من الحديث كانت مفاجأته عندما سألني: أتشرّف بمعرفتك ولكن عندي سؤال أرجو ألا أكون فيه حشرياً: ما هي ديانتك؟؟ اسم محمود وأحمديه مسلم! ولكن مسلم ماذا؟؟ أجبته قبل أن أجيبك وبكلّ محبّة أسألك هل بإمكاني معرفة سبب دعوتك إلى هذه المناسبة؟؟ فردّ بتمهّل وتعجّب واستطلاع: أنا أحترم سؤالك وبكل بساطة كنت أحد المسؤولين العسكريين أثناء الوجود الفرنسي في لبنان… وكنت في العاصمة اللبنانية بيروت وكنت أذهب في مهمّات عسكريّة إلى أغلبية الأراضي اللبنانية والآن أعود إلى سؤالك… قلت له: يشرّفني أن أقول لك أنني مسلم معروفيّ موحّد… فأجاب لم أفهم: قلت له مسلم درزي!! وكان كَمَنْ يسمع بخبر يثير الدهشة والفرح والإندهاش…(أولالا) قالها باللكنة الفرنسية الباريسية المحبّبة بعد أن غيّر جلسته على الكرسي كنوع من الترقب والشغف… فقال بسرور كبير… سعادتي كبيرة ومنذ زمن بعيد وبعد عودتي إلى فرنسا لم ألتق بأحد الأصدقاء اللبنانيين الدروز… وعندي لك سؤال آخر ولكنه أخطر بما لا يقاس…قلت تفضّل ولكن بحذر أقلّ وبنوع من الراحة والثّقة بالنّفس مع العلم أنني علماني بامتياز وأحمل فكر كمال جنبلاط وأطبّقه والحمد لله في حياتي العملية والنضالية منذ ربع قرن من الزمن… لنعود إلى صديقنا الجنرال الفرنسي قال: عندما كنت في لبنان لاحظت شيئاً مدهشاً وأبعاده الإنسانية لا حدود لها: وهو تكريم الإنسان في حياته ومماته، في الفرح والكره وخاصة في الممات حيث تقام له مراسيم لم أرَ لها مثيلاً في العالم الأجمع وهذه المشاركة المكثّفة من الناس في وداع شخص درزي إن كان مذكّراً أو مؤنّثاً هو تمجيد للخالق في خلقه وتكريم للإنسان وهذه الأعداد الغفيرة التي تحضر يوم مماته هي أسمى ما رأيت في حياتي وسؤالي: هل تطمئنني أنكم ما زلتم تحافظون على هذه التقاليد الإنسانية الرائعة؟؟ طمّني؟ أعادها مرّتين!! قلت له: نعم هذه التقاليد هي جزء من صيرورة الوطن وديمومة الوطن فعندما يموت أحدنا، النعوة ليوم مماته لا تقتصر على الدروز بل تطال شرائح كبرى من الأصدقاء من باقي الطوائف الكريمة… وهذا اليوم يعتبر يوماً تاريخياً في حياة كل فرد ويقولون عندنا أنّه في هذا اليوم كل إنسان يلاقي أجر أعماله في الحياة!! فسألني بتعجّب ماذا يعني ذلك؟؟ قلت: يعني أن الجميع يكرَّمون في مماتهم إحتراماً للإنسان فيهم ولكن هناك تمييز دقيق بين القامات حيث يلعب العقل والقلب والأخلاق والتّضحية والوفاء والشّجاعة والإندفاع التي يتحلّى بها الفقيد تجعل من يوم وداعه متميّزاً وتاريخيّاً يعني على قدر أعماله يُقدّر حضوراً وكثافة وشهادة! وأبشّرك بأن العادات المعروفية لا تزال كما هي! عصارة تجربة ضاربة في التاريخ عنوانها تقدير إنسانية الإنسان! قال لي بحشرية جديدة وليست مملّة لأن مستوى حديثه المشوّق كان مرتفعاً.

قال: ماذا عن الإيمان عندكم؟؟ أجبت بهدوء عندنا مثل يقول:” إن الإيمان الصادق في صدور الساذجين لخير من التديّن المحنّط في معابد المتمدّنين” وعندنا “الإيمان ليس عنفاً ولا تعصباً ولا انكماش على الذات, ولا احتكار الله والسماء, إنما هو انفتاح على السوي واقتسام الله والسماء مع البشر أياً كان الدين الذي يعتنقون”… وتابعني الجنرال الفرنسي بشغف واهتمام…عندما قلت له وتتمّة للعادات التي تكلمت عنها هناك العبارات الرائعة التي يتناقلها بنو معروف من جيل إلى جيل وفسرت بالفرنسية عدة جمل تستعمل ليلاً نهاراً ومنها:”كل ما الحيّ يليق” تقال لِمَنْ أصابَهُ مرض أو مَنْ عجز بعد عمر طويل… أمّا في المآتم هناك عبارات: “خاطرنا عندكم” “البقية في حياتكم” “عزّ علينا” وفي الأفراح: “كل أيامكم فرح” و”عقبال العاوزين عندكم” و”عقبال الفرحة التّامة” ومئات العبارات التي أتت من الجدود وحافظنا عليها مثلما نحافظ على حياتنا… كان لقاء لن أنساه… وصديق فرنسي لن أنساه… هو العقل الهادي والعادات والتقاليد الرائعة من الجدود إلى الأحفاد، ويبقى الوطن في القلب والعقل والضمير نحافظ عليه كما نحافظ على تقاليدنا وعاداتنا… ببعدٍ وطني بعيداً عن آفة الطائفية ومصائبها.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!