التقدمية الحقيقية والإنسان/ بقلم: كمال جنبلاط

«على ضوء هذا الإدراك يتضّح لنا، خلال عملية التطور، غرض الحياة منا وفينا وأننا أداة مكلفة في الواقع بتحويل التيار الحي، الزاخر بالإمكانيات منذ فجر الحياة، إلى فكر وشعور وإشراق وقيم حق ومحبة وجمال، ويتضح لنا أيضاً أية قيمة هي الشخصية البشرية وأية قيمة هي حياة كل كائن بشري ورسالته، وذلك بالاستقلال التام عن أي مبدأ ميتافيزيقي ولاهوتي كان، لو استطعنا أن نقرر ذلك دون أن نستنير بالاختبارات الروحية الحية».

(ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي ص ـ 15)

 أيها الرفاق،

في اجتماعنا الأخير في سوق الغرب، حدّدنا بعض مفاهيم الحزب فيما يختص بتركيز مفاهيم الوعي والتطور والتقدّم وما نعني بها.

ونحن نعود اليوم لنكمل ما أشرنا اليه من ضرورة استيعاب الأعضاء الحزبيين لنظرة الحزب الأساسية في الحياة والوجود والمجتمع والإنسان والحضارة، هذه النظرة المنبثقة من الحياة والوجود ذاتهما ــ قبل أن يصحّ لنا أن ننزِل الى تفصيل المبدأ، ونهبط إلى تفرّع المصدر والأصل في الأجزاء.

إذ كيف يصح تطلْعنا إلى ما يجب أن نطالب بتحقيقه في حقل الاقتصاد والاجتماع والسياسة، إذ لم نعرف، على ضوء هذه النظرة الوجودية، العريقة في أصالتها في جميع مذاهب التحقق، وفي الاختبار الإنساني القديم الألفي والحديث المعاصر، وفي توجّه العلم إليها، إذ لم نعرف هذا الذي يتوافق وينسجم مع نظرتنا الأخيرة للأشياء أو يتفرع منها.

والمعنيان يدلان إلى النهج ذاته في تقصّي الحقيقة: العودة إلى الأصل وإلى مثالات الحقيقة التي يتشخصها العقل فينا على ضوء مقاييس الفكرة التقدمية الاشتراكية، أو جعل الأحداث والتفصيلات تتخذ مقاييسها الأصلية فينا قبل أن تبرز إلى التحقق، إلى الوجود.

قلنا إن التقدم الذي نعنيه ليس هو مجرد تغيير الأشياء، وتبدل العادات، وتطوير الأوضاع، وانقراض القديم، وارتفاع الجديد في أثره كمن يرد الماء ليرتوي فينحني إلى الأرض يعبّ كلّ ما تصلّ إليه شفتاه، أكان ماء بحر أجاج أم مستنقع آسن، أم ساقية حمئة جارية تلوّثها الأوساخ وتطغي عليها آفات المرض وترسّبات الأوحال.

إنّ خطر الحرية المطلقة في تكوين المدنيّة الحديثة، وفي ابتداع الأغراض والمنتجات والآلات وعرضها وتقديمها للناس في جوّ من الإغراء والإيهام التجاري الصرف والدعاية المنتشرة الواسعة، دون أن تبصّر أو تمييز أو تدقيق  حتى في معرض الأدوية البشرية والزراعية ــ قد جعل الإنسان المعاصر ــ منتجاً كان أم مستهلكاً ـ عبداً أسيراً مستغلاً لإبداع هذه الآلة وأغراضها وتنوّع إنتاجها، يستخدم هذه الأغراض والمنتجات والآلات لقضاء حاجات، في دفع التسابق والزحام، غير ملتفت إلى فائدتها أو ضررها في حياته وفي أغشيته، وفي أعصابه وفي صحته، وأثرها في صوابية شعوره وتفكيره، ونتائجها وانعكاساتها على عائلته وأولاده وجيرانه.

وهكذا نتقبل ونتلقف هذا السيل من المنتجات والعادات والأفكار التي لا تعد ولا تحصى بدون رأي لنا في ذلك أو وعي أو تنبّه، أو محاولة تمحيص أو تدقيق بدائي ساذج.  إنما نثق بالمدنيّة التقنية التي تقدم لنا هذه الأغراض في جوّ من الخداع البرّاق وسحر الدعاية، ولا نفطن إلى هذه الحضارة التقنية التي تقدم لنا هذه الأغراض في جوّ من الخداع البرّاق وسحر الدعاية، ولا نفطن الى أن هذه الحضارة التقنية ليس لها من علم الإنسان مقياس، ولا من دينه سنّة، ولا من عقله وضميره معيار أو قاعدة أو تبصّر في عاقبة مداولة هذه الأغراض ونتائجها وسلامة ذلك أو عدم  ملاءمته؛ لأن الرأسمال الاستثماري التجاري هو الذي يستغل هذه المدنيّة وآلاتها وإنتاجها واستهلاكها ويوجهها للربح، وللربح التجاري الأوفر، ولا ينظر إلى موافقتها أو عدم موافقتها لطبيعة الإنسان وظروف عيشه الطبيعية. فنحن، من هذه المواجهة، أرقّاء التجارة، أسرى الرأسمال وعبيد استثماره ودعايته.

Kamal-Jounblat-6

ولا نتنبّه إلى كل ذلك، بل نندفع في تيار شراء الجديد وتقبّل المستحدث الجديد، ونبذ القديم، والتنكّر لكل عادة تقريباً أو تقليد، والابتعاد عمّا اعتاده آباؤنا وجدودنا وما امتحنوه وارتضوه واستخاروه بعد اختبار مئات وآلاف السنين؛ نحن ننجذب وننجرف مشدوهين بما يسمونه، عادة وعامة، بضرورة التمدّن الخارجي والتحرر والاصطباغ والتطبع بكل ما يردنا ويأتي من الغرب، على أنه الأفضل، ولكنه قد لا يكون الأفضل، وقد يكون الأسوأ في امتحان أولياء الغرب البصيرين وتقديرهم.

هذه النزعة لتقليد كل جديدة، وهذه النزوة في الإقبال على كل وارد مستحدث، تدفع بالرجل وبالمرأة اللبنانيين والعربيين، خصوصاً في المدن، إلى اعتماد عادات في العيش والتكيّف والتطبّع والتأدّب والمعاملة والملبس والذوق واللهو والأناقة، تتغير وتتبدّل باستمرار وفق تبدّل الأهواء واختراع المخترعين ووفق المستنبط الوارد من الخارج، ولا يتجنب الكثيرون تبنّي أساليب الاستهتار المسعور في الأدب الصاخب والشعر المنفلت، وفي الموسيقى المرهقة للأعصاب، ولا هذا العلم السطحي الخاطىء الذي هو شرّ من الجهل، ولا يحذّرون التسمم البطيء ببعض المآكل المستحدثة وبدخان اللفائف وبجرعات الكحول أو بانعدام الحركة والركون الى الجلوس في المكاتب والانتقال بالسيارات، فيما عدا تعاطي بعضهم للأدوية المتنوعة والمخدرات والمنعشات والمهيّجات. ثم تتساقط عليهم أو تتلاقى فيهم هذه الموجات المتعاقبة المتدفعة من صخب الإعلان وصور إعلام التلفزيون والراديو والصحف، فيما تحتجب عنهم السماوات في عماهة ليل عقلهم المستدرج المنجذب الى الخارج، وفيما يغطّيه ويحجبه سطوع أنوار الكهرباء ليلاً من روعة الظلمة الزرقاء المحيطة بالأرض وبهاء الكواكب والنجوم والمجرات، في حين لا يتنشق واحدهم من سكان المدن والضواحي سوى هذا الهواء الملوث بالجراثيم والآفات والمشحون بالغازات المؤذية.

وهكذا يضحي المواطن مجرّد شبح بشري في ذاته، مجرد عن أي طابع وطني أو قومي أو إنساني، شرقياً كان أم غربياً، كمن ليس له شخصية أو كأداة متحركة بدون روح مميزة عاقلة، مثلهم كمن يلبس ويخلع ألف  قميص وجسد في كل يوم واحد أو يتزيا بعدد من الذهنيات المتتابعة المتسلسلة المتناقضة. ويتطلّع المتبصر منّا، من خلف تقليده الإنساني الحضاري الألفي، الشرقي والغربي على السواء، ويقول: أهذا هو منّا؟ أهذا هو الإنسان الجديد الذي تعتمده المدنّية التقنية مثالاً ونموذجاً: هو مريض أو شبه ذلك في جسده، في أعصابه، في عاطفته وعقله، في خلقه وشخصيته ومواطنيه وحضارته الداخلية وتصرفه..؟ والأغرب والأعجب أن بعضهم يسمّون الإقبال على هذه البدعة «التحرر» و«التقدم» وتحرراً وتقدماً. بئس هذا التحرر الخاطىء وبئس هذا التقدم. وبعضهم يدّعي بأن التمدن أو التحضّر والتثقف يقضي بذلك، ونحن في الحزب التقدمي الاشتراكي نبرأ هذا اللون من التحرر، من هذا المفهوم من التقدم، من هذا التثقف السحطي. ولا يغرّن أحداً أن يتأبط صاحبه الشهادة العليا أو يبرز علامات التفقه والتعلم ــ والشهادة ليست بحد ذاتها دلالة معروفة، وهنالك فارق جوهري بين التعليم والعلم ــ إنما وجد الإنسان ليعلم الحقيقة ويعمل بها، لا ليقلّد ويماثل كلّ ما يرد على حواسه العاكسة وخاطره.

يجب أن يتيقّن كلّ منا أنه لا يستطيع أن يهدم، ويجدر بنا أن لا نمكّنه من ذلك وبنزوة عابرة، وبسرعة في الانجراف والعماهة، التراث والتقليد والاختبار الذي بناه الإنسان الاجتماعي عبر التاريخ في مواجهته المتصلة الغنيّة بما توحيه خبرة الآلاف من السنين. ولم تكن الحضارة، في يوم من الأيام الغابرة، هذا التقليد المادي الآلي «السعداني» ــ إذا شئنا التعبير الموافق ــ لكلّ ما يرد علينا ويغمرنا ويغرقنا من الأعراض والصور الحسية الخارجية.

ولا يكون التجديد والتمدن والتحضر والتثقف في تقويض كل قديم، ونحن نكاد لا نستوعب عدد الأجيال اليت انقضت لأجل إبراز هذا النهج القديم على صوابيته، بل التجديد والتمدن والتحضّر والتثقف هو في اختيار الأفضل والأصوب والأكثر ملاءمة لطبيعتنا الإنسانية، ولأغشيتنا وأعصابنا، ولنموّنا وتفتحنا وراحتنا الحقيقية، لا في اعتماد كلّ ما من شأنه تفكيك نظام العيش والعائلة والمجتمع، والإقبال على أساليب وعادات تزيد في اضطراب النفس وفي عناء الأعصاب، وتسرع في شيخوخة الأغشية والأعضاء، وتنهك وظائف العقل والحواس، وتشيع السموم في الهواء المحيط وفي دم الإنسان وجسده، وتلقي به في فيافي المتاهة الفردية المغلقة البوار، وسط صخب الإعلان واجترار تمويه وسائل الصحف والدعاية الفتاكة.

هذا الخطر المحيط بنا من كل جانب قد أوضحه وأشار إليه ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي، مؤكداً خطره ونتائجه الوخيمة في حياة الإنسان، ومشدّداً على ضرورة تلافيه ومجانبته:

«فقد نوّه أكثر رجال العلم بالخطر الناجم، حيال البشرية وحيال الحضارة، من انحطاط السلالات البشرية كنتيجة محتومة لأوضاع المدنية التقنية القائمة، ولإهمال المؤسسات العامة هذه الناحية الأساسية من حياتنا.

«إن سلامة العنصر البشري ــ جسداً وحواساً وأغشية وعقلاً وخلقاً وذهنية فاعلة خالقة ــ أساس لبقاء ونموّ الإنسان وتطوّر الجماعة والمدنية، وإنّ إحدى وظائف الدولة الأساسية أن تتدبّر ما به تحقّق «المحافظة على سلامة النسل وازدياد الأفضل وحيوية العنصر البشري وقوّته ونبوغه المتنوّع المتناهي…»

ولا يتم ذلك إلاّ:

«بنظرة جديدة للعناية الصحية، وسلامة الصحة العامة أساساً لحيوية المجتمع واعتماد التدابير اللازمة لذلك» ومنها:

ــ إزالة الأمراض الوراثية.

ــ نشر مبادىء الوقاية والمناعة الصحية) وتعزيز مناعة الجسد أفضل وسيلة للقضاء على الأمراض وتجنبها (فالطب يجب أن يقوم على تقوية هذه المناعة واستثارتها وتهيئة الظروف المعيشة الضرورية لتنميتها، لا أن يتوجه فقط إلى شفاء الأمراض.

ـ «وضع تصاميم للمدن والقرى، ـ وقد أصبحت المدن الحديثة «مقابر للأحياء»، على حد تعبير أحدهم ــ بما يضمن للسكان التوزع (أي الانتشار)، والشمس والخضرة، والهواء الطلق ونضرة الماء». وهل يعيش الإنسان إذا لم يتمتع بسحر هذا الوجود وبراءة الطبيعة على عفويتها..؟

ـ «الحرص على تطبيق تشريع صارم يقي الصحة العامة شرّ التزوير والغش والاستهتار فيما يهمّ المواد الغذائية.

ـ «رفع مستوى الدروس الطبية واستثارة البحث العلمي»، خاصة في الحقل الذي يتفتح عليه العلم الحديث اليوم في تنقية جوّ المعالجة ممّا علق بها من أوهام وأخطاء، ودراسة تأثير المدنيّة التقنية القائمة في غذاء الإنسان وشرابه، ونومه وعيشه وتنقّله، وبتوفير «تربية خلقية تكون أساس الدراسة الطبية».

ـ «بواسطة شرط الزواج بوثيقة صحية ومكافحة منظمة للمرض والإنحلال الخلقي.

ــ «بتقوية فكرة الأسرة بتشجيع وتمكين الزواج الباكر واحترام قدسيته ووحدته، ورعاية الأمومة والطفولة».

ـ «بتوضيح حرمة الجسد والابتعاد عن الإسراف في كل شيء»، وترفيع القوى الحية وتحويلها الى قوى نفسية واجتماعية خلاّقة وبناءة.» وهل يرتفع الإنسان وينبغ إلاّ بما يوفّره في جسده وفي حواسه وفي نفسه من طاقة تتحول الى التحقق والإبداع؟

ـ «بعناية منظمة بالرياضة الجسدية من نتيجتها مثلاً:

«تعويد الولد ضروب الاعتناء بالجسد.

«بجعل علم الصحة لا علم المرض والتربية البدنية مادتي درس وامتحان.

«بتحبيب النشء بالرياضة الطبيعية بما يؤمن له تنمية منسجمة للأعضاء وينحت خلقه ويبعث فيه البهجة..» واتجاه الرياضة الحديثة كما نعرفها ليس من الرياضة بشيء، لأنها تنهك بعض أعضاء الجسد الحيوية التي يجب تنميتها بانسجام متوافق متكامل مع سائر أعضاء الجسد.

ـ «بإعادة الرياضة إلى جوّ الطبيعة وإلى ما وجدت له وظائف الجسد القابلة للتكيف بغية تطهيرها وزيادة نموها وحدّتها.» فحواس الرجل الحديث تضعف باستمرار وتصيبها العاهات والوهن أكثر فأكثر، نتيجة ظروف الحياة المرهقة والمدنية المتعبة، بالتشديد على العلاقة القائمة بين الرياضة والبهجة بإيضاح التفاعل بين الجسد والقوى النفسية بحيث يفيد الواحد من تقدّم الآخر.

(بالتشديد على الإفادة فردياً واجتماعياً من نموّ الروح الخلقي الرياضي).

«بتظهير الناحية الجمالية للرياضة». ـ فلا تعود الرياضة موضع منافسة مضنية واعتزاز فردي أناني، بل تصبح وسيلة لتهذيب الجسد والنفس وتنمية الإنسجام الداخلي والخارجي الذي يوحي وحده بالجمال..

«وإن من بين التدابير التي يرمي إليها الحزب: المحافظة على العنصر البشري وتنقيته والتخلص من بعض الظروف والأحوال الضارة التي أوجدتها المدنيّة التقنية.

«إن إحدى مشاكل المدنيّة والأنظمة القائمة على إطلاقها، الكلية الشيوعية منها والديموقراطية الغربية، هي أنها لم توفّق إلى حل معضلة الأضرار المادية والنفسية المتزايدة والناجمة، في حياة الإنسان، من جراء انتشار الآلة والصناعة الحديثة، والتوفيق بين تطوّر الآلة وبين حالة أغشية الإنسان ونزعاته الطبيعية والنفسية».

وسيّان في هذا الإهمال والتغاضي العالم الشيوعي والعالم الغربي، لأنهما ركّزا اهتمامهما على الإنتاج، لا على أفضل الإنتاج وأفضل وسائل الإنتاج وأكثرها ملاءمة لطبيعة الإنسان. فالاستغلال الآلي للإنسان هو ذاته في الحالين. وإنّما النظام الشيوعي المفروض بقوّة القانون، والمرتكز على التصميم والتخطيط، قد مكّن روسيا من أن تحدث ثورتها الصناعية الكبرى بأقل فترة من الزمن ممكنة، كما يلاحظ ذلك توينبي (Tounbee).  ويستمر الميثاق في إعلانه وتحليله:

«إن الحزب يعتبر كقضية أساسية تهيئة الجو الملائم للكائن البشري ولنموّه ولتفتّح مقدوراته، وذلك باعتماد الأساليب والعادات الاجتماعية التي تتلاءم مع أغشيته ونفسيته.

«فيجدر مثلاً تنقية جوّ المعمل والمتجر والمحترف وإزالة الصخب والضجيج والجلبة من المدينة، وإذا لم يكن من بدّ، هدم المدن وإعادة تخطيطها وبنائها بشكل يتلاءم أكثر فأكثر مع متطلبات الفرد وراحته، بحيث تتوفّر له المتعة النفسية والجسدية في أجواء فسيحة من الحدائق والغابات.

بيروت

«وفي هذا السبيل قد يكون من الأفضل تجزئة الأحياء وأقسام المدينة إلى مجموعات بشرية صغيرة تلتئم وتنتظم على أساس الكفاية الذاتية في معظم شؤون الاستهلاك وفي الخدمات الاجتماعية، وتبتعد وحداتها السكنية عن الأخرى، وتنفصل بشكل يجعلها خليّة بشرية موحدة وحيّة.

«ويجدر تنقية جو الصحافة والملاهي والاحتفالات والاجتماعات الشعبية، كي يتوفر للفرد الاطلاع على أكبر قسم ممكن من الفنون والعلوم». والصحافة والملاهي والاحتفالات وسواها تؤلف المجال البديهي لرياضة العقل وسياحة النفس، ولاقتباس الكثير من عادات الشعور والفكر والتصرّف.

وهي ـ مع المدرسة ـ  الغذاء الطبيعي للعقل وللشعور، ومن فسد مأكله فكيف يصحّ تأمله، ومن التوت فيه الأفكار وأظلمت الشواعر التي تأتيه من الخارج، من عالم حواسه، فكيف يستقيم شعوره ويتصوّب عقله؟ وإننا نحن نفسياً أبناء البيئة الفكرية التي نعيش فيها.

وهذه الصورة الحسية والفكرية تتراكم اليوم علينا، وتتوافد بدون تمييز و،لا تدقيق ولا استنارة، وفق مقاييس الدعاية التجارية، في جو من حرية الإنتاج والتداول، هي ذاتها هذه الحيرة الفوضوية غير المسؤولة التي ألفناها في الاقتصاد: فهم يبيعوننا الأفكار والعواطف كما يبيعوننا السلع بدون تقدير لأهمية ما يدخلونه في النفوس، بواسطة وسائلهم وأجهزتهم، من بذور ينطلق منها التفكر والشعور.

وقد أضحى خطر هذا التلوث الفكري الشامل شديداً بسبب انتشار أداة التلفزيون والراديو وزوال الحدود علمياً بين الدول والأمم، بتمكن هذه الموجات من اختراق جميع الحواجز السياسية والجغرافية، وعبور المحيطات والحدود والأسوار وجدران البيوت. وعمّا قريب ستسهم الأقمار الصناعية بجعل الصورة المرسلة تُلتقط في أي بلد من بلدان العالم.

ولا يفوتنا أن نذكر إحدى آفات المدنية القائمة التي تعتمد حرية النشر على إطلاقها دون وازع أو رادع، وحرية دعاية الاقتصاد التي لا يضبطها أو يوجهها اعتبار إنساني أومعنوي، ونعني بهذه الآفة المهلكة: صخب الإعلان في الصحف، في الإذاعة اللاسلكية، في التلفزيون. وقد أضحى الإعلان إحدى المشاكل الكبرى التي يتوجب على المواطنين وعلى الدولة أن تواجهها. ويبلغ الضرر الناجم عن الإعلان إقصاء وذروة خطره فيما يعود للترويج للأدوية الصحية وللمآكل ومواد التغذية على تنوعها. وقد يستدعي ذلك وضع تشريع يحظر الإعلان لمثل هذه الأغراض ويحددها في أمور أخرى، بعد اخبار صدق مواصفات السلعة التي تروج لها الدعاية.

وحيث أن السلع والمنتوجات تسد حاجات اجتماعية أو أغراضا بشرية معينة، فعلى الدولة الممثلة للمجتمع أن تتدخل لتنسيق وتنظيم الدعاية والإعلان لمثل هذه السلع والأغراض والمنتوجات.

إن طبيعة الاقتصاد قد تطوّرت ولم تعد هي ذاتها بسبب استخدام الدعاية والإعلان على نطاق لم يكن معهوداً في أية مرحلة من مراحل الحضارة وتاريخ الإنسان.

وإن ننسً لا ننس تلوث مياه الأنهر والسواقي بالمواد الكيماوية والجراثيم وتلوّث الهواء بها أيضاً بشكل مخيف يحمل معه الأمراض والأوبئة والغبار والسموم. ويبدو أن الولايات المتحدة بحاجة الى عشرات بل مئات المليارات من الدولارات لأجل تنقية الأنهر التي تصب فيها نفايات وسوائل المصانع والمنشآت.. كما أن مشكلة التلويث الإشعاعي الناجم عن الصناعات النووية وعن نفايات هذه الصناعة وبقايا إفرازاتها بشكل خاص، أكان ذلك في الهواء أم في أعماق الأرض أم في الماء، لا يزال بدون حلّ موافق، ويكون أضخم مشكلة في المستقبل.

تلوث

أما تلويث الهواء في المدن، فيكفي أن نذكر ما قاله بصدد ذلك العالم الدكتور أ.سلمانوف Salmanoff) ) في كتابه أسرار وحكمة الجسد Secrets et Sagesse du Corps ص 39.

«إن كلّ حركة تنشّق للهواء تدخل بضعة مليارات من الجراثيم الى الجسد خاصة عند أبناء المدن الكبرى. والقضاء على هذه يتطلب جهداً فائضاً من الجسد».

Chaque mouvement respiratoire fait pénétrer a l›intérieure de l›organisme, surtout chez les habitants des grandes villes, quelques milliards de germes. Leur anéantissement exige un effort supplémentaire de  l›organisme. p3.

وعلينا أن نشير أيضاً في هذا المجال الى خروج الإنسان عن وضعه الطبيعي، فيما تحتاج اليه حواسه وأغشيته ونفسيّته في الليل من ظلمة مريحة تتخللها أشعة القمر الفضية والنجوم الزرقاء، يطمئن اليها وتهدأ لرؤيتها جوارحه وتستكين أعصابه، وتنطلق في استشعار اسرارها مخيّلته.

ومن لا يستطيع أن يتمتّع بالليل البهيم يعوزه الكثير من بهجة الحياة ومن خلجات الإنسانية الصحيحة في عروقه وفي تفكيره وفي عاطفته وفي إرادته.

ويكمل الميثاق هذا التحليل بإعلانه:

«ويجدر، وبصورة خاصة، التنبه الى أهمية ارتباط الإنسان بالأرض، اذ ان كثيراً من المصاعب والمشاكل القائمة هنا وفي العالم ناتج عن تجربة قاسية في هذا الحقل، أي عن إهمال علاقة الإنسان بالأرض وأهمية هذه العلاقة».

فالإطار الطبيعي لحياة الإنسان هو الأرض، هو الطبيعة، وما من بيئة أخرى إلاّ وتكون مصطنعة بالنسبة  لهذه البيئة الطبيعية. فيجب أن لا ننسى أبداً أن الإنسان يحيا بالماء الذي يستقطره من جوف الأديم، وبالغذاء الذي ينبت من تفاعل نور الشمس بمادة الأرض ذاتها، وعيوننا مرتبطة بوجود النور، لو لم يكن لما كانت، وكذلك بالنسبة لسائر الحواس وأغراضها. وهذا الهواء الطلق الذي بدونه لا نستطيع أن نبقى دقيقة واحدة في قيد الحياة والذي يُبقي نفَس الحياة في الجسد ويعلّقها به ويقفصها ضمن جدران خلاياه ـ والنَّفْس منحدرة في اشتقاقها الكلامي من النفس. وهل يستطيع أحدكم أن يفكر بما يتنشقه في يومه الواحد ليلاً ونهاراً؟ إذن لانتابكم العجب وشيء من الدوار.. ويقول الدكتور سلمانوف إننا بحاجة الى مائة وستة وعشرين ألف ليتر هواء في الأربع وعشرين ساعة لكي تتوفر لنا كمية غاز الأوكسيجين الضروري.

كان سوكولوفسكي يقول: «إن الحضارات والشعوب التي تفقد ارتباطها بالأرض لا تلبث أن تذوي وتزول».

 «L›ascension de la Civilisation humaine s›accomplit aussi longtemps que les meilleures forces s›emploient au soin de la terre. La décadence comence avec l›éclipse de la culture lorsque chacun veut voler de ses propres ailes, quand les forts et les entreprenans se détournent de la terre et cherchent d›autres voies». N.Sokolowski.

الحضارة

«إن صعود وتألق الحضارة البشرية يدوم، ويستمر طالما أن أفضل القوى تلتزم العناية بالأرض، ولا يبدأ الانحطاط ولا يرتسم خسوف الحضارة إلاّ عندما يريد كل كائن أن يتحرّر وأن يستخدم جناحيه منفرداً، أي عندما يتحوّل الأقوياء والنشيطون عن الأرض ويطلبون سبلاً أخرى».

ويجب أن لا يغرب عن بالنا أنّنا أولاد هذه الطبيعة، نحن نتاج التيارالمرتفّع الأخير في سلم تطور الطاقة المادية النباتية الحيوانية.

وهذا الجسم يتكون، بمادته وأنسجته وأغشيته وسوائله وأعصابه وأقنيته وشرايينه وخلاياه المتنوعة اللامتناهية، من هذا الغذاء والماء والشمس والهواء.

والطاقة فينا، بما فيه طاقة الفكر المنبثق من تلافيف الدماغ ومراكز انحصارالوظائف، هي تحوّل دائم لهذا الغذاء الذي نتلقّفه من النبات والشمس والماء والهواء. ولولا صلة الأخذ الدائم من الطبيعة، لما كان لنا أية طاقة مادية أو فكرية أو لطيفة على السواء.

وعلى ضوء هذا المنظار الحقيقي للإنسان، يجب أن نتساءل، وقد قطعت بنا ظروف العيش الاصطناعي، شوطاً كبيراً وبعيداً:

وعلى ضوء هذا الغذاء الذي نقدمه لأنفسنا ولأولادنا نقياً فعلاً، وخالياً من الغش ومن المواد التي اصطنعناها، وهي ليست موجودة في سجل الطبيعة أبداً، وهلاّ يزال هذا الغذاء يحوي جميع ما توفّره الأرض من المعادن لنباتها وحيوانها، هذا النبات والحيوان الذي نأكله بدورنا لنعيش…؟ أو هل تقوت هذه الحنطة التي نُزعت منها، مثلاً، موادها المغذية الأساسية، أو هل يفيد هذا الزيت الذي مزج بمواد لا نعرف لها نفعاً، أو هل يروي جوعنا الشامل هذا الحليب الذي تلاعبت به أيدي الآلات وسحبت منه بعض عناصره الأولى، وخبز الحنطة كالحليب طعام كامل بحد ذاته..؟

ـ هل الماء الذي نشربه، وتعبق به المطهّرات الكيماوية التي وضعت فيه لقتل كل حياة، هلاّ يزال سائلاً حياً وطاهراً وجديداً ونافعاً كهذا السلسبيل الفضي الشفاف الذي يتقطّر بين أيدينا من فم ينبوع مائه؟

ـ هل فكّرنا بأثر اللحوم والخضار والفواكه الموضوعة في المعلبّات منذ أشهر أو سنوات، في مزاجنا وحيويتنا وسلامة صحتنا.. وهل يصح أكل الميت والمحنط من الأشياء؟

ـ هل تبصّرنا بأثر الأدوية الزراعية الحديثة والأسمدة الزراعية الصناعية على نتاجنا الزراعي على مدى طويل، وعلى صحتنا وسلامة أعضائنا في المستقبل القريب والبعيد؟ فهناك مساحات واسعة شاسعة في الولايات المتحدة وسواها من البلدان قد أصبحت قاحلة مقفرة كالصحاري بسبب تعاطي الأسمدة الكيماوية والأدوية الفتاكة والإسراف في استخدام الجرارات وقتل العشب النابت على سطح الأديم، فتفتت تربتها وتسممت مياهها، ومات طيرها ووحشها وأسماكها، وذوت أشجارها ومزروعاتها واضمحلت، وتسربت السموم الملوثة الى المياه الجوفية، فأضحت خطراً على مناطق أخرى كبيرة متاخمة أو بعيدة. أو هل راقبنا أثر هذه السموم التي تروجها دعاية حرية الاقتصاد التجاري، على أغشيتنا وأعصابنا وحياتنا بعد أن نغلّف بغبارها الخضار والفاكهة التي نأكلها، فيتسرّب السم اللطيف إلى بعض الأعضاء كالكبد مثلاً ويستقر فيها، إلى أن يتكاثف مع الوقت في تراكمه في الموضع المحدد من الجسد، فيظهر المرض الذي يودي بصاحبه بعد زمن قصير أو طويل، أو يتوارثه الابن عن الوالد. قليل منّا من يعلم أن هذه الأدوية الزراعية ـ وبعضها الفتاك الذي نعني ــ إنما اخترعها العلماء الألمان قبيل الحرب العالمية الثانية الكبرى لأجل استعمالها كسلاح هائل مميت على أخصامهم الحلفاء، وإنه، لسبب ما، لم يستخدمها الجيش الألماني فعلاً، فحوّلتها الصناعة فيما بعد إلى مكافحة حشرات الأشجار والمزروعات بعد أن كانت معدّة لمكافحة البشر.

هل هذه المعادن المصطنعة من مواد اللدائن المتنوعة وسواها، والتي اخترعها الإنسان وحده ولا يوجد لها مثيل على وجه الأرض ولا في النجوم والكواكب السيارة والمجرات التي تملأ الدنيا، هل إن هذه المعادن المصطنعة لها تأثيرها على عيش الإنسان في لبسه وغذائه وشربه؟ أو هل يجوز استخدامها لغاية في العيش قبل اختبار فعلها وأثرها؟

وهذه الأدوية الصحية الأخرى التي يعالج بها الإنسان مرضه، والتي تُطرح في السوق التجارية أفواجاً وأعداداً بعد اختبار قصير جداً، فسيتخدمها الطبيب والمريض دون أن يعلم كل منهما أثرها البعيد، وخاصة هذه المواد المانعة لتولد بعض الجراثيم Antibiotiques والتي نتداولها حتى بمناسبة زكام طفيف، هل ندري تماماً ما هو فعلها أثرها وما ينجم عن المعالجة بها؟

ثم هذه العادات في السهر والنوم والانتقال السريع، وهذا العالم من الإشعاع الكهربائي والموجات الكهرطاسية المختلفة التي نعيش في وسطها ونعرض دائماً وأبداً لها، وهذه المساكن التي نبنيها من شتى المعادن والزجاج من جدران الخرسانة وسواها عوض الحجر الطاهر، والتي لا تقي الحر صيفاً ولا البرد شتاء، لسرعة اختراق الموجات الحرارية لها في الاتجاهين، وهذه الألبسة الضيقة التي نرتديها فتمنع أو تعيق جريان الدم الطلق في عروقنا وأغشيتنا، وعادات الجلوس والوقوف في غير ما تعوّده الإنسان وما يوافق توازنه أو طبيعة منحنى سلسلته الفقرية التي تغلّف حناياها جميع أصول وفروع الأعصاب، بحيث يكون هذا الإنحناء أحد عناصر الانتعاش أو الإرهاق أو الصحة أو المرض، الخ، كلّ ذلك لا نتميّز مدى تأثيره في جسد الإنسان ونفسيته وحياته.

وأخيراً لا آخراً يتحدثون عن استخدام تفجير الذرة لأغراض السلم، وخاصة في محركات السفن والطائرات والسيارات فيما بعد، وفي توليد الكهرباء، وفي إجراء الأعمال الإنشائية الكبرى من سدود ومجار وتراع وسواها.

وفي كبرياء التسابق والغلبة وتطلّب النجاح وابتغاء النفود، يتزاحم الغرب الديموقراطي والغرب الشيوعي على تطوير هذه الالات الذرية وتنفيذها، دون أن يهتموا، بشكل مباشر وأساسي، بخطر تلوث مياه الأنهر والبحار والأرض المجاورة والهواء والغبار من الإشعاعات السامة الممرضة القاتلة. ماذا يفيدنا أن نستخدم تفجير جيوب طاقة الكون على غير هداية وعلى غير ما يجري في الطبيعة الواسعة، إذا كان سيحلّ ذلك مرضاً مشؤوماً فينا وفي أولادنا، وهلاكاً أكيداً بالنسبة للكثيرين منا، أو إذا كان سيعقب ذلك بروز العاهات والانحرافات العضوية، تقيم وتتوارث في سلالتنا وأولاد أولادنا؟

ولا أتحدث عن خطر تلوث مياه الأنهر والسواقي في الولايات المتحدة وأوروبا، وتدنسها بمياه المعامل المدنية وبجراثيم المجارير وأوساخها وموادها الكيميائية، حتى أضحت هذه الأنهر مستودعا هائلاً لشتى ألوان بذور الأوبئة والسموم والأمراض، وقد تتكلّف الولايات المتحدة عشرات المليارات من الدولارات لأجل تنقية مياهها ورفع خطرها كما أبرز ذلك بحث مستفيض. وقد بدأ هذا التلوث يحل ببعض أنهر لبنان، لأن الطبيعة فرضت دفن الأوساخ لتتحلل بسرعة وتزول في التربة الحيّة الآكلة الحاوية لملايين الملايين من الحيوانات الصغيرة والجراثيم المطهّرة، لا لتجري في الماء فلا يُعرف لتكاثر جراثيمها الضارة من نهاية.

وهل تبصّرنا في أثر هذا الصخب وهذا الضجيج، خاصة في المنازل القريبة من الشارع، على أغشيتنا وأعصابنا وفي صميم خلايا أدمغتنا وأوتار قلوبنا وأحشائنا  ـ وهذا الصخب وهذا الضجيج يتسجّل كما في الآلة الإلكترونية المسجّلة في هذه الأعصاب والأغشية والخلايا والأوتار، وتحفظه الذاكرة العصبية والحافظة الفكرية، ليعود فيستيقظ قلقاً نفسانياً واضطراباً فكرياً ومرضاً في الأعصاب والحواس وفي الجسد.

وأخيراً لا آخراً هل تدبّرنا أهمية الراحة في حياتنا؟ أوَلم نر الحيوان والنبات كيف يرتاح ويعرف كيف يرتاح ليعود فينشط وينطلق من جديد؟ وكلّنا ينشد الراحة ـ وراحة الفكر الحقيقية هي السعادة ـ والسعادة مطلب كل كائن على وجه الأرض، ومن لم يعلم قيمة الراحة وأهميتها لا يستطيع أن يعمل.

فالنشاط ينبعث من الراحة، كما تنبثق الحياة من النوم العميق عند بزوغ فجر اليقظة العادية. والسؤال ذاته يصح بالنسبة للنوم والسهر ولألوان الموسيقى المهيجة وللرقص المنحرف المجنون في صخبه.

لنذكر للمثل لا أكثر أنه من جراء كل هذا قد ارتفعت نسبة المرضى في الولايات المتحدة ـ وهي أكثر البلدان تقنية وتمدناً في المعنى الدارج ـ فشملت مائة وعشرين مليوناً بشكل دائم من أصل مائة وسبعين مليوناً من سكان هذه البلاد سنة 1961. أي أنه بعد ظروف العيش المتمدن ــ غير الطبيعية ـ لا يوجد في الولايات المتحدة سوى خمسين مليوناً من الأصحاء.

أما عدد المرضى نفسياً واجتماعياً وعقلياً فهو في تزايد مذهل. كيف يمكن أن يكون المجتمع سليماً إذا لم يكن أعضاؤه الذين يتألف منهم سليمين في ما هم عليه من مصادر ومظاهر للطاقة الحيّة، في العقل والشعور والتشخّص في هذا الجسد؟ وكيف تنمو الحضارة الإنسانية الحقيقية إلا في مجتمع يكون أعضاؤه سليمين؟

هذا التطرق البسيط لبعض مواضع الساعة ولمشاغل رجال العلم المتقدمين والواعين لمشكلات المدنية القائمة، يدفعنا الى توضيح أحد أسرار التطور والطبيعة الكبرى.

ماذا يعني التطور: هو ظهر كل باطن من الأشياء والكائنات وفيها في الزمان والمكان المعد والمحدد لظهوره. وطبعاً لا ينفصل الزمان عن المكان لأنهما قياسان من مقاييس الحدث ذاته. والتطور لا ينطلق من العدم، ومن العدم لا يخرج سوى العدم. فهنالك طاقة دفينة في أعماق كل وجود ــ ووجودنا لا ينفصل عن الوجود الكلي ــ تتكثف في مجرى الظهور والتحقق وفي تنزّله.. تماماً كما أن الشجرة الكبيرة، هذه السنديانة مثلاً، كانت منطوية، مغلّفة مستبطنة، أي متصورة بشكل لطيف، في البذرة التي أنبتتها، كذلك كل ما يبدو من واقع التطور فينا وبواسطتنا، يكمن في أعماق أعماق كياننا الفردي والسلالي والورارثي والحياتي العام. ولا يمكن مثلاً لبذرة السنديانة أن ينبت منها الصّرو أو التفاح.

وفي هذا السياق من التبصر تبرز لنا حقيقة التطور: فهو ليس شيئاً يأتي من الخارج أو يزيد فيما نحن عليه أو نستزيد به بل هو ظهور ما حوته الطاقة الحية فينا وما هو مستبطن ومغلّف ومطوي في لطافة البذورة والتصوّر فينا. فلا تطور ممكن بدون انطواء الصور والمظاهر التي يبديها، في أعماق الذات البشرية في أعماق تيار الحياة الزاخر بهذه المكنات والحامل لهويتها اللطيفة منذ فجر انطلاق الكون.

IL N›y a pas d›évolution sans involution

 لا تطور ممكن بدون استبطان لمكنات طاقة. فالتطور عملية نشر لانطواء باطن دفين.

وفي هذا المقام من التطلع، يتخذ القدر، ذاته أو ما يسمونه كذلك، معنى: إنما القدر، إذا شئنا التحديد، هو كل باطن من الأشياء معدّ لأن يظهر. هناك في صميم أغشيتنا كتب القدر الذي نمثل دوره على شاشة الحياة.

ونحن أحرار على قدر ما نتمكن من الاستعلاء فوق مخطط هذا القدر.

وهكذا يكون التطور حدثاً طبيعياً له شرائعه في صميم تبلوره واستبطانه وظهوره. فعلينا أن نعد البيئة الطبيعية التي تتلاءم وتتوافق مع هذا الظهور النجيب، والتي، بطبيعتها، تساعده على النمو والبقاء وتجلي الأفضل.. وإلاّ إذا كنّا سنهمل جانب الطبيعة ونخالف قواعدها وسننها الأصيلة، نكون كمن يمنع ولادة النجيب، أو يجعله مولوداً سفاحاً، ميتاً عند ولادته، أو نكون قد قضينا على أنفسنا بالتوقف والتحجر ثم الانقراض كما حصل لعدد من الفضائل الحيوانية فيما قبل التاريخ.. أو أن التيار الحي سيجد له طريقاً وأداة أخرى سوانا، من خلال الدفق الزاخر بالإمكانات منذ فجر الوجود.

وإذ ذاك تزول هذه السلالة البشرية التي نحن منها وتنطوي، بدورها، كموجة صغيرة ارتفعت الى حين فوق بحر الوجود القائم، لتظهر سلالة بشرية أخرى تستطيع إكمال الطريق الى الكعبة المباركة من حيث توقف بنا الحجيج الجاهل في الطريق المؤدية إليها. ولسنا في الواقع السلالة البشرية الأولى والوحيدة التي ظهرت على وجه الأرض، بل جاءت قبلنا سلالات ثلاث على أقل تقدير، قبل أن تعمر الأرض بإنسان فصيلة الـHomo Sapiens أو الكائن البشري العالم الذي نحن فيه.

ولا يسعني في هذا المجال الصغير، إلا أن ألمح إلى توافق ما ورد في معظم الأديان مع واقع العلم المتقدم الحديث.

ألم يأتِ في القرآن الكريم: (هو الذي يصوركم في الأرحام… وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق).

«وأول ما خلق الله العقل»، أي هذا الجوهر اللطيف الذي به تكون كل شيء على حد تعبير النصرانية والإسلام وديانات الشرق الأقصى على السواء.

أوَلَم يرد في الإنجيل: «في البدء كانت الكلمة وكل بها كوّن وبغيرها لم يكوّن شيء.. به كُوّن العالم والعالم لم يعرفه..»

ومثل النقطة ودائرة البيكار التي تناقلها الخاصة من الصوفيين من كل مذهب ودين، والتي عمرت بها كتب الحكمة القديمة والحديثة، أليست دلالة واضحة على هذا التطور أو الانبثاق الخلاق الذي يظهر دائماً وأبداً من داخل النقطة الأصلية. والدائرة بحد ذاتها خط مستدير كامل جامع لعدد متناه من النقط، ولكنها، من حيث أنها عدد متصل من النقط، مغلفة ومنطوية في الأساس أي في النقطة الأصلية، على حد التعبير الشهير: «فحينئذ برزت نقطة النور العقلية من فسيح مدار القدرة الأزلية) ونقول نحن اليوم من فسيح مدار الطاقة الأولى (مستودعة من السرّ حروف الكون، متضمّن في سرها معنى ما كان وما يكون دفعة واحدة بلا زمان» من كتاب (النقط والدوائر).

أولم يقل أحد أئمة العرفان في وصف عملية الخلق: «إن الحق أي اللطيف تكثّف فصار خلقاً»؟

هذه النقطة الأصلية الجوهرية يعود اليها العلم الحديث اليوم في نظرية شهيرة في علم تكون المجرات والأجرام والأفلاك، تتضمن تصور عملية الانبثاق أو الخلق والعودة، في شكل ذرّة أولى أساسية صغيرة جداً لا قياس لها في تجمّعت فيها طاقات الوجود المعروف L›atome primordial ـ وهو أمر ليس بعجيب، لأن بين الذرات المتناهية في الصغير وبين أجزائها، والتي يتألف الكون المادي من المسافات الشاسعة التي تفصلها نسبياً بما لا يتصوّره عقل، بينها من الفراغ والخواء الغريب مما يجعل مجموع ما في العالم كله من مادة هذه الذرات، لو تقلّص على بعضه وضُغط لكي لا يعود فيه فراغ ملموس، يملأ فقط قمع الخياط. وبهذا تبدو لنا لطاقة ما يتكون منه الكون، الظاهر على غير حقيقته لعيوننا ولمسنا وحواسنا الأخرى، وهل من مجال لنزهة العقول وتسبيح القلوب وسعادة الوجدان أروع وأبهى؟

ومن هذه الذرّة الأساسية الأولى التي تجمعت فيها طاقة جميع الذرات أي طاقة الكون بأسره، انطلق، في ميعاد معين، تمدّد هائل وانفجار في جميع الاتجاهات الى حدود العالم اللامتناهي والمحدود في آن واحد، حيث نرقب حتى الساعة هروب النجوم والمجرات عنا بسرعة تقترب، كلما ابتعدت، من سرعة الضوء ذاته وتتعداه الى أن تزول ربما عن عيوننا محجوبة في إطار اللانهاية، لأنها تعدّت سرعة شعاع النور نفسه. وهل يبصر المرء بدون نور؟

هذا هو تنفس الكون الكبير على حد تعبير الهندوكية في مثال تنشق الهواء، بالنسبة الينا.

ثم بعد انقضاء مجرى الزمان، يتصور العالم أن هذا المد الجرمي الهائل ينقلب الى جزر، وينعكس التمدد الى تقلص، ويحين طرد الفراغ العامر بالخلق من صدر الكون الكبير، حتى يعود كل شيء الى الذرة الأساسية الأصلية  ــ ذرة الذرات ــ وتعود الطاقة، والحياة من ضمنها، تتغلف وتنطوي فيها من جديد، وتكون قد تمت الدورة، أو دورة من دورات هذا الإبداع الذي ليس له بداية ولا نهاية لا في الزمان ولا في المكان وكلاهما من عناصر الكون ذاته.

ويجب أن لا نعجب اليوم إذا كان بعض كبار العلماء، ومنهم روبرت ابونهايمر مثلاً، يتصفحون كتب الأديان القديمة والحديثة وألوان الميثولوجيا، ويستقرئون معالم المعرفة في جميع الاختبارات الصوفية والروحية، ويتعلّمون بعض اللغات الأصلية التي كتبت فيها هذه المعلومات، ليستبصروا القليل أو الكثير مما يواجهه العلم أو يبتدعه من نظريات لتفسير معالم هذا الكون وأحاجيه وأسراره واستقصاء باطن جوهره.

فاختبار الإنسان هو في النهاية واحد: إذ تطلّع بعقله الى الأفلاك الدائرة في سدم اللانهاية، أو تفحص وتقصى انبثاق أجزاء الذرات من الفراغ المليء الأخير ومن الطاقة التي هي وراء هذه الأجزاء، حيث لم يعد هنالك حدود بين المادة والطاقة: فالطاقة تتحول على الدوام الى مادة أي تتكثف فيها، والمادة تستحيل الى طاقة أي تتلطف فيها وتدق وتشف وتزول من حقل الإدراك الحسي للمس والسمع والبصر.

واختبار الإنسان واحد في المقابل إذا توجه، في صميم لطافة ذاته، إلى هذه الكوة المنفتحة في أرفع تجليات العقل وانطوائه على ذاته، وترفّعه إلى مصدره، وبلوغه سدرة العرفان.

فالمعرفة العلمية الأخيرة ومعرفة العرفان هي واحدة، وهي ذاتها في النهاية. ولا ازدواجية في ذلك مطلقاً أو فراق كما يتوهّم المتوهّمون. فالعالم الحديث المتقدم في الاستقصاء وطلبة التفسير هو، كالعارف الصوفي، يتطلب توحيد التفسير ووحدة المفهوم المعبّر لطاقة الكون الشاملة بأسرها للمادة وللحياة.

هذه الانطلاقة الصغيرة التي سنعود الى تفصيلها في غير مجال، كان لا بدّ منها لتأصيل وتثبيت جذور معرفة العقيدة التقدمية الاشتراكية في نفوسنا.

فالتطور هو مجرى الخلق ذاته ومعراجه فينا. وهو مفتاح السرّ لكل ترفع حقيقي ولكل حياة نريدها عزيزة عامرة ومرتبطة بحياة الكون وبمصيره. لقد تحرر الإنسان من ثقل الغريزة وتوجيهها عندما برز من الحيوانية. فعليه اليوم وقد تطورت غريزته الى عقل أن يعيش وفق الأسس التي يفرضها نظام العقل، الذي يوصي بداهة بعدم الابتعاد عن مدار الحياة الطبعية؛ وكل ما هو وراد في ميثاق الحزب يدل الى هذه الغاية ويستدل به الى الطريق. علينا  فقط أن لا نتوقف، لأننا نحمل قسطاً وافراً من تراث الحقيقة:

«على تشابك هذه الاتجاهات الكبرى للتطور التي تعمل وتتفاعل في صميم حياة الكون، فتدفع بالإنسان وبالجماعات وبالعنصر البشري باتجاه تحققه المحتوم وتطورها الكامل، وعلى تركيز هذه الاتجاهات الكبرى للتيار الحي (أي الوعي والحرية والتجمع البشري والتكور الإنساني) وإبراز مفاعليه في وضع استقراري تقدمي، على هذا السعي وهذه المحاولة الجامعة تقوم فكرة الحزب التقدمي الاشتراكي… : نجاح المحاولة والتجربة الجماعية التي توفق، في قالب ووضع تقدمي منجسم، بين المبتكرات والنُّظم الصحيحة في الأوضاع الجماعية أو الكلية المتطرفة والتي تؤمن للمنتج وللمستهلك والعامل طمأنينة العيش وشرف الخدمة وشرف الحياة، وبين الأنظمة الغربية التي تضمن للمواطن الحريات الشخصية الأساسية.. وتقوم إذ ذاك على أنقاض العالم القديم ــ عالم اليوم، وهو في الشرق من مخلفات القرون الوسطى ــ ديموقراطية شعبية جديدة تؤلّف بين شتات الحقيقة وتجمع بين النقيضين أو ما يبدو كذلك: بين النظام والحرية، بين  الأخلاق والقانون، بين الفردية الشخصية والاجتماعية، بين العمل والتأمل، بين المادية والتجريد، بين الشرق والغرب، بين القديم والحديث: ديموقراطية شعبية منظمة تهدف الى بعث وإنماء تراث بشري خيّر متصل وإحياء مدنية عالمية جديدة قوامها اكتمال تطور العنصر البشري وتتميم  معنى الإنسانية في الإنسان».

ونحن في كل ذلك لا ندعوكم الى مأدبة حزن، بل الى نشوة الفرح، الفرح الحقيقي الذي ينجم عن تتميم رسالة الحياة:

«إن هذا الشعور بالفرح وتقبّل الحياة بثقة واطمئنان ناجم عن تقبّل التطور ذاته، وعن انسجام الحزب أفراداً وجماعة في تيار الحياة الزاخر والخلاق، وهو ما يتحقق فعلاً بالحسّ الضمني الداخلي الواعي والمتزايد بأننا في مقدمة الحياة.

«والفرح، كما يقول أحد كبار الفلاسفة، يبشّر دائماً بنجاح الحياة وبأنها تقدّمت وبأنها انتصرت…».

————————————————–

(*)”ألقيت في بتخنيه”

ونشرت في كتاب «ثورة في عالم الإنسان» الصادر عن الدار التقدمية، الطبعة الثانية، آذار 1987، ص 27-50.

(*) هوامش

1ــ ونعني بالاختبارات الروحية الحية، اختبار كبار الصوفيين Mystiques في جميع المعتقدات والأديان فيما تتفتح عليه سليقتهم الأخيرة وطلبتهم المتعمقة المستكشفة.

2ــ حديث شريف

3ــ برغسون Bergson