شريف فياض في “نار فوق روابي الجبل”: وردة الدم

د. قصي الحسين

اصدار شريف فياض: نار فوق روابي الجبل( **)، يأتي في البرهة الأشد سخونة في التاريخ الحديث والمعاصر في المنطقة العربية: 1- لبنان بلا رئيس جمهورية لليل طال ويطول. 2- الجوار الاقليمي: سورية وفلسطين والعراق إلى مزيد من التفكك والتفتيت والشرذمة والتفجر. 3- العالم العربي أبله مصدوم. 4- العالمان الغربي والشرقي يمارسان هواية الألعاب النارية فوق الأشلاء الممزقة والركام والآلام.

ولأن جميع الناس اليوم يتحرون خيوط الدم السائل في الأماكن والأوطان، ويحفرون في الذاكرة كثيراً للوصول إلى الجريمة الأصلية التي لا زالت تستنسخ بطبعات عديدة، سيئة ومشوهة ومموهة، فإن شريف فياض دأب مثلهم يحفر في السجلات كأركيولوجي عريق، حتى بدا على قاب قوسين أو أدنى من نبعة الدم.

يقول الكاتب في مقدمة كتابه: “تبين لي سريعاً أن المهمة صعبة في ظل غياب المستندات. وأن الركون إلى الذاكرة وحدها لا يكفي لتقديم مادة تروي ظمأ القارئ، ولاسيما في الجبل حيث اعتاد المواطن أن يقرأ ما يكتب عنه دون أن يشارك في عرض وجهة نظره فيما دار من أحداث استهدفته وأثرت في حاضره ومستقبله” (ص 9)

ثمة حفر منه في السجلات وثمة حفر منا في الذاكرة في الأجزاء السبعة: 1- “الجبل في عين العاصفة”، 2- “الصمود واستعادة المبادرة”، 3- “حرب الجبل”، 4- “إدارة الصمود”، 5- “جبل لا ينام على ضيم”، 6- “دمشق تثأر وبيروت تدفع الفدية”، 7- “حكم الرئاسة طار في طوافة الغازيل”. إذ جعل الكاتب من القارئ شريكاً له في الكتابة والقراءة معاً على حد سواء، لأمرين اثنين:1- سهولة الأسلوب في المباشرة وتقريب الأحداث. 2- التشويق السينمائي في التعقب والمتابعة حتى خيط الدهشة في “برهة ديوجين” الصادقة.

لعل هذه الأجزاء السبعة من كتاب: “نار فوق روابي الجبل” إنما هي تسجيلات حرفية وواقعية لبدن جبل بل وطن وشمته الحروب المستعرة بنارها، حتى دخلت الكتابة عنه نظريات الإبداع الثوري تحديداً، والإبداع الحزبي والشخصي بشكل عام.

فمقاصد شريف فياض من تسجيلاته هذه، إنما هي محاولة منه لرصد جوهر التفكير اللبناني والعربي والغربي، حول مفهوم الحرب والثورة وتحولاته المستمرة، سواء كان هذا المفهوم قد جرى عليه الزمن، أو هو لا يزال جارياً في الزمن. ولهذا نرى فصول هذه الدراسة الأركيولوجية للحرب الأهلية اللبنانية، تحفر بشكل جديد اليوم، مجرى واسعاً للتغيرات التي طرأت على الذهن اللبناني والعربي من جهة، والذهن العالمي من جهة أخرى. يقول: “أنا لست مؤرخاً ولكنني عايشت أحداثاً جساماً، كنت فاعلاً فيها ومؤثراً في مجرياتها، فقررت أن أنقل إلى القراء تجربتي ومشاهداتي”. كما يقول في مكان آخر: “أنا لست حيادياً في ما كتبت. أنا حامل قضية انخرطت فيها وقاتلت من أجلها حوالي نصف قرن. التقت قناعتي مع فكر كمال جنبلاط بالتمسك بهوية لبنان العربية وباعتبار مرتكزات النظام السياسي هي الحرية والديمقراطية والمساواة. كما التقت مع قناعته بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه” (ص 9)

وتمثيل هذه الفصول المتوالية، بل هذه الدراسات والقراءات التسجيلية للحرب الأهلية اللبنانية في الجبل، إحدى ثمرات الاجتهاد والتأمل والتأويل والتنظير الذي لا يكف عنه المثقف الثوري في محاولاته لاختراق ثقافة الآخر وثورته وحربه من جهة الإمعان في قراءة تحولات الفكر والسياسة ومناقشة ذيول الثورات والحروب ونهاية الايديولوجيات، لأجل صناعة الأفكار الجديدة والثقافة الثورية الجديدة الملائمة للألفية الثالثة والعصر الجديد، لا بمنطق بعثها من الرماد أو التاريخ، ولكن بمنطق قراءتها الحرة وبمنطق تأويلاتها المستمرة، المشكلة للعقل اللبناني والعربي الجديد. حيث يعادصياغة التعبير الموازي للفكر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحديث في لبنان اليوم. إذ المناقشة النقدية الذاتوية التي يجريها الكاتب من خلال عمليات الانتقاء السردي والوصفي وتدوينها، إنما يجعلها تتم بكل “طواعية قبلية” من خلال الفرد الذي هو “أنا الكاتب”، داخل المجموع الذي هو “نحن”. يقول الكاتب:”لقد شهدت في هذه الحرب مآسي مثيرة منها الخطف والتصفية، ومنها الدمار والتهجير والهجرة الطوعية، الأمر الذي سبب خللاً في تركيبة المجتمع وتوازنه ولاسيما في البيئة القروية التي تقوم على حسن الجوار وتبادل المصالح والعلاقات الاجتماعية التي تتخطى العائلية والمذهبية (ص 10)

يتصدى شريف فياض في مباحثه السبعة التي كون منها كتابه “نار فوق روابي الجبل” لفحص شروط الثورة في الحرب الأهلية، (لبنان نموذجاً)، ويقدم عرضاً تفصيلياً لتقاليد الحرب والثورة، الدبلوماسية واللوجستية، وللأعراف والعمليات والسنن التي تمكنه من فهم سياقاتها المؤلمة والموجعة والجائرة، واستيعابها كدرس لا ينسى وكذاكرة حرب لا تمحى. كذلك يتطرق إلى الأسس التي يجب أن تقوم عليها عملية القراءة للأكتوب وللأفهوم. تلك الأسس التي تستوجب عادة من الشراكة الفعلية القائمة في الكتابة والقراءة، إعادة النظر بالعمليات التأويلية للمسرودات الحربية والعسكرية والثورية، التي ينهض عليها التغيير أو التطوير الوطني.

يقول شريف فياض: “حاول سمير جعجع من خلال تلك المجزرة، أن يفرض هيبته على الدروز من أبناء الشوف، ويعرض قوته على البطش بأخصامه، وفاته أنه اشترى حقداً أو عداء ورسم خطوط تماس ما كان لها أن ترسم لولا سياسته الخاطئة ومحاولته السيطرة بالقوة على الجبل ليترجم الشعار الذي رفعه الشيخ بيار الجميل وقال فيه: “لتكن الحرب ولينتصر الأقوى”. فكانت الحرب وانتصر الجبل (ص 130)

فقارئ المتابعات والمتواليات والمدونات لفصول وأحداث حرب الجبل يكتسب عبر اتصاله بكتاب شريف فياض: “فوق روابي الجبل”، قدرة أو كفاءة، تضمّ شتى الأعراف والمواصفات الثورية والنفسية والبطولية والجبلية والشبابية والطائفية، لتجعل منه ناقداً ثورياً متمكناً من النظر في المتتاليات الجبهوية بوصفها درباً صالحة لحرب جديدة، أو لسلام منشود، أو لأي شكل من أشكال المناضلات تحت قباب السياسة أو تحت خوذات الجبهات ومعسكراتها المزيفة سلفاً والمروّج لها طبلاً والمنفوخ فيها بوقاً، لأجل تتبع شتى عناصرها وتجلياتها.

كتاب المقدم فياض

إن فهم جملة حربية عن شريف فياض، إنما يعني فهم لغة الحرب اللبنانية. وإن فهم لغة الحرب اللبنانية، يعني بكل تأكيد استيعاب الدرس القاسي منها. فإذا ما استمع القارئ إلى متتالية عسكرية أو سياسية أو مخابراتية، فسوف يتمكن حتماً من إعطائها معنى أو تأويلاً. فهو يستدعي إلى فعل الاتصال قراءة وتأملاً وتألماً وانشداهاً، ذلك المخزون الهائل من ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية المؤلمة، الواعية واللاواعية على حد سواء. ولسوف يمكنه استيعابه للأكتوبات الحربية وللأفهومات الشعبية عينها، من تحويل الأحداث الأليمة والمجازر البغيضة في ليل الجريمة، إلى وحدات منفصلة، حتى ليتسنى له قراءة المخبوء الذي تتستر عليه الأسطر والكلمات، وتحديد وصف فتنوي طائفي تفتيتي، وتأويل الوطن الصلد إلى كيان هش. نستمع إليه يقول: “بدأت القوات اللبنانية تخلي المدنيين من القرى المسيحية في إقليم الخروب بالنـزوح فور أن تيقنت أن الحشد العسكري الذي يشاهدونه حولهم لا بد أن ينتج عنه اقتحام صبيحة اليوم التالي” (ص 313).

لسوف يقع أي قارئ في حيرة تامة حين يفتقر إلى المعرفة بإحداثيات حرب الجبل، أو تعوزه الدراية بفصولها ومتتالياتها، أو أنه غير مطلع على الأعراف التي تقرأ بها الإحداثيات الحربية بطوابعها القتالية وصيغها الطائفية وتعنيفاتها المناطقية. غير أن متتاليات كتاب شريف فياض ورواياته الصارخة العارية لأحداث حرب الجبل، سوف تمكنه من فهم التأويل اليومي الراهن أقله لبنانياً، لمعرفة ما يتوجب عليه عمله فعلياً بهذه السلسلة الغربية من الأخبار والمدونات ذات الطابع العسكري أو الحربي. وأن شخصاً كهذا لم يتوفر له تمثل الحرب العارية، سوف يكون عاجزاً من تحويل الأحفور الحربي إلى بنى ومعان مستقبلية.

لعل علة الفهم في حالة “حرب الجبل”، إنما تعتمد بشكل أكثر وضوحاً على استيعاب نظامها. والوقت والجهد اللذان كانت تكرسهما الأطراف والأحزاب والأحلاف المتنازعة في لبنان للتدريب الحربي وللإدارة والتنظيم المتصلين بها، لما يظهر لنا أن فهم حرب الجبل بظلالها الأهلية، إنما يعتمد بالمقابل على الخبرة والاستيعاب من الفوهات الصماء. والعرض الموضوعاتي الذي يخلص إليه شريف فياض في كثير من مناحي كتابه يمثل بلا شك اندفاعة جدلية بين الأسباب والنتائج، بحيث تبدو لنا أكثر من بارعة، خصوصاً حين يقول: “إن وحدة القرار والموقف عند الدروز وفي الجبل، كانت هاجساً حاول الطرفان (الاسرائيلي والقواتي) التصدي لكسره والنفاذ من خلال تغذية التناقض بين القيادات التاريخية إلى إضعاف الجبهة الداخلية والتهيئة للسيطرة على الجبل” (ص 140)

إن “حرب الجبل” عند شريف فياض، شأنها في ذلك شأن غيرها من الأنشطة العسكرية والديبلوماسية والاستخباراتية والإداراتية التي كان يقوم بها الأطراف المهاجمون والمدافعون، وقد كانت برأيه تتأسس عدا استثناءات قليلة على أعراف وتقاليد غير مدركة. ومن الممكن النظر إليها كمعرفة مضمرة. إذ كثيراً ما اصطدم بها الأطراف كما الكاتب نفسه. ولذلك نرى فياض يحاول تقويض أعرافه، لكنه يظل برغم ذلك الإطار الحزبي التقدمي الذي يمارس نشاطه ضمنه أكثر وعياً للحرب لأنه يريد أن يتحقق خلف وعد الكتابة ووردة الدم: ضمن إطار مؤسسة الوعود التقدمية. وإذا كان شريف فياض لم يتمكن ببساطة من تخصيص معنى من خلال وردة الدم التي يرى إليها وهي تتبرعم بعدما وضعت الحرب أوزارها وبعدما وضع هو نفسه كتابه عنها فإنما وجد أنه يتوجب عليه بالأحرى من مسألة إنتاج معنى لنفسه ولنا، أمراً بل وعداً ممكناً، لإيمانه المسبق بالشراكة التاريخية القائمة بين القارئ والكاتب.

——————————

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

(**) شريف فياض: نار فوق روابي الجبل. الدار التقدمية، المختارة – الشوف – لبنان، ط1، 2015 (290 ص تقريباً)

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث