من عام الدم إلى عام الأمل؟

عرفان نظام الدين (الحياة)

«تفاءلوا بالخير تجدوه». هذا هو الشعار الذي يمكن أن ننادي به هذه الأيام في ساعات الانتقال من عام رهيب غرق فيه العرب في بحر من الدماء وعاشوا أياماً عصيبة امتدت إلى كل مفاصل حياتهم.

ولا يعني الشعار أبداً أن التفاؤل مضمون خلال العام المقبل. لكن الأمل كبير بأن تفرض الضرورات قراراتها على المحظورات لدى أطراف اللعبة القذرة والقوى المشاركة في الحروب العبثية التي دمرت الأوطان وشرَّدت الملايين وقتلت مئات الآلاف.

فقد حمل العام 2015 الكثير من الآلام وفتح الجروح التي أسالت شلالات الدم المسكوب على الأرض العربية، بلا أفق ولا صحوة ضمير للنهوض وتصدي للواقع المؤسف، بينما يصرخ الأبرياء بصوت واحد: نريد السلام والحوار والمحبة والتعايش، وكفى إجراماً، كفى تدميراً، وكفى تمادياً في الغيِّ والعناد والمكابرة والإنكار.

هنا قد يقول قائل إن الوضع وصل إلى مرحلة اللاعودة: «فالج لا تعالج»، على أساس أن الأمل مفقود بعد أن دخلت الدول الأجنبية والإقليمية في أتون الحروب، وأصبحت شريكة علنية فيها. وفي الوقت ذاته، أصبح الإرهاب لاعباً أساسياً في اللعبة المشبوهة، ويسيطر على أجزاء واسعة من الدول العربية.

هذه النظرة فيها كثير من الواقعية لأن العام المنصرم كان حاشداً بالحوادث والمفاجآت والتصعيد، وكأن المنطقة كانت تعيش على مقربة من يوم القيامة: فوضى ودمار، قتال وتشريد، حروب متواصلة لا تعرف هدنة ولا استراحة لمحارب، وأخطار ممتدة يصل مداها إلى الدول القريبة والبعيدة.

كما امتدت الانعكاسات والأخطار إلى تونس وليبيا ودول الخليج. وشهدت دول أجنبية عمليات إرهابية، مثل فرنسا وبريطانيا ومالي والولايات المتحدة وأستراليا وروسيا التي فجر لها «داعش» طائرة ركاب مدنية فوق سيناء بعد بدء عملياتها الحربية في سورية، ثم فقدت طائرة «سوخوي» أسقطتها مقاتلات تركية، ما أدى إلى نشوب أزمة خطيرة بين البلدين.

إلا أن هذه التطورات المتسارعة تحمل في طياتها سبباً من أسباب التفاؤل بإمكان مسارعة الدول الكبرى وأطراف النزاعات إلى البحث عن تسويات تمنع تفاقمها ووصولها إلى حافة الحرب العالمية، بعدما كانت في السنوات السود تصب الزيت على النار.

هناك كثير من الدلائل والأحاديث عن بدء مرحلة التسويات وإطفاء نيران الحروب لترتيب الأوضاع مجدداً، حتى لو تطلب الأمر إعادة رسم حدود «سايكس- بيكو» وتغيير موازين القوى، وإن وصلت الصفقات إلى التقسيم والتفتيت، الأمر الذي يُرضي إسرائيل.

وقد أثبتت الحوادث أن موجة التفجيرات والهواجس الأمنية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، لأن القدرة على الاحتمال اقتصادياً وأمنياً محدودة بأجل زمني وبإمكانات لا يمكن تجاوزها، إضافة إلى أعباء نزوح مئات الآلاف من اللاجئين إلى مختلف الدول.

أما بالنسبة إلى روسيا، فإن جهودها الحالية لفرض تسوية سياسية في سورية تنطلق من اعتبارات عدة، أهمها عدم الغرق في المستنقع السوري وتكرار تجربة أفغانستان المريرة التي أسقطت الاتحاد السوفياتي. فالكرملين يدرك أنه لن يستطيع حسم الوضع العسكري بعد ثلاثة أشهر من حشد القوات الروسية وتنفيذ آلاف الطلعات الجوية.

أما الولايات المتحدة فتعيش بدورها حال ضياع وعدم قدرة على التحليل السليم والتحرك في الوقت المناسب لاستعادة هيبتها المفقودة وسمعتها التي تحولت مجالاً للسخرية وانتقاداً من القريب والبعيد بسب فشلها في معالجة كل الملفات الساخنة، مثل فلسطين بعد الانحناء أمام تحديات بنيامين نتانياهو.

يضاف إلى ذلك، النجاح في إزالة صاعق من صواعق التفجير في المنطقة يتمثل في حل الملف النووي الإيراني ورفع الحصار والسماح لإيران بلعب دور إقليمي من دون ضمانات بالتخلي عن التصلب والتدخل في كثير من الحروب والصراعات الإقليمية.

ونظرة سريعة إلى حوادث 2015 توضح كثيراً من المؤشرات والدلائل على دوافع التفاؤل بالانتقال من عالم الدم والألم إلى عام التفاؤل والأمل، والذي بدأت ملامحه تتضح في الأشهر الأخيرة.

ففي سورية مثلاً، يكثر الحديث هذه الأيام عن حلول وتسويات أكثر من الحروب، وعن السباق بين الحسم العسكري بسرعة قبل إتمام الصفقة الأميركية- الروسية وتحديد الأطراف التي يحتمل أن تشارك في الحل بعد لقاءات فيينا ومؤتمر الرياض للمعارضة. فعملية الفرز جارية على قدم وساق، والضربات الروسية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إضافة إلى عوامل كثيرة مالية واقتصادية.

والأمل كل الأمل أن يبدأ الحوار الجدي في بداية العام الجديد لإيجاد حل يوقف الحرب ويحقن الدماء وينقذ ما يمكن إنقاذه من هذا البلد العربي الأصيل وشعبه الأبي الذي أثبت وجوده عبر التاريخ في أحلك الظروف.

أما في لبنان، فلا يختلف الأمر بسبب الارتباط العضوي والجغرافي والسياسي بين البلدين، ما يدفع إلى التفاؤل بانتهاء مآسي العام 2015 وويلاته، بعدما وصلت الأمور إلى حافة الانهيار واليأس والخوف من أخطار الفتن الطائفية والمذهبية: مئات الآلاف من اللاجئين السوريين يزيدون من الأعباء والأخطار. شلل حكومي وفراغ رئاسي استمر سنة ونصف السنة مع نافذة أمل فتحت بترشيح النائب اللبناني سليمان فرنجية مخرجاً للحل، بوصفه أحد الأقوياء الموارنة الأربعة. ضياع وعدم قدرة على اتخاذ أي قرار جراء الإمعان في شل الحكومة وعرقلة أعمال رئيسها تمام سلام ومساعيه لإنقاذ البلاد. وجاءت أزمة النفايات المخزية، لتكشف العورات وتكرس الشلل. فلتان أمني وحراك شعبي كاد يفجر الأوضاع، وتفجيرات أودت بحياة العشرات من الأبرياء، وجدل بيزنطي يدفع ثمنه ما بقي من صمود لبنان وصبر شعبه العجيب.

وهنا أيضاً، تحمل المؤشرات ملامح حلول وتسويات لابد من تفعيلها في العام 2016 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستغلال الضمانات الدولية لتجنب الوقوع في مأزق الحرب المدمرة.

وفي العراق، هناك بدايات تحول في السياسة العامة بعد سنوات من الضياع والصراعات والفساد والفتن. وينتظر الجميع قيام مبادرات لتوحيد الصف ومحاربة «داعش» الذي يحتل ثلث مساحة البلاد. كما نشهد سباقاً بين إرادة الإنقاذ ومؤامرة التقسيم وإشعال نار الفتنة السنية- الشيعية، فيما يحتدم التنافس المحموم على الهيمنة بين الولايات المتحدة وإيران. ويسعى بعض القوى الوطنية العراقية، على رأسها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، إلى الحد من نفوذ إيران، من دون أن نغفل العاملين التركي والكردي.

وفي ليبيا، تستمر الحرب بين الجيش الوطني والتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها «داعش»، لتحصد الأرواح وتحرق الأخضر واليابس وسط محاولات دولية للتوصل إلى تسوية تحفظ وحدة البلاد المهددة بالتقسيم بسبب الفتن القبلية والمناطقية، وتقضي على خطر الإرهاب المتمدد إلى مناطق عدة. ورغم إجهاض كل المحاولات في العام 2015، فإن بارقة أمل تلوح في الأفق بتحقق السلام خلال العام الجديد.

أما في تونس، فإن القلق ازداد على التجربة الفريدة المولودة من رحم «ثورة الياسمين» التي أطلقت ثورات الربيع العربي، بعد تفاقم الخلافات بين أركان النظام الديموقراطي، وخصوصاً حزب «نداء تونس» الحاكم، وتجدد العمليات الإرهابية التي ضربت الشريان الحيوي للاقتصاد، وهو السياحة. وما زالت الآمال قائمة بأن يتعلم الحكام من تجربة الآخرين، حتى لا تغرق البلاد في أتون الفوضى والعنف والتطرف. ومع هذا، فإنه يمكن التمسك بخيط الأمل، وهو قدرة الشعب التونسي على الصمود ورفض التطرّف، من خلال منظماته الأهلية ونقاباته، إضافة إلى المظلة الدولية التي تعمل على ضمان الاستقرار ومنع الانفلات الذي يهدد أوروبا، مثله مثل الخطر الليبي القائم على مرمى حجر من دولها.

أما مصر، فقد عانت بدورها من آلام 2015، وشهدت شلالات من الدماء البريئة التي سفكت بيد الإرهابيين وضربت الاقتصاد وعصبه السياحي المهم. ورغم ذلك كله، جرى تثبيت الحكم الديموقراطي وفق خريطة الطريق التي رسمها الرئيس عبدالفتاح السيسي وتنفيذ مشاريع اقتصادية مهمة، ما يفتح نافذة للأمل بتجاوز المحن وقطع دابر الإرهاب والانطلاق لتحقيق الاستقرار وإنجاز مصالحة وطنية واتخاذ خطوات باتجاهها تبدأ بالعفو عند المقدرة.

يبقى اليمن ووضعه التعيس، فقد كان العام المنصرم دامياً ومدمراً من جراء الحرب المعقدة وطبيعة اليمن وتعدد أطراف الصراع إقليمياً وعربياً، وإصرار إيران على إبقاء النيران مشتعلة بدعم الحوثيين مهما كانت النتائج. ورغم ذلك، هناك مؤشرات كثيرة تبشر بزوال المحنة بوساطة الأمم المتحدة لتحقيق اتفاق سلام يبدأ بوقف إطلاق النار ليكون العام 2016 عام السلام والتسوية لأسباب عدة، بينها قرب الحسم العسكري من جانب قوات التحالف العربي.

ورغم جرعات الأمل مع الانتقال إلى العام 2016، فإن من المنطقي القول إن أي تنبؤ بما يمكن أن يجري بعد دقيقة أو يوم أو سنة يبقى ناقصاً في منطقتنا المنكوبة ومفاجآتها المرعبة وعالم اللامعقول الذي نعيشه. فكل ما جرى ويجري من قبل كان خارج تغطية التحليلات والنبوءات. لكن علينا أن نردد مقولة «اشتدي أزمة تنفرجي»، ليس من منطلق الشعارات والعواطف، بل من منطق المؤشرات وتسارع الحوادث أولاً ومن القناعة بأن استمرار هذا الجنون سيؤدي إلى دمار شامل وحروب مدمرة قد تصل إلى حد نشوب حرب عالمية تؤدي إلى كارثة كونية، خصوصاً بعدما لوَّح بوتين بالأسلحة النووية. فأي كلمة قد تشعل الحرب، وأي خطوة غير مسؤولة أو مدروسة ستفتح أبواب جهنم. فلنتفاءل بالخير لعلنا نجده، ونحن نضع أيدينا على قلوبنا ونتمنى القول للجميع: كل عام وأنتم بخير وسلام وأمن وأمان.