“مركز بيغن”: تبديل المواقع في”لعبة المحاور” في الشرق الأوسط

ملخص تنفيذي: منطقة الشرق الوسط منقسمة حالياً بين أربعة معسكرات متنافسة هي: إيران وأتباعها وحلفائها؛ الجهاديون السلفيون وعلى رأسهم ما يدعى بـ “الدولة الإسلامية”؛ جماعة الإخوان المسلمين بأشكالها المتعددة ومن ضمنها حركة “حماس” المدعومة من قطر وتركيا أردوغان؛ و”قوى الاستقرار” أي جميع الذين يخشون ويقاومون صعود المعسكرات الثلاث التي سبق ذكرها، مع اعتبار إسرائيل لاعباً مهماً وفاعلاً في المعسكر الأخير.

• وفّرت الأيام القليلة الأولى من العام 2016 دليلاً جديداً على ديناميكية التغيير في ميزان القوى الإقليمي. ويشكل تصاعد التوتر بين المملكة العربية السعودية وإيران المظهر الأبرز في دراما أكبر تتكشف الآن عبر مشهد جغرافي واسع يمتد من اليمن إلى سورية ومن الخليج [العربي] إلى ليبيا.
• إن أداة التحليل التقليدية للمدرسة الواقعية التي تستند إلى مصلحة الدولة (raison d’état) أصبحت إلى حد كبير غير ذات صلة بحكم انهيار الدول في المنطقة. ومن هنا ضرورة رسم خريطة الصراعات الإقليمية- التي أحدثت دماراً هائلاً وسفك دماء وحرماناً ونزوحاً جماعياً وتدخلا أجنبياً – بما ينسجم مع خطوط الصدع الأيديولوجية التي تفصل بين المجموعات الساعية للهيمنة على مستقبل المنطقة.
• من السهل بما فيه الكفاية عندما يقدم السعوديون على إعدام رجل دين شيعي وتثور إيران بغضب مذهبي، تبسيط الغليان الحالي بردّه إلى الانقسام الطائفي القديم بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، أي الانقسام الذي مزق العالم الإسلامي منذ أيام [الإمام] علي بن أبي طالب في القرن السابع الميلادي. ومع ذلك، تستحق المواجهة الحالية تحليلاً معمقاً للفروق الدقيقة، ومنظوراً يتجنب طلي جميع المسلمين أو جميع الشيعة أو السنة بالفرشاة عينها.
• إن الخصومات المستعرة التي تتّسم بهذا القدر من العنف في مختلف أنحاء المنطقة تحمل بصمة حتميات أيديولوجية حديثة، على الرغم من تشابكها مع موضوعات تقليدية. فالطابع السياسي الجذري للنظام الشمولي في القرن العشرين، متداخل في نسيج، أو بالأحرى يجري إظهاره كمواقف دينية أصولية. وهذا التمييز مفيد ليس فقط من أجل فهم أفضل للمشهد الناشئ، ولكن أيضاً من أجل وضع استراتيجيات متماسكة تهدف إلى دحر التحدي الشمولي توصلاً في نهاية المطاف إلى هزيمته.
• وتبعاً لذلك يمكن أن نميز في منطقة الشرق الأوسط بتعريفها الواسع الذي يشمل شمال أفريقيا والمشرق [العربي] وحوض البحر الأحمر والخليج ليس معسكرين طائفيين فقط، بل أربعة معسكرات أيديولوجية.
(وقد نستطيع إضافة معسكر خامس: [أنظمة] اشتراكية قومية علمانية هيمنت سابقاً على مجال السياسة العربية، ومعسكر سادس: الليبراليون الشباب الواعدون الذين لعبوا دوراً بارزاً في إطلاق الانتفاضة السياسية في المقام الأول. لكن هذين المعسكرين هما قوى الماضي، و(ربما) قوى المستقبل، على التوالي. وليسا في موضع تنافس على السلطة في الوقت الحاضر).
• من بين القوى المتنازعة، هناك ثلاثة معسكرات أو مجموعات تنتمي إلى فئة عامة تضم الشموليين الإسلاميين: إيران ووكلاؤها وحلفاؤها؛ الجهاديون السلفيون وعلى رأسهم ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ وجماعة الإخوان المسلمين في تجلياتها المختلفة ومن ضمنها حركة “حماس المدعومة من قطر وتركيا أردوغان.
• المعسكر الرابع، وتعريفه غير واضح، يجمع كل أولئك الذين يخشون ويقاومون صعود المعسكرات الثلاث الأولى. ويسعنا تسمية هذه الجهات الفاعلة “قوى الاستقرار”، واعتبار إسرائيل لاعباً مهماً وفاعلاً ضمن هذا المعسكر.
• وما نشهده حالياً هو تبدّل في ميزان القوى المعقد بين هذه المعسكرات الأربعة. وهي أساساً تتقاتل فيما بينها، مع أنها ترى أنه من الممكن أحياناً أن تتعاون في ما بينها متجاوزة الانقسام الأيديولوجي، ضد ما تعتبره أعداء أشد خطورة.
• إن الحد القاطع لتصاعد المواجهة الإيرانية – السعودية يعكس حقيقة أن المعسكر الإيراني من جهة، وقوى الاستقرار من جهة ثانية، تنظر إلى بعضها بعضاً بصفة أن كل منها يشكّل التحدي الرئيسي للآخر، مع اعتبار ما يسمى “الدولة الإسلامية” وجماعة “الإخوان المسلمين” عدواً من الدرجة الثانية.
• ما الذي حدث؟ بادئ ذي بدء، تراجع معسكر “الإخوان المسلمين” بشكل حاد، مما قلل فرصه وكبح طموحاته. (أملت تركيا أن يصبح حزب العدالة والتنمية النموذج السياسي السائد لموجة “الإخوان المسلمين” الصاعدة). قبضة السيسي على السلطة في مصر تبدو ثابتة على الرغم من مشاكل اقتصادية مستمرة، وهجمات إرهابية متكررة، وشكوك جدية في صدقية الانتخابات التشريعية الأخيرة. وتبدو فرص عودة جماعة الإخوان إلى السلطة، ضئيلة جداً.
• وفي بلد آخر، استعاد حزب “حركة النهضة” التونسي مكانة أكبر حزب في البرلمان عندما انهار ائتلاف الأحزاب الحاكم (“نداء تونس”). لكن حتى الآن، لا يبدو أن لديه رغبة شديدة في الاستيلاء على السطة مرة أخرى.
• ولا تزال حركة “حماس” بعد الضربات الموجعة التي تلقتها في العام 2014، حريصة على تجنب تجربة تحدّ جديد للإرادات [المقصود خوض معركة مع إسرائيل] في قطاع غزة. حزب الإخوان الأردني تعرض للانشقاق. فصائل الإخوان السورية تهمّشت. وعلى امتداد الخليج، سحبت مؤلفات حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي من المكتبات بوصفها هدامة. وتطول القائمة أكثر. وقصارى القول أنه منذ صيف 2013، انحسرت حظوظ جماعة الإخوان، وصار من المشكوك فيه جدوى كونها “حصاناً قوياً” يمكن ركوبه للوصول إلى السطة.
• لكن هذا الكلام لا ينسحب على تنظيم “داعش” الذي تعزز ممارساته الوحشية العلنية هالته الغامضة وتجذب أنواعاً معينة من الشبيبة المتحمسين لفرص حياة من النشاط الخارج عن المعايير الغربية (الإنسانية).
• وعلى الأرض، حقق تنظيم “داعش” مكاسب في أماكن مثل ليبيا، ولا تزال قواته تسيطر على مساحات كبيرة في العراق وسورية، بيد أن زخم التنظيم جرى كبحه.
• قد لا يكون التدخل الروسي في سورية قادراً على تغيير الأمور مثلما يدعي، لكنه زاد بالفعل الدافع الغربي لفعل المزيد، كما حدث بعد رعب باريس. ولكن الحرب ضد تنظيم “داعش” لا تزال قوية بما فيه الكفاية، وينبغي أن تكون مركزة وهادفة أكثر على المستوين العملاني والاستراتيجي، لكنها كافية لضمان تآكل “خلافة” [أبو بكر] البغدادي بحيث لا تستطيع في نهاية المطاف أن تتنافس في أعلى مستوى من مستويات الصراع على السلطة.
• ويبدو أن هذا يضع النظام الإيراني وشبكته الواسعة من الوكلاء والحلفاء والعملاء، في موقع يخوله تحويل سنوات الاضطراب إلى مصلحته. وبسبب تحمل الروس جزءاً من عبء إنقاذ النظام من الانهيار في ما تبقى من سورية، بات المعسكر الإيراني طليقاً في استئناف مسيرة الهيمنة الإقليمية. وهذا كان هو الوضع حتى قبل رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران وقبل بدء تدفق الأموال إلى طهران.
• ولنأخذ في الاعتبار التطورات التالية: تباهى أحد قادة الحرس الثوري الإيراني بأن الحرس يسيطرون بالفعل على أربع عواصم عربية- بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء- وعلى ممرين بحريين دوليين هما مضيق هرمز وباب المندب. ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة المخيفة شبكة من المخربين في الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، الذين كانت أنشطتهم في صلب رد الفعل السعودي العنيف.
• وعلى شاطىء البحر الأبيض المتوسط هناك قبضة إيران المحكمة على لبنان من خلال حزب الله المملوك بالكامل لإيران، وسيطرتها على ما بقي من سورية الأسد، كما تمتلك إيران وكيلاً في قطاع غزة معروفاً باسم “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، فضلاً عن علاقة تعاون مع حركة “حماس” (برغم انتمائها لمعسكر “الإخوان المسلمين”).
• أما إدارة [الرئيس الأميركي باراك] أوباما التي تعتبر الاتفاق النووي إرثاً استراتيجياً رئيسياً، فهي تدعم شفهياً (بالكاد) ضرورة مواجهة طموحات إيران الإقليمية. وبما أن التركيز الدولي يتحول باتجاه محاربة تنظيم “داعش”، فليس من المستغرب أن يتكوّن انطباع لدى السعوديين وآخرين في المنطقة بأن أوباما وقادة غربيين آخرين مستعدون لرؤية إيران كجزء من الحل وليس كجزء رئيسي من المشكلة. فبعد كل شيء، لعبت ميليشيات شيعية متدربة على يد الإيرانيين دوراً ملحوظاً في المعركة ضد التنظيم في العراق، وأبدت طهران استعداداً لعزف أنغام واشنطن في كل ما يتعلق بمحاربة “إرهابيين”.
• ولعل [هذا العامل] أكثر من أي عامل آخر، أي الشعور بأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد [القوة العظمى] التي يمكن الاعتماد عليها لدعم قوى الاستقرار في المنطقة، هو الذي يشمل القوة الدافعة للديناميكية الجديدة في “لعبة المعسكرات”.
• لقد أنشأت المملكة العربية السعودية بالفعل تحالفاً واسعاً يضم قوى سنية ملتزمة محاربة الإرهاب. وهي تقود حرب تحالف مستمرة ووحشية غالباً، ضد انتفاضة الحوثيين في اليمن (التي تمثل في نظر الرياض خنجراً شيعياً يستهدف مكانين مقدسين: مكة والمدينة في الحجاز، المنطقة الغربية من العربية السعودية ومهد الإسلام).
• وقد استُخدمت حوافز (وضغوط) بما فيه الكفاية للتأثير على نظام البشير في السودان وحمله في النهاية على اتخاذ قرار دراماتيكي بالانشقاق عن المعسكر الإيراني والانضمام إلى صفوف التحالف السعودي في اليمن. وقطع السودانيون أسوة بدول عربية أخرى، علاقاتهم برعاتهم السابقين في طهران.
• والأهم من ذلك، أبدت تركيا عقب تصاعد الاحتكاك مع روسيا بسبب سورية واضطرارها لمراجعة أولوياتها من جراء النتائج الضعيفة لسياساتها السابقة، اهتماماً بعلاقة أوثق مع السعوديين ومعسكرهم. وفي هذا السياق، فإن طرح أنقرة علناً اقتراح تحسين العلاقات مع إسرائيل، أمر لافت للاهتمام.
• لقد أصبح هذا الواقع الجديد جلياً إلى حد إجبار كل من تركيا وقطر على تدعيم تعاونهما الثنائي الذي يشمل خططاً غير مسبوقة لتمركز قوات تركية في قطر، ولحملهما على إعادة النظر بأولوياتهما في اللعبة الإقليمية.
• من السابق لأوانه وليس من الحكمة في هذه المرحلة توقع بروز معسكر استقرار متماسك وقوي يعمل بتعاون وثيق. فهناك تباين في موقف السعوديين ومصر من المسألة السورية. والعلاقة الإسرائيلية مع سلطة عباس في رام الله على الرغم من النظرة المشتركة لتحديات إقليمية أوسع، شهدت انتكاسة خطيرة في الأشهر الأخيرة بعد أن تعلّق الفلسطينيون بموجة إرهاب كأداة سياسية. كما أن تحول تركيا لم ينضج بعد، ونيات أردوغان (والتزامه المتواصل تجاه حركة “حماس”) لا تزال تثير شكوكاً في القدس والقاهرة.
• لكن نظراً لإمكانية صعود القوة الإيرانية، فإن تحالفات بدت بعيدة الوقوع، قد تصبح حجارة لبناء واقع جديد. وهذا ما جرى بالفعل في شرق البحر الأبيض المتوسط حيث تتلاحم الآن مصالح كل من مصر والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص، فضلاً عن إيطاليا وقوى أوروبية أخرى بدأت تدرك خطورة الوضع الحالي.

——————————

(*) مؤسسة الدراسات الفلسطينية