الإنماء الاقتصادي في لبنان/ بقلم كمال جنبلاط

ننشر فيما يلي النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي المعلم الشهيد كمال جنبلاط في نادي خريجي المقاصد الاسلامية في بيروت، مساء الخميس 19 آذار 1964، وكانت بموضوع: «الإنماء الاقتصادي في لبنان».

سيداتي وسادتي،

أرجو المعذرة اذا لم يتوفر لنا الوقت الكافي لمعالجة هذا الموضوع المهم من جميع نواحيه، وذلك لسببين:

الأول: لأنه موضوع أطروحة لا موضوع محاضرة في المعنى الصحيح للكلمة.

ثانياً: لأن الظروف الانتخابية التي رافقتنا منذ حل المجلس النيابي وابتداء مرحلة الانتخابات العامة منعتنا من تكريس جهدنا لمعالجة هذا الموضوع كما يتوجب.

انما هذه المحاولة المتواضعة كشف سريع مقتضب لواقع، وتخطيط لبعض الاتجاهات الكبرى الضرورية لأجل تحقيق إنماء في قصده الأصيل..

ويجب التوضيح ان مفهوم التصميم والتخطيط هو جديد في البلاد، وخاصة في لغة الرسميين وارباب الدواوين، ولو كانت العبارتين قد ترددتا مراراً وتكراراً على ألسنة بعض حكومات العهود السابقة لأجل التمويه والخداع. لأن كل محاولة إصلاحية في لبنان تبدأ هكذا في حكم ضغط كبار ارباب التجارة والمال الذين يتبنون مبدأ حرية الاقتصاد على إطلاقه مضامينه الاحتكارية، ويأبون كل ما من شأنه إحلال التوجيه ـ ولو أخفه ــ واستنساب بعض الوان التدخل ـ ولو أقلّه ـ، فيوهمون الناس بواسطة الحكومات التي هي معظم  الأحيان امتداداً وشعاراً لمصالحهم بأن الدولة تعتمد التخطيط والتصميم في مناهجها العامة، وهي تكون لا تعتمد من التصميم والتخطيط سوى الاسم. ولذا ظلت وزارة التصميم إسماً لغير مسمى حتى سنة 1961 وصدف أن تسلمنا مقاليدها آنذاك، فاستأجرنا لها بناية خاصة ووضعنا قانون تنظيمها  وأرسينا قواعد عملها، وكانت مختلف المشاريع الخماسية في العهد الاستقلالي الأول وفي العهد الثاني مجرد موازنات غير عادية لسنة واحدة، وضعها النواب والوزراء معظم الأحيان وفق أهوائهم ومصالحهم الانتخابية.

وفي الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1962، أعلن رئيس الجمهورية في رسالته الى الشعب اللبناني بمناسبة عيد الاستقلال:

«لقد وعى اللبنانيون مدى الحاجة الى عمل اساسي لاصلاح مقومات الحياة العامة. ومنذ تسعة عشر عاماً حقق الشعب اللبناني يوماً فيوماً استقلال الدولة. وها هو ذا اليوم يحقق دولة الاستقلال. ومنذ ولادة الاستقلال والمواطن اللبناني يتألم لكي يرى قواعد دولة حديثة ترسو في أرضه.

«بقدر ما تشعرون في الوقت الحاضر بأن حاجاتكم الأساسية المفروض في الدولة تأمينها، تسير اليكم كحقوق لا كهبات، لا يمليها تمييز ولا تشوبها تفريق، يحق لكم أن تطمئنوا الى ان طلائع الجهد المبذول لن تمنعها عقبة عن التقدم والتوسع حتى تعم الوطن في مختلف مناطقه والشعب في مختلف فئاته».

«إن العمل الإنمائي الذي يجري في الميادين الاقتصادية والاجتماعية يتعدى في غاياته رفع مستوى العيش، وتحقيق العدالة الاجتماعية، الى صهر اللبنانيين في مجتمع واحد، تقوم وحدته الوطنية على إيمان كل فرد من المواطنين بالإنتماء الكامل الى شعب واحد والولاء الخالص لوطن واحد».

«وبالروح الجديد، روح الحرص على تنظيم العلاقات الاجتماعية على قواعد حديثة تسعى الدولة لحل المشكلات الاجتماعية على شكل يمكن من تعزيز الاعتقاد بأن بلداً يريد أن يصبح عصرياً وأن ينمي حياته الاقتصادية والاجتماعية يستطيع أن يحقق ذلك في ظل الديمقراطية».

وتتوجب علينا بعض الملاحظات على بعض ما ورد في هذه الرسالة التاريخية:

أولاً: «إن الشعب اللبناني لم يحقق بعد استقلال الدولة»، ولا يمكن ان يتم ذلك، الا عندما تزول سيطرة كبار الرأسماليين والاحتكارات على الحكم وعلى الإدارة وعلى المجلس النيابي وعلى وسائل الإنتاج ومؤسسات التبادل والاستهلاك.

ثانياً: ان دولة الاستقلال المزمع انشاؤها قد وضعت لها بعض القواعد الرئيسية والمخططات التشريعية، وسارت شوطاً بعيداً في حقل التكوين القانوني، ولكن دولة الاستقلال هذه لا يزال يعوزها الرجال الأكفاء والمجردين في حقل الحكم وخاصة في حقل الإدارة ولا فعالية للجسم بدون روح صحيح متوثب مدرك لواجباته ومسؤولياته ازاء الشعب والوطن. وهذه هي إحدى مآسي الإصلاح.

ثالثاً: «ان حاجات المواطن الأساسية المفروض في الدولة تأمينها لن «تسير الى المواطن كحقوق لا كهبات» الا اذا نصب ميزان العدل، وقضي على استغلال النفوذ وعلى سوء التصرف وعلى رشوة الضمير بتنفيذ قاعدة الثواب والعقاب. فاذا كانت الجنة التي وعد الموحدون الأبرار بها لا تستقيم الا بالثواب والعقاب، فكيف تستقيم دولة الدنيا. وعبثاً يحاول المصلحون.

رابعاً: تقول الرسالة: «ان العمل الانمائي الذي يجري في الميادين الاقتصادية والاجتماعية يتعدى في غاياته رفع مستوى العيش، وتحقيق العدالة الاجتماعية، الى صهر اللبنانيين في مجتمع واحد، تقوم وحدته الوطنية على إيمان كل فرد من المواطنين بالانتماء الكامل الى شعب واحد». وهذا صحيح، وواقعي أو وعملي جداً.. ولكن بقي أن نجهز وزارة التصميم بالرجل الكفوء القادر على توجيه وضع البرامج ومناقشة المخططات والنظر في موازنات الانشاء لمختلف وزارات الدولة وكبريات بلدياتها، لا أن تكون هذه الوزارة، معظم الأحيان، ملجأ لمن تعسر تقليده وزارة حساسة كبرى في المعنى التقليدي للكلمة.

وأخيراً يجدر تمكين وزارة التصميم بأن يكون لها ممثلون لدى المحافظين والقائمقامين والمدراء العامين، يتولون معهم التوجيه العام ومراقبة مختلف النشاطات ورفع اقتراح الموازنات وبرامج الانشاء ووضعها وتطويرها وفق المبادىء العامة التي تتبناها الدولة، وان لا تقدم موازنة انشاء من أية وزارة أو بلدية كبرى قبل أن يناقشها مجلس التصميم التعديلات الضرورية ويضعها في صيغتها الأخيرة، ثم يتقدم بها من مجلس الوزراء.

أما اليوم فلا يحدث شيء من هذا على الإطلاق وكل وزارة ــ فيما عدا بعض المشاريع الانمائية الخماسية ــ لا تزال تخطط وتضع الموازنات كما ترتأي، او يقوم ببعض واجب مراقبة هذه المخططات والموازنات من بعيد بعض الخبراء الذين لن يتوفر لهم البقاء في لبنان بشكل دائم او يشرف عليها من بعيد او قريب رئيس الجمهورية نفسه. وهذا امر لا يكفي، فقد يأتي عهد جديد يتولاه شخص آخر فيضرب بعرض الحائط كل تصميم أو تخطيط سابق أو مقبل، ويصبح الانماء في شكله التصميمي المخطط في خبر كان، لأنه، مهما قيل، فان سلطة رئيس الدولة في لبنان لا تزال هي المسيطرة، وسط انعدام الاحزاب السياسية تقريباً أو عدم تمثيلها بما يتوافق مع أهميتها المعنوية، ووسط قلة الخبرة والكفاية في بعض الذين يتسلمون مهام رئاسة الحكم والوزارات فيتصرفون معظم الأحيان كرجال سياسيين لا كرجال دولة.

هذا مع الاعتبار أنه قد نقع على رئيس للدولة ــ كما سبق لنا في العهدين الماضيين ــ يؤثر الحزبيات المحلية الصغيرة أو يستند في حكمه الى كبار الرجعيين وأرباب المال، فيمحي الجهل ما ولدته وخطته وكرسته جهود كبيرة في هذا العهد القائم.

واقع الاقتصاد والاجتماع اللبناني

اصبح معظم اللبنانيين يعرفون الشيء الكثير عن واقع الاقتصاد اللبناني، خاصة بعد أن تعممت في الصحف والكتب والأندية بعض الاحصاءات والاستنتاجات التي توصل اليها الخبراء الوطنيون والأجانب الذين انحنوا على الوضع العام للبلاد لدرسه وتحليله وتمحيص نتائج هذا الدرس وهذا التحليل وايجازه بإشارات الهندسة وأرقام الحساب.

قد يشك بعضهم في صحة هذه الأشكال الهندسية المعتبرة أو في مطابقة هذه الأرقام، ولكن هؤلاء المتشككين لا يستطيعون ان يتقدموا من الرأي العام بأي أرقام مضادة أو أن يصححوا الصورة العامة التي أظهرتها هذه الدراسات. وانما محاولتهم، معظم الأحيان، تهدف الى التمويه على الرأي العام وإخفاء الحقائق ما أمكن ليتمكنوا هم من الاستمرار في عمليات استثماراتهم الكبرى للاقتصاد اللبناني، أو يرمون الى التضليل والإنكار لغاية طائفية أو عصبية في النفس لكي يبقى التخلف ما أمكن شاملاً لمعظم مناطق لبنان. فالفقر الشامل ضروري في نظرهم لابقاء هذه القمم من الثروات المحددة عدا بدون رقيب ولا محاسب، حرة ما أمكن من قيود التوجيه والضرائب، ولأن معالجة التخلف العام لا تتم الا بتخصيص اموال الاغنياء لأجل ذلك إما بواسطة ما تحصله الدولة من ضرائب ومكوس وإما بواسطة الاحتياطي الذي يدخره هؤلاء.

وهذه نظرة عاجلة على ما أظهرته هذه الاحصاءات:

أولاً: مستويات المعيشة: اذا استثنينا بعض اقسام مدينة بيروت وبعض أقسام المدن الأخرى ولبنان الجبلي الأوسط التي تطاله موجة الاصطياف والإقامة السياحية فان لبنان يعد بلداً متخلفاً، اي ان الازدهار الاقتصادي يشمل فقط بعض أقسام مدينة بيروت وهذا القسم من منطقة جبل لبنان المحيطة بالعاصمة.

وحتى في لبنان الأوسط المعني فإن المعدل العام للمستوى الصحي وللتجهيز الصحي والمستوى الاقتصادي والتقني والمستوى المنزلي والتجهيز المنزلي والمستوى الاقامي العام ومستوى السكن والمستوى والتجهيز المدرسي والمستوى الثقافي والمستوى العائلي والمستوى الاجتماعي الخ،  ان هذا المعدل العام هو ليس النمو بل الانتقال من التخلف الى النمو. أما بعض الأقسام  الكبرى من قضاء عاليه وجروده بشكل خاص، ومن قضاء بعبدا، ومجموع قضاء الشوف واقليم الخروب وجرود جبيل وكسروان فلا تزال من المناطق المتخلفة. ويجب الالتفات ايضاً الى برج حمود وتكدس الأهلين من جميع المناطق الريفية فيها وخاصة من بلاد بعلبك والهرمل ومن الجنوب وعكار، حيث بلغ عدد السكان ما يقارب الماية وخمسين ألف نسمة تعيش كثرتهم الساحقة في احوال صحية وسكنية ومعيشة صعبة ومتخلفة جداً، كما انه يجب التنبه الى بعض أجزاء ضواحي بيروت حيث نشهد هذا التخلف ذاته وهذا السيل من الزحف نحو المدينة. وقد أوضح المهندس السيد ايكوشار المواقع التي تعتبر مستنقعات حقيقية للبشر وللأمراض وللأوساخ في الدرس الذي تقدم به من الحكومة اللبنانية.

ويبلغ التخلف اقصاه في سهول عكار وجبالها، وفي منطقة سير الضنية ومنطقة لبنان الشمالي الساحلية وفي جبل عامل في الجنوب وفي مناطق الهرمل وبعلبك والبقاع الشرقي.

أما في بيروت فإننا عندما قصدنا توزيع القرض الكويتي الأخير على المناطق المتخلفة من بيروت وطلبنا من أجهزة بلدية بيروت ومن مخاتير الأحياء وبعض المهندسين تبيان الأحياء المتخلفة جداً في العاصمة، ظهر من الدراسات والخوارط التي وضعت لهذه الغاية ان اربعة عشر حياً بيروتياً هي في حالة التخلف الشديد من أصل الأحياء التي تضمنها العاصمة هي وطى المصيطبة وشرشبوك وصبرا والكرنتينا والكمب الأحمر والكمب الأبيض وحي الطمليس والعلية واللجا وسيدي حسن وحي العانوتي وحي المناصفي وحي السريان والغلغول. وقد خصص 140 مليون ليرة لتطوير هذه الأحياء لأول مرة في تاريخ موازنات العاصمة. وهو مبلغ زهيد بالنسبة لما يتوجب رصده في المستقبل، ولكنه البداية. أما تقرير المهندس الخبير ايكوشار فقد اوضح ان ثمانين ألفاً من سكان بيروت يعيشون في التنكات والخيم الخشبية وسط الأوحال والأقذار، وان مايتي ألف ساكن بيروتي آخر يعيشون في ظروف للعيش غير انسانية.

ثالثاً ــ السكان:

لأجل تحديد الدخل الفردي وخطة التنمية لا بد من معرفة العدد الحقيقي لسكان لبنان. وتواجهنا في هذا الباب مشكلة غريبة سأضعها أمامكم بكل بساطة.

يدعي معهد التدريب على الإنماء أنه «من المتفق عليه بين الخبراء ان معدل الزيادة السنوية للسكان في لبنان هو بنسبة 2،3٪ أو 23 بالألف، واذا طبقنا هذا المعدل على العدد المسجل عام 1953، فاننا نحصل على الرقم 1,626,000 نسمة عام 1960 و1,824,000 عام 1965 و 2,088,000 عام 1970 وأخيراً 2,340,000 عام 1977. وبما ان هنالك انخفاضاً في معدل الولادات في المدن، فإنه يمكننا ان نعطي الرقم  2,300,000  لعام 1975».

والخبراء يعترفون، بالإجماع، بضرورة زيادة الدخل الوطني السنوي بنسبة 4،3٪ اذا كانت زيادة نسبة السكان 2،3٪، اللهم اذا كان لبنان يريد فعلاً أن ينمو» (من منشورات معهد التدريب على الإنماء).

ووفق معهد التدريب على الإنماء يتوجب ان يكون عدد اللبنانيين في نهاية سنة 1961:  1,663,400 وتعلمون ان الدولة توقفت عن نشر العدد الحقيقي للسكان بعد سنة 1953. فالانتخابات النيابية والمحلية تجري على هذا الاساس، لأسباب تعلمونها.

وعندما كنا وزيراً للداخلية، أوعزنا بإجراء عملية احصاء لنفوس اللبنانيين المقيدين على سجلات دوائر الإحصاء على الأقل. وبعد لأي وتعجيز تم احصاء نفوس السجلات لغاية 31 ـ 12ـ 1961، فاذا بمجموع سكان لبنان العام يبلغ 2,884,141 اي بزيادة 488,484 عما هو مرتقب ومتوقع في تقديرات بعثة «أرفد» ومعهد التدريب على الإنماء.

واذا قارنا عدد سكان لبنان الرسمي في نهاية سنة 1961 بعدد سكان لبنان سنة 1953 يكون الفارق:

2,151,884

1,416,570

735,314

وهي زيادة مذهلة لا يمكن أن تكون طبيعية. فالزيادة السنوية وفق هذه الاحصاءات الرسمية التي نشرت بقرار رسمي بلغت 91,914  نسمة في السنة بين 1953 و 1961 اي 6,5 بالماية أو 75 بالألف أي ثلاث مرات تقريباً معدل الزيادة التي قدرتها بعثة ارفيد. وهو رقم غير معقول ويدلنا فقط على التعديلات التي طرأت على عدد سكان لبنان بالتجنس أو باستعادة الجنسية او بسواها من الوسائل خاصة ابان العهد السابق.

ونلاحظ ان هذه الزيادات الضخمة جداً في قضاء المتن الشمالي حيث قفز عدد السكان بين 1953 و 1961 من 84,020  الى 151,751اي بنسبة 91 بالمائة تقريباً ، وكذلك في بعلبك والهرمل من 79,315 الى 133,286 اي 66٪ ربما بسبب قيد المكتومين في هذه المنطقة، بينما لم يرتفع عدد السكان في الشوف مثلاً الا من 96,573 الى 131,769 اي بنسبة 35٪ فقط اي 4،3 سنوياً وهي ايضاً نسبة تتعدى نسبة 2،3٪ التي قدرها معهد التدريب على الإنماء وبعثة ارفيد.

وتجدر الإشارة الى أن بيروت وضواحيها أخذت تنمو بشكل سيضم عما قريب ما يقرب من نصف سكان الجمهورية، بسبب تيار الهجرة الهائلة نحو المدينة. كما ان احصاءات الغرباء والأجانب ابرزت وجود اكثر من اربعماية الف عربي واجنبي في لبنان، معظمهم في المدن، يقيمون بدون عمل ان يعملون بشكل دائم أو في ظروف موسمية.

وأخيراً يبلغ السكان ذوو القدرة على العمل 800,000 بينما يبلغ عدد العاملين بالفعل 450,000 وهي نسبة ضئيلة اذا قورنت بسائر البلدان.

رابعاً ــ الدخل الوطني

لا نستطيع تقريره للفرد نظراً للتناقض الذي اشرنا اليه في تعدد سكان لبنان، ولعدم تمكن دوائر الاحصاء من الفصل بين عدد المقيمين فعلاً وعدد المهاجرين او الذين توفاهم الله في المهجر وحتى في لبنان ذاته… لأن وضع دوائر الاحصاء لا يمكنها ذلك اذ هو لا يزال في حال لا يليق بدولة منظمة. وعبثاً حاولنا اشراك بعض كبريات شركات تدقيق الحسابات في تنظيم هذه الدوائر، فالعقبة كانت أكبر من ان تواجه.

يكفينا ان نشير:

أـ  ان الخبير الأميركي السيد كردل وود Cardelwood قد لاحظ ان هنالك فارقاً كبيراً في توزيع الثروة بين فريق قليل من الموسرين ومجموعة الشعب اللبناني المتخلف، وخاصة بين دخل الذين يعيشون من الزراعة ودخل الاجراء في حقلي الصناعة والخدمات.

فقد اكد الخبير المذكور ان 14 بالماية من الاجراء يعملون في  التجارة والمصارف والخدمات والسياحة والصناعة ويحصلون على نصف الدخل القومي تقريباً، وأظهر من جهة مقابلة أن 50 بالماية من المواطنين يتعاطون الزراعة فلا يحصلون الا على  16بالماية من مجموع الدخل القومي الذي يبلغ وفق التقديرات مليار وثمانماية ليرة لبنانية.

ب ــ  أما معهد التدريب على الإنماء فيورد الأرقام التالية:

9٪ بائسون.

40٪ فقراء.

30٪ متوسط الحال.

14٪ ميسورون.

4٪ اغنياء أي يزيد دخلهم على 15 الف ل.ل.

ونظن ان جميع هذه الأرقام المتعلقة بالدخل الفردي يجب ان يعاد النظر فيها على ضوء احصاءات تكون صحيحة للسكان اللبنانيين المقيمين، وان مثل هذا الدرس سيظهر اتجاهاً نحو مزيد من التشاؤم في حقل توزيع الداخل.

خامساً ــ التعليم:

توجد في لبنان 1300 مدرسة ابتدائية رسمية تستوعب 131,000 تلميذ ويدرس فيها 6900 معلم، و1100 مدرسة ابتدائية خاصة (أي اقل بمايتين) تستوعب 137,000 تلميذ ويدرس فيها 4800 معلم فقط ويلاحظ في المدارس الابتدائية الخاصة زيادة عدد التلامذة ونقص عدد المعلمين.

كما يوجد في لبنان 12 مدرسة ثانوية رسمية عدد تلامذتها 2900 وعدد معلميها 210 و 122 مدرسة ثانوية خاصة عدد تلاميذها 137,550 وعدد معلميها 520 (ويلاحظ ايضاً النقص النسبي الكبير في عدد المعلمين في المدارس الثانوية الخاصة).

يبلغ عدد السكان الذين هم في سن التعليم سنة 1964 ثمانين ألف ولد بدون مدرسة. ان الجهاز التعليمي هو غير كاف. فالمرحلة الابتدائية تقتضي وجود 3,000  معلم لتأمين الحاجات الملحة. كما ان عدد المدارس التي تملك ابنيتها الحكومة هو ضئيل جداً اي مايتين فقط.

اما التعليم التقني الذي له دور مهم في التنمية فقد أهمل في الماضي وهو حاجة ملحة في البلاد. ولا يزال الطلب ملحاً للمهندسين التقنيين ولرؤساء الورش الصناعية ولمدراء المصانع  وسواهم ممن يشكلون الحلقة بين المهندس والعامل.

أما التعليم العالي فلا يزال يشكو من تأسيس جامعة وطنية متعددة الفروع وحسنة التجهيز بالمختبرات، لأن الجهاز العلمي لا يزال فقيراً في البلاد، فإنه يحتوي فقط على:

100 كيمائي بينهم 20 أجانب.

72 بيولوجياً منهم 12 أجانب.

18 خبيراً اجتماعياً بينهم 8 أجانب.

70 اختصاصياً في الرياضيات بينهم 20 أجانب.

105 اخصائيين بينهم 30 اجنبي.

ومعظم فروع التخصص العلمي والتقني لا يوجد لها ممثلون في البلاد.

أما عدد المهندسين فيبلغ 1500، ثلثماية منهم في الخارج يضاف اليهم ماية مهندس اجنبي يعملون في لبنان. وأكثريتهم متخصصون في البناء والاشغال العامة.

أما مشكلة الأطباء فهي في توزيعهم: عددهم 1445 طبيباً، 145 طيب أسنان و 332 صيدلياً و964 قابلة وممرضة و29 مراقب صحي ــ 61،80٪ منهم يعملون في العاصمة.

خامساً ــ النشاطات التجارية

أ ــ التجارة: تبلغ موارد التجارة اللبنانية 50٪ من الانتاج الوطني الصافي.

وقد بلغت تجارة الترانزيت وحدها عام 1960، 1961 مليون ليرة لبنانية.

ب ـ المصارف وشركات التأمين والنقل:

يوجد في لبنان اليوم اكثر من 60 مصرفاً.

وكان مجموع الودائع المصرفية في كـ 1962، 1910 مليون ليرة لبنانية منها 262 مليون ليرة لبنانية لأجل معين و1648 مليون تحت الطلب.

ج ـ السياحة: زار لبنان سنة 1963 ما يقرب من ثلاثماية الف سائح.

زاد عدد السواح سنة 1963 بنسبة 24٪ عن السنة السابقة ينتظر زيادة هذه النسبة قليلاً في السنة الجارية وقد تبلغ 25٪.

سادساً ـ الزراعة

ترتفع قيمة الانتاج الزراعي الى 300 مليون ليرة لنبانية في السنة. ويمثل انتاج الأثمار وحده 40٪ من مجموع الانتاج الزراعي كا يمثل 24٪ مجموع الصادرات اللبنانية.

أما المساحات المروية فهي 3247 كلم، من أصل 10،150 كلم.

سابعاً ــ الصناعة

ان الصناعة اللبنانية عرفت منذ عشر سنوات نهضة كبيرة.. ولكنها لا تزال تأتي في المرتبة الرابعة اي بما يقارب 12،2 بالماية، بينما يتوجب رفع هذه النسبة الى 40 او 50 بالماية لكي يتم تشغيل جميع العاطلين والقادرين على العمل.

خاتمة

ان ازدهار القطاع الثالثي هو في أساس خلل اقليمي واجتماعي كبير يتجلى في الأرقام التالية:

50٪ من السكان ينالون 18٪ من الدخل الوطني.

32٪ من السكان ينالون 22٪ من الدخل الوطني.

14٪ من السكان ينالون 28٪ من الدخل الوطني.

4٪ فقط من السكان ينالون 32٪ من الدخل الوطني.

هذا الكشف السريع يوضح بأن التخلف الاقتصادي والاجتماعي يبلغ في لبنان 70 الى 75 بالماية، وهي نسبة من التخلف عالية جداً.

مشاريع الانشاء والتعمير

هذا الكشف الموجز لأوضاع التخلف في البلاد أوحى للحكومات المتعاقبة في هذا العهد وضع بعض المحطات السريعة والملحة منها:

ـ مشروع الـ 450 مليون ليرة الخماسي لمياه الشرب والكهرباء والطرق وبعض مشاريع الري واصلاح شبكات الري القديمة وتمديدها، وتظهير الاثار اللبنانية واحداث بعض البحيرات الاصطناعية… وإقامة المدينة الحكومية وتوسيع مرافىء بيروت وطرابلس وانشاء مرافيء في صيدا وجونية الخ.

– مشروع الاثنين وثمانين مليون الثلاثي الهادف الى ايصال الطرق الى ما يقرب من ستماية قرية لم تصلها بعد طريق العربات.

– مشروع الـ 75 مليون ليرة من أموال التعمير المخصص لتشييد الأبنية الرسمية في العاصمة وفي الملحقات وفي تزويد مراكز المحافظات والقائمقاميات وبعض كبريات البلديات ببعض المنشآت والساحات الرياضية والمخافر وابنية البرق والبريد والهاتف وما سوى ذلك.

– اكمال تمديدات الهاتف الاوتوماتيكي.

ـ اعادة النظر في مشروع الليطاني ومباشرة العمل فيه. وقد بدأت جميع المحطات الكهربائية الأولى تعمل عليه. وقد تأخر وضع تصميم الري الزراعي للمشروع بسبب بعض الخبراء الذين اقترحوا الري بواسطة الضغط، وعقب ذلك جدل لم ينته بعد. واذا كان للخبراء بعض الفضل باقتراح بعض المخططات والمشاريع فتصدق كثيراً ان يشكلوا عقبة حقيقية في بعض مواجهاتهم للواقع لأنهم يجهلون هذا الواقع ويجهلون اوضاع البلاد.ونظن مخلصين ان التخفيف من خبرة الأجانب الا فيما هم مختصون به دون سواهم قد يكون أجدى للمصلحة العامة. ومشروع الليطاني كما تعلمون سيروي مساحات كبيرة جداً من الجنوب وساحل الشوف وعاليه مما سيحدث انقلاباً حقيقياً في وضع منطقة جنوبي لبنان بشكل خاص.

ـ المباشرة بدرس مشروع إقامة على سد نهر بيروت لتزويد العاصمة بما تحتاجه من مياه، ومباشرة اعمال المسلخ والشوارع الكبرى في مدينة بيروت، ومعرض طرابلس الدولي الخ…

– وضع المشروع الأخضر الذي يعتمد توسيع نطاق المساحات المزروعة في لبنان، والأحراج والمساهمة الفعالة والعملية بمساعدة الفلاح اللبناني.

ـ تحقيق  مصرف الإنماء، ووضع قانون المصارف.

ـ توسيع نطاق التسليف الزراعي والصناعي وتنظيمه

ـ تحقيق الضمان الاجتماعي للأجراء المستخدمين والعمال الصناعيين. ووضع مشروع التحكيم بين رب العمل والعامل وقانون العقود الجماعية.

ـ تهيئة جميع العناصر والدراسات الضرورية لمباشرة المشروع الخماسي الانمائي الثاني.

ـ وضع مشروع قانون البلديات الجديد والرسوم البلدية وتعميم البلديات على جميع القرى اللبنانية.

ـ اصدار قانون توزيع الأملاك المتروكة والأميرية على قرى البقاع وجنوبي لبنان والشمال.

ـ تعميم المستشفيات والمستوصفات على مختلفة المناطق اللبنانية بالرغم من الحالة غير المرضية التي لا تزال عليها بعض هذه المستشفيات.

ـ انشاء مصلحة الانعاش الاجتماعي وتنظيم العون الاجتماعي لمختلف مؤسسات الاستشفاء الخاصة والجمعيات الخيرية ودور الأيتام والعجز وسواها، وبالرغم من ان بعض هذه المستشفيات الخاصة لا يزال يتعاطى مهنة الاحتيال على الدولة. وتمكين مصلحة الشؤون الاجتماعية من اعتماد جهاز متعددة النشاطات للاتصال المباشر بالأهلين وتوجيههم وعلى انشاء مخيمات العمل التعاوني الاختياري.

– تهيئة جميع الدراسات لتنظيم اوضاع الرياضة والشباب اللبناني وتوفير اساليب التوجيه التسلية السليمة لهم.

ـ وضع جميع الدراسات لتعديل انظمة الضرائب ولتنظيم الاقتصاد اللبناني ومكافحة اساليب الاحتكار ومنع الوسطاء ما أمكن ووضع التشاريع الضرورية لتحسين ادارة المعامل الإدارية والتقنية وإطلاق حرية التصنيع وتشجيع التنمية الصناعية بانشاء المنح التصديرية والغاء الحماية عن الموارد والسلع الضرورية للمواطن وللبلاد، واجراء تخفيض شامل للحماية على معظم السلع الأخرى لأجل كبح موجة الغلاء والحد من تصاعدها في المستقبل على يد المحتكرين الذين يفيدون وحدهم من كل حماية غير مألوفة. وقد اصطدمت هذه المشاريع كما هو معروف ببعض رؤساء الوزراء والوزراء القصيري النظر وكادت تؤدي الى أزمة حكومية، لولا الصبر المتجلس في ارتقاب الفرص وفي انتظار الحكومات التي ستنبثق عن المجلس النيابي المقبل.

ـ تأسيس معهد التدريب الريفي ومعهد التدريب على الإنماء وبيت المحترف اللبناني، ومؤسسة البحث العلمي التقني التجريدي والاختباري، وتقوية بعثات التخصص في الخارج، والأذن للجامعة العربية بمباشرة دراستها في لبنان وزيادة ملموسة ولكنها محدودة في حقل نشر التعليم الرسمي الابتدائي والثانوي وخاصة التقني، وذلك في مشروع انشاء المدارس الاثني عشر التقنية، احداث دار المعلمين التقنيين في الدكوانة وسواها من المشاريع والمناهج.

وإننا نأسف لموقف أرباب المدارس الخاصة المناهض الذي منع الحكومة من تصديق مشروعنا لتعميم التعليم الابتدائي في البلاد والذي يقضي بتعيين الف ومايتي مدرس سنوياً…

– وسواها من المشاريع التي تهدف الى تشجيع سكن ذوي الدخل المحدود الى ما سوى ذلك.

سنكتفي فيما عنانا وخصنا بتخطيط بعض الاتجاهات العامة للموضوع التي نظن ان بدونها لا تتم تنمية صحيجة للبلاد.

الاقتصاد لا يمكن ان ينفصل عن الاجتماع

اولاً: نعتقد يقيناً ـ وهذا شعور رئيس الدولة ــ ان الاقتصاد لا يمكن ان ينفصل عن الاجتماع. فيجب ان يهدف الاقتصاد دائماً وأبداً الى تنمية الاوضاع الاجتماعية وترقيتها، لا تنمية الثروة لأجل الثروة فحسب، وهنا الفارق والفاصل الرئيسي بين الذهنية المسيطرة على الاقتصاد الحر، وبين الاقتصاد الانساني حقاً… وبين الاقتصاد الرأسمالي الحر كما هو معمول به في لبنان وبين الاقتصادي الانساني فارق كما بين الأرض والسماء او الفضيلة والرذيلة…  فوسائل الانتاج والرأسمال لها وظائف اجتماعية واضحة ومعينة لا تحل بدونها، بل تكون حراماً على أربابها والعاملين فيها. لذا كانت لعنة الانبياء ــ جميع الأنبياء ــ على المال الذي يقتنى لأجل المال والكسب لا أكثر. فكل ما يفيض عن حاجتنا الضرورية وحاجة عائلتنا فهو حكماً ملك الآخرين تصرفاً، ملك الجماعة، ونحن قيمون على هذا الملك وعلى طرق التصرف به لمصلحة الغير ووكلاء عليه. هذا هو الحد المميز بين روح الاسلام الحنفي المبارك وروح النصرانية الأولى وبين مفهوم مدنية الغرب وعالمه المتلفت الذي أدخل مفهوم الحرية المطلقة على كل شيء، حتى على الاقتصاد.

ونظن ان هذه الروح الشرقية التي يجب أن توحي لنا اهداف التنمية وسبيلها وتفرض بعض التشاريع لمثل هذه الغاية، وهي الروح التي يجب ان تعمم ليدرك الناس اي رباط من التضامن والتعاون يجب ان يجمعهم ويضمهم ويشدهم وأنهم ابناء أمة واحدة. فالمبادرة الحرة ــ لا الاقتصاد الحر ــ يجب ان تبقى ولكن ضمن توجيه الإنماء الاجتماعي الشامل.

وتوسيع نطاق الضمان الصحي والاجتماعي على الفئات المتوسطة وعلى العمال الزراعيين مثلاً يجب ان يكونوا هدفاً لتخطيط الانماء المقبل وكذلك تأميم استيراد الأدوية وانشاء المساكن الشعبية.

ثانياً: يجب اعتماد السرعة في تنفيذ الخطة الانمائية وخاصة في حقل الاقتصاد وإلا سبقنا الزمن. وهذه الطرقات التي نحدثها والتي ستربط جميع المناطق والقرى بالطرق الرئيسية والفرعية وهذه الكهرباء التي تجلب معها التلفزيون وبعض الرفاة البدئي، ستنقلب علينا وبالا… اذا لم نعالج الموقف من وجهة أخرى مقابلة… لأنها ستجر وستجذب المواطنين الريفيين أكثر فأكثر من مناطقهم الى المدن والى العاصمة بشكل خاص، وستجعلهم يتنكرون للعمل المادي وللشغل في الحقول فيتكدسون اكواماً من البشر في بيروت وشوارعها وضواحيها طلباً للعمل السهل فلا يجدونه، وانذاك تكون الكارثة، فلا المشروع الأخضر يفيد آنذاك ولا سواه لإعادة المواطن المهاجر الى المدينة الى منطقته.

ثالثاً ــ هذه الخطة الإنمائية السريعة يجب ان تهدف، اول ما تهدف، الى تشجيع الصناعة عبر تخفيض كلفة التحريك الكهربائى او البترولي للمعامل، ويجعل هذه الكلفة تزيد في الانخفاض كلما ابتعد المعمل على نطاق المدن الكبرى في اتجاه داخل، وتشجيع التصدير بفرض المنح التصديرية واعفاء المعامل الجديدة لمدة خمس سنوات على الأقل من كل ضريبة الخ.. ثم تحقيق اللامركزية الصناعية باصدار تشريع تستطيع بموجبه السلطة المختصة ان تشير على رب العمل بالمواقع التي يمكنه فيها تأسيس المصنع المقرر انشاؤه، وفقاً لتطلبات اليد العاملة المحلية وحاجات السكان.

لأننا نعتقد ان لبنان الذي تتألف أرضه في أخماسها الثلاثة او الأربعة من أراض جبلية ومنبطحات غير مسطحة، لا يصلح للزراعة في مفهومها الآلي الحديث… فلا بد اذن من خلق هذا النوع من الاقتصاد الازدواجي الزراعي والحرفي او الزراعي والصناعي، لكي تنساق الاجور والمواد التي يحصلها العامل والفلاح من ارضه ومن المصنع الذي يعمل فيه، ولكي يثبت ويستقر في الأرياف حيث هو، ولكي تعود للمواطن بهجة رغبة العمل في أرضه وحقله، فلا يتنكر للعمل اليدوي المباشر. طبعاً ان نجاح هذه المبادرة يتوقف، الى حد ما، على إنشاء التعاونيات الزراعية وعلى توزيع الاملاك البور والمهملة وعلى وضع حد أعلى للملكية الكبيرة، وعلى إشراك العمال في أرباح المعمل واشراك المعمل في استثمار مساحات واسعة من الأرض لحسابه وحساب عماله.

رابعاً ـ ونحن اذ نذكر دور الزراعة والصناعة في الانماء فلأننا نعتقد بأن الإنماء مرتبط بالانتاج، وان الانتاج وحده يستطيع ان يرد على طلب العمل المتزايد سنوياً في البلاد والذي يبلغ 35 الف طلب عمل جديد في كل سنة. فالتجارة الخارجية والدولية، مهما تطورت، فستظل بدون فائدة كبيرة في امتصاص الفائض السنوي من طلاب العمل. وكذلك السياحة والاصطياف والنشاط المصرفي، فجميعها تسد زاوية صغيرة ومحددة من الحاجة، ولكنها لا تعالج الوضع بحد ذاته مباشرة، بشكل كامل.

والتجارة والسياحة والاصطياف لا تستطيع في اي حال تأمين العمل للنصف مليون لبناني الذين هم اليوم قادرون على العمل ولا يعملون.

التجارة والنشاطات الفرعية او الهامشية الاخرى ستظل عقيمة على حد تعبير بعض كبار علماء الاقتصاد الأولين، وستحصر الثروة والمال باضطراد في ايد قليلة معروفة من الفئات البرجوازية الكبرى وفي محيطها وما قيمة الثروة والمال ان لم توظف في الانتاج وتسهم في تطويره الدائم؟

ان الخدمة التي تقدمها التجارة والسياحة والاصطياف والنشاطات المصرفية وسواها للبلاد تنحصر بشكل رئيسي في تنمية سياسة تشييد ابنية السكن في المدن وفي توفير سيل من المال يمكن الإفادة منه وتوظيفه في حقلي الصناعة والزراعة.

فعلينا ان نفيد مصادر هذا التسيلف الدائب الضخم الذي توفره لنا النشاطات التجارية والمصرفية والسياحية التي المحنا اليها.

ثم ان هذا النوع من الاقتصاد الفينيقي، اذا صح التعبير، يظل معرضا لأخطار التقلص والانهيار السريع لدى أقل حدث دولي. ولنتساءل فقط هل ستبقى في مصارفنا هذه الأموال الضخمة المودعة، لدى أقل تطور عنيف مفاجىء لمشكلة نهر الأردن او اسرائيل؟

ويجب التوضيح والتشديد في ذلك على أن عناصر التنمية يجب ان تكون ايجابية لا سلبية. فنحن اخذنا حتى اليوم من الأموال الهاربة من العراق وسوريا وسواها بسبب الأوضاع العصبية القلقة التي مرت بها هذه البلدان، وأخذنا ايضاً من هذا القسم من واردات النفط العربي بشكل خاص التي لا تزال تنصب إحدى روافدها الكبرى في بلادنا بواسطة بعض اثرياء السعودية والكويت والبحرين وقطر وسائر مشيخات شاطىء المحيط العربي والخليج الغنية بالذهب الأسود. ولكن هل سيظل امر هذا الوافد من المال على حاله؟ وهل يعيش الانسان من مصائب غيره او من ثروة غيره؟

وأخيراً، لقد خلق هذا الاقتصاد المالي المتضخم في بيروت حركة ارتفاع لبعض الأجور والأسعار مصطنعة، وبقعة «وواحة» من الترف المتطرف والغلاء المفجع والشعور بانعدام قيمة المال لكثرة وجوده وانحصاره في ايد معدودة، وسط حالة عامة شاملة في البلاد من التخلف والعسر الدائب. وهذه الرقعة من الاقتصاد المالي ومن اقتصاد التحصيل السريع والمضاربة قد فرضت على البلاد بأسرها مقياساً من الأجور المرتفقة والغلاء لا يتناسب مع المرحلة التي توصل اليها تطور الانتاج الزراعي والصناعي فيها. كمن يحسب ويقتبس ثمن السلع بمال غيره المتكاثر يشتريها بماله القليل. ولذا كان يتصاعد باستمرار هذا التذمر من غلاء الحاجيات وقصر باع الناس في اقتنائها وخاصة الفئات المتوسطة والفقيرة وسط وجود المال في ايدي بعضهم بالملايين وعشرات الملايين كالتبن على حد تعبير النبؤة الشهيرة يعلين به القصور ويشيدونها.

هذا الاقتصاد المالي والتجاري خلق طبقة من كبار الاغنياء والمترفين والمسرفين لم نكن نعهدا فيما قبل. أخذت تتوجه اليها أكثر فأكثر النقمة الاجتماعية المتزايدة التي تنذر ببداية الحركات الاجتماعية الشعبية العامة.

وطبعاً ان سياسة الانتاج هذه تفرض سياسة السوق العربية المشتركة على الأقل وتفرض في النهاية الوحدة الجمركية العربية، وتتطلب ثقة أكثر في توسيع التعامل التجاري مع دول المعسكر الشيوعي. ولبنان لا يمكن ان يعيش اقتصادياً بشكل سليم صحيح نام بدون توثيق اتصاله بالعالم العربي المحيط. هذا هو إيماننا واقتناعنا.

خامساً ــ ان انعدام التوازن والتناسب بين موارد الزراعة والصناعة وبين أرباح ارباب التجارة والخدمات الأخرى قد أوجد ظروفاً غير ملائمة لتطور الزراعة والصناعة في البلاد فيما عدا ان ابواب المضاربة على تنوعها والأرباح غير المشروعة قد فتحت على مصراعيها، وكادت تزول تماماً من ذهنيتنا المتدينة التقليدية فكرة الحلال والحرام وقياس الأمور بموازينها الأخلاقية. لنتصور مثلاً ان أحد رؤساء مجالس إدارة مصرف معروف في بيروت يتقاضى شهرياً عشر آلاف ليرة لبنانية تعويضاً عن عمله اي ماية وعشرين ألف ليرة ربحاً سنوياً صافياً، اي ما يوازي الأرباح الناجمة عن تنظيم مليونين الى ثلاث ملايين ليرة لبنانية. في الصناعة أو الزراعة، او ما يوازي ثلاثة أضعاف ونصف تعويض رئيس جمهورية البلاد.

ولنتصور ايضاً الأرباح الهائلة التي تفوق التصور التي يجنيها بعضهم من بيع بضع مئات من الأمتار المربعة من أراضي البناء في العاصمة، هذه الأرباح التي توازي ارباح شركة طيران الشرق الأوسط مثلاِ في سنة واحدة.

هذا الاقتصاد المالي والتجاري الصرف قد ـ خلق جشعاً في جني الأرباح الصافية لا عهد لنا فيه وقد يتجاوز الخمسين بالماية والماية بالماية للسلعة الواحدة، كما اوجد اتفاقاً ضمنياً على ضرورة جني هذه الأرباح الباهظة بين مختلف تجار المدينة، بحيث أصبح لبنان من أغلى بلدان العالم، فكيف يمكن للمزارع او للصناعي الذي يكتفي بأرباح لا تتجاوز الأربعة بالماية او الستة او العشرة بالماية ان يلقى تشجيعاً في الانصراف الى عمل النتائج؟

يجدر انتهاج سياسة للدولة تمنع الربح الفاحش والتبذير والاستهتار وتصادر الربح الفائض بالمقاييس وتعيد بواسطة القانون الى الاقتصاد اللبناني قواعد الحلال والحرام والمشروع وغير المشروع. والا يكون شعب لبنان قد حكم على نفسه بالاستعباد لهذا النوع من الاستعمار الداخلي المتجلس بالاحتكار الذي لا يرعوي والاستثمار الجشع والتفريط بمال المجتمع في النهاية.

سادساً ــ ان الانماء الاقتصادي يفرض انتهاج سياسة توجيه ونصح وارشاد في القطاع الخاص تمنع التبذير وتوجه الرساميل الى حيث يتوجب توظيفها واستثمارها.. فلا يجوز ان تمر بنا هذه الثروة الهائلة النابعة من موارد النفط ومن التجارة الدولية والودائع المصرفية دون ان نفيد منها كما يتوجب في حقل التوظيف والتسليف الانشائي والانتاجي. والا يكون مثلنا كمثل الحاكمين في بعض البلدان العربية المالكة للنفط سواء بسواء.

سابعاً ــ ان سياسة الإنماء تحتم وضع التشاريع الضرورية للقضاء على الاحتكارات الكبرى في البلد ولترقية الإدارة التقنية والبشرية للمصانع. ولا بد في نظرنا من اشراك العامل في هذه الإدارة، لتنمية روح المسؤولية المعنوية في الفئات العاملة، واستباقاً واعياً لما ستحدثه الحركات الاجتماعية المقبلة في لبنان من خضات ومواجهات غير مرغوبة.

ثامناً ــ ان التنمية الاقتصادية كما سبق واشرنا تحتم في لبنان بشكل خاص انتهاج سياسة العودة الى الأرض وتسوية اوضاع الأجور والأرباح لكي تتم تلك العودة بشكل طبيعي. فالاقتصاد الانساني الحقيقي هو الذي يرتبط اولاً وآخراً بالأرض ولا يخرج الإنسان معن نطاق عيشه الطبيعي. ولذا كان الاقتصاد المزدوج الصناعي والزراعي واللامركزية الصناعية طريقاً لذلك. فالإنسان الحديث يشكو مرارة وعنف في أعصابه ومزاجه وحياته العائلية والنفسية، من هذا الانفصال عن الطبيعة وهذه الفرقة المصطنعة. فالأرض وحدها في النهاية هي مصدر بهجة الإنسان وقوته وارتباطه الاصيل بتقاليده السليمة وحضارته العربية والشرقية. وهي حدها المرتكز والمنطلق الاساسي لكل حضارة معنوية انسانية صحيحة.

تاسعا ــ ان الانماء الاقتصادي السليم لا يمكن ان يتم بدون اعتبار المواطن قيمة معنوية يجب تهيئة الظروف الموافقة لتفتحها وتحققها. فالاقتصاد وجد لأجل الانسان ولم يوجد الانسان لأجل الاقتصاد. ولذا شددنا سابقاً على وجهة الاقتصاد الاجتماعية، ونشدد الآن على وجهته المعنوية.

ماذا يفيد الوطن والمواطن هذا الاقتصاد التجاري الحر في المعنى الفينيقي لا في المعنى السليم الذي ينزع من قلوب الناس فكرة المسؤولية ومفهوم الارتباط بالوطن؟

ماذا يفيدنا هذا الاقتصاد الحر في المعنى الفينيقي والانحلالي المتطرف، لا في معنى المبادرة الحرة اذا كان وسيكون مصدراً لافساد المواطن ولفساد الدولة، ولجعل بيروت على حد تعبير مجلة لايف الأميركية «مدينة الخطيئة» او لتحويل لبنان كما يقصد البعض الى بلد مفتوح حر كهونكونغ لا يرتبط بفكرة وطن ولا بمسلك معنوي ولا بقضية ولا بقومية ولا بحضارة.

ويجدر لاجل منع هذا التحول ان يرافق الانماء اصلاح جذري لأساليب التعليم وتشجيع المؤسسة العائلية وتقوية ارتباط المواطن بأخيه المواطن، والقضاء على فكرة الربح لأجل الربح فقط واقتلاع مصادر مفاسد الأخلاق والعناصر الاجتماعية لانجذاب الخطيئة وتشجيع الزواج الباكر يمنح من الدولة، وتنظيم الشباب، واعتماد وتحقيق مبدأ الخدمة العسكرية والاجتماعية الاجبارية، والعودة الى التقليد العربي السليم. وهل يستطيع النهران يعيش بالانقطاع عن معين مصدره وينبوعه؟

انما الاقتصاد وجد لأجل بناء الانسان المواطن اللبناني العربي السليم لتفتيح مقدرواته المعنوية وطاقاته الاسنانية الرفيعة، ولم يخلق الإنسان لأجل الاقتصاد. فنحن بحاجة الى خلق وطن شعاره الجدية والنشاط والتحرر والوحدة الداخلية الحقيقية، ولسنا نرغب ابداً ببناء جسر جديد لاستعمار الغرب المادي والمعنوي ومرتكزاً للنفود الأجنبي ومستنقعاً من بحبوحة اصحاب الملايين ومن ضروب التشكيك والاحتيال والفساد.

الإنماء والطائفية السياسية

في مستهل هذا الحديث الصغير اشرنا الى كلمة رئيس الدولة من ان «العمل الإنمائي الذي يجري في الميادين الاقتصادية والاجتماعية يتعدى في غاياته رفع مستوى العيش وتحقيق العدالة الاجتماعية، الى صهر اللبنانيين في مجتمع واحد..».

في ندوة جمعتنا مع بعض كبار المفكرين اللبنانيين في بهو الأونيسكو، توضح في الواقع ان العصبية الطائفية في لبنان، فيما عدا المرتكز الاقتصادي للأوقاف الذي تستند اليه، انما تنبعث من مصادر ثلاثة للتمييز والتفرقة:

اولاً- امتياز ثقافي تتفوق فيه فئة وطبقة المواطنين على فئة اخرى ولا تزال الى حد بعيد.

ثانياً – امتياز اقتصادي يجعل التجارة والمؤسسات الاقتصادية الكبرى في ايد فئة وطبقة من المواطنين ويحرم نسبياً من الفئات الأخرى من ممارسة حقها في الاقتصاد.

ثالثاً – امتياز سياسي يجعل مراكز الحكم والإدارة والتوجيه الأساسية منحصرة الى حد ما ايضاً.

التكلم عن الوحدة الوطنية وعن الديمقراطية السياسية أمر لا معنى له الا ببطلان هذه الامتيازات الثلاثة.

والامتياز الطائفي السياسي لا يبطل في الواقع الا بزوال الامتيازين الأولين وفي القضاء على التخلف الثقافي وعلى التخلف الاقتصادي.

الانماء هو الطريقة لمثل هذه الوحدة الوطنية الداخلية المرتقبة.

فكيف يستطيع المواطن اللبناني ان يمارس حقوقه السياسية بكفاءة، اذا كان في وضع من التخلف الاقتصادي والثقافي يمنعه عن ذلك.

والطائفية السياسية في البلد وليدة الحرمان والاحتكار الاقتصادي والثقافي الذي سيطر على لبنان منذ عهد الانتداب. ولكل سياسة منهجية مخططة مدروسة شاملة تكون بحد ذاتها وسيلة للخلاص من الوضع السياسي والنفساني القلق الداخلي والخارجي الذي لا يزال العقبة الكبرى في سبيل بعث لبنان في صفته التاريخية الغالبة أيام نضال امرائه وقادته: أي دولة عربية متقدمة على هذا الشاطىء في كفاح العرب الدائم في وجه الاستعمار الغربي والنفوذ السوفياتي على السواء، ولأجل اعادة ايام العرب الغالية في السيادة والتلاقي والكفاح والإسهام الفعال في عالم الحضارة امتداداً لتراثنا وتحقيقنا لمصيرنا المرتقب.