ارتياب في الحرب على الإرهاب؟

عرفان نظام الدين (الحياة)

عادت إلى السمع هذه الأيام أغنية «عربي أنا… فاخشيني» للفنان اللبناني يوري مرقدي بعد غياب طويل يمثل زمن الفصل بين أجواء العالم العربي في تلك الفترة وأحواله في هذه الأيام التعيسة البائسة. فقبل عقد من الزمان العربي، كان العرب يرددون كلمات هذه الأغنية باعتزاز ويتفاخرون بمعانيها، أو بعنوانها فقط، تعبيراً عن انتمائهم القومي والوطني ووحدة الهدف والمصير. أما في هذه الأيام، فهم يرددونها بسخرية وحسرة مما آلوا إليه من فرقة وتشرذم وحروب مدمرة وهروب الكثيرين من انتماءاتهم خوفاً، أو قرفاً، أو تلافياً للشبهة التي لحقت بكل عربي ومسلم بسبب ممارسات بعضهم وتبنيهم لأفكار التكفير والتطرف والإرهاب والعنف في الداخل والخارج، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالأسلوب ووسائل التنفيذ من قتل وذبح وحرق وتفجير. والمؤسف أكثر أن شعار»عربي أنا» قد شوّه واستخدم لغايات في نفوس يعاقيب هذا الزمان وتنفيذ مآرب سياسية وحزبية ضيقة ثم تحول إلى شعارات فئوية وطائفية ومذهبية وعرقية يتفاخر بها بعضهم ويتمسك بها كمُسَلمة لا تنازل عنها، وهدف يسعى إليه حتى ولو أدى الأمر إلى التقسيم والانفصال والحروب التي تأكل الأخضر واليابس وتأخذ في طريقها البشر والحجر من كل الأطراف وأكثر ما هو جميل وحضاري. أما بالنسبة إلى الشق الثاني من الأغنية، والذي يحمل تهديداً بعنوان «فاخشيني»، فإن الواقع المزري يؤكد لنا أنه لم يعد هناك على وجه الأرض من بات يخشى العرب أو يُحسب لهم أي حساب، بل على العكس، فإنه لم يبق أحد من الكبار والصغار «لم يتاجر» بهم، ولم يخشهم أحد من شذاذ الآفاق والطامعين والحاقدين، ومن مختلف الجنسيات القريبة والبعيدة عندما يقدم على التآمر عليهم وقصفهم واستباحة أراضيهم وسمائهم والمجاهرة بخطط تقرير مصيرهم وتحديد مستقبلهم وخرائط حدودهم من منطلق قوة الأمر والنهي والحل والربط.

لكن الواجب يفرض علينا ألا ننكر مسؤولية العرب، من القمة إلى القاعدة، في الوصول إلى ما وصلوا إليه من انهيار، وهو أن الاستسلام والممارسات الخاطئة المتلاحقة التي أسفرت عن تراكمات خلخلت الجسد العربي ونخرت عظامه وأضعفت مناعته. «وزاد الطين بلة»، كما يقول المثل، تعرض العرب للضرب «من بيت أبيهم» عندما تفشت في ديارهم آفات التعصب والمذهبية والظلم والاستئثار بالسلطة وغياب العدالة ونهب الثروات مع كل مما ارتكب من موبقات وجرائم في حق الأمة والدين والشعوب، وجلّهم من الأبرياء المتفرجين الذين استسلموا للواقع وسلموا رقابهم للقريب والغريب وهم يرددون مقولة «ابعد عن الشر وغني له» أو «حايد عن ظهري بسيطة»، فيما شارك البعض في التأييد والانحياز والترويج للباطل بالترهيب والترغيب وعن جهل أو عن علم للحصول على مكسب الحصة من «الحليب المسكوب» أو فتات لقمة وحفنة من المال المنهوب.

ووصلت الممارسات الى ذروتها بانتشار التنظيمات الإرهابية وارتكابها أعمالاً منكرة أساءت إلى الإسلام، وهددت مصير العرب والمسلمين ومنحت الحاقدين عليهم والمتآمرين ضدهم، وفي مقدمهم إسرائيل فرصة ذهبية لشن حروب زعموا أنها مقدسة مع الترويج لنظريات عنصرية مثل «الإسلاموفوبيا» وصراع الحضارات. ومن نسي تسلسل الأحداث لا بد من أن يذكر بما جرى بعد زلزال تفجيرات نيويورك وواشنطن التي تبناها تنظيم «القاعدة» بزعامة أسامة بن لادن حين أقدمت الولايات المتحدة على أول احتلال بلدين، أحدهما عربي (العراق)، والثاني إسلامي (أفغانستان) سبقته ممارسات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حروبه العبثية واحتلال الكويت. ونتذكر أيضاً أن هذا الغزو جرى بعد وقت قصير من انتشار النظريات الحاقدة ضد الإسلام والزعم بأنه عدو الحضارة الغربية القادم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وزوال الخطر الشيوعي.

وتكرر الأمر ذاته بعدما تحول الخطر من «القاعدة» إلى «القواعد»، وتوج بظهور آثار ارتكابه عمليات إرهابية في الداخل والخارج ألف علامة استفهام لتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) بزعم إقامة الخلافة الإسلامية والتباهي بالذبح والحرق والتفجير، ما أدى إلى تشويه صورة الإسلام وضرب إرادة الشعوب بالتحرر والديموقراطية والإصلاح التي حملت عنوان «الربيع العربي»، ما أدى إلى حرف مسارها وفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية والمؤامرات التقسيمية والتمهيد لاستعمار جديد يسيطر على المنطقة وينهب الثروات ويمكن إسرائيل من الهيمنة وفرض إرادتها.

وهذا ما ينفذ حالياً، في شكل أو في آخر، حيث تتقاسم الدول الكبرى مراكز النفوذ وتجاهر بحتمية التقسيم وتعمل لإقامة الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية. وبتنا نسمع يومياً تصريحات وقحة لكبار المسؤولين في الدول الكبرى، والإقليمية معها، تتدخل في كل شاردة وواردة وتتحدث عن حدود جديدة سترسم وعن انتهاء مفاعيل اتفاقية سايكس – بيكو، فيما نكتشف الجديد عن إقامة قواعد روسية في منطقة تقابلها قاعدة أميركية في منطقة أخرى. وكل ذلك يجري تحت ستار شعار براق، وهو محاربة الاٍرهاب، فيما الواقع يدلنا على عكس ذلك، لأن الاٍرهاب يتوسع ويتمدد ويتشدد والشعوب تدفع الثمن بالقصف والقتل والتهجير والفرز العنصري وبتهديد الحاضر والمستقبل ومصير الأجيال بعد تدمير الماضي بكل ما يحمل من حضارات وآثار نادرة وتراث لا يقدر بثمن.

وهنا، يكمن سبب الارتياب بهذه الحروب «الدونكيشوتية» المزعومة وسط تساؤلات منطقية من أرض الواقع يطرحها القاصي والداني، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: – من يصدق أن تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة بكل ما يملك من ترسانات وإمكانات لم يستطع أن يحقق تقدماً ملموساً ضد «تنظيم الدولة» وكسر شوكة «داعش» بعد أكثر من سنة على إنشائه، بل على العكس شهد انتشاراً وتقدماً في مناطق عدة.

– أين الأقمار الاصطناعية والطائرات والأباتشي والصواريخ الذكية والتكنولوجيا والاستخبارات؟ ولماذا لم تتمكن، إلا في حالات نادرة، من ضرب مواقع الإرهابيين ورصد تحركاتهم وهم يغزون بكل راحة مدناً وقرى ويذبحون ويسبون النساء ويتزوجون ويستقبلون مزيداً من المقاتلين من شتى أنحاء الأرض ويصدرون مئات الإرهابيين إلى الدول العربية والأجنبية ليرتكبوا أعمالاً منكرة؟

– لماذا قامت الدنيا ولم تقعد عند نشوب معركة «عين العرب» أو كوباني باللغة الكردية، وانتشر الترويج ثم هدأت الضجة وانتهى الأمر بتحريرها وكانت هذه المعركة تمثل نهاية المطاف؟ أم أن السبب يعود إلى أنها منطقة تدخل في نطاق الخطة الرامية لإقامة كيان كردي مستقبلاً؟ وازدادت الريبة والشكوك بعد تسريب أنباء عن قيام الولايات وروسيا في وقت واحد بتزويد الأكراد بالأسلحة والدعم وزيارة مبعوث أوباما للمنطقة، ومن ثم إعلان السيد مسعود البرازاني أن الوقت حان لإجراء استفتاء غير ملزم حول الاستقلال عن العراق، ليظهر الجميع بمظهر الوصي والداعم والمدافع عن حقوقهم؟

– لماذا التركيز على المسلمين السنة وإظهارهم بمظهر الإرهابيين من دون استثناء، ورفض الاعتراف بأن أكثريتهم يدينون التطرّف والعنف ويدعون إلى التسامح والتعايش أسوة بالقدوة الحسنة وتعاليم الدين الحنيف والسمح، علماً أنهم يدفعون الثمن الأغلى على يد الإرهابيين وهم قلة قليلة لا يتعدون عشرات الآلاف من أصل مليار و٣٠٠ مليون مسلم؟ وهذا التركيز يتزامن مع غض الطرف عن الإرهاب الإسرائيلي المتمادي وقتل الأطفال والمدنيين الأبرياء، أصحاب الأرض والحق، وأيضاً التغاضي عن إرهاب الفئات الأخرى والمتطرفين في العالم الذين يرتكبون المجازر في حق السكان الأصليين وهدم بيوتهم وتنفيذ سياسة الفصل العنصري و»الترانسفير» لإجبارهم على الرحيل من مدنهم وقراهم، مثل ما يحصل في بورما وغيرها.

– ولماذا الإصرار على ضرب المعتدلين بشتى الوسائل، ونفي لوجود أي معتدل والزعم بأن كل من تصدى للمؤامرة هو إرهابي، مع العلم أنه ما من أحد سينجو من سكاكين الاٍرهاب الى أية جهة انتمى، ومهما كانت مواقفه وأهدافه وغاياته؟

– وأخيراً، لماذا يجري تركيز الدواعش على ضرب كل من يجاهر بالوقوف في وجه المؤامرة أو يعمل على إطفاء نيران الأحقاد والحروب والرفض القاطع للتطرف والإرهاب؟ وتكررت هذه الممارسات في الدول العربية وخارجها حيث يمكن الجزم بأن أكثر ضحايا الاٍرهاب هم من فئة واحدة، بينما لم نشهد أي عمليات تذكر ضد من يدعي محاربة الدواعش، كما لم نشهد أو نسمع بأي عملية ضد إسرائيل على رغم انتهاكها المقدسات وتهديدها الدائم للمسجد الأقصى المبارك، أو بعملية أخرى ضد إيران التي هددتهم بعدم الاقتراب من حدودها مسافة ٥٠ كيلومتراً، فالتزموا وابتعدوا والتفتوا إلى وجهات أخرى، ما طرح عشرات علامات الاستفهام؟

إنها أسئلة من ضمن التساؤلات التي تثير الريبة والشكوك وتدعو إلى التمعن في إبعاد التأسيس والدعم والتسليح والتحريض وغايات وأهداف أصحاب الفتنة، ولا بد من البحث عن أصل العلة وجذور المؤامرة وأدواتها، وأن يتعظ العرب ويعوا ويدركوا ما يدبر لهم للقضاء على حاضرهم ومستقبلهم وتفتيتهم من جانب الأعداء والطامعين من القوى الدولية والإقليمية. فهل هناك من يسمع ويسارع إلى نبذ الخلافات وبدء حوار بناء للنهوض والتصدي لإفشال ما يدبر لهم ووقف التدهور الحاصل ومنع الوصول إلى حافة الانهيار. نأمل ذلك، وندعو الله عز وجل أن يتلطف بأمتنا ويحجب دماء العباد ويخلص البلاد وأختم بدعاء: ربنا لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.