السياسة الخارجية للأحزاب الإشتراكية العربيّة / بقلم كمال جنبلاط

تتحدد السياسة الخارجيّة للأحزاب الإشتراكيّة العربيّة على ضوء مواجهات واقعيّة خمس:

1- تصوّرنا للإنسان والدولة والحضارة، وموقفنا من الحضارة التقنيّة القائمة في الغرب، وفي العالم الروسي على السواء.

2- مفهومنا للإشتراكيّة، وموقفنا من النظامين الحقوقيّين المسيطرين على بعض أقطار العالم: الرأسمالية الفرديّة الغربيّة وصنوها وردّ فعلها أي الشيوعيّة (رأسمالية الدولة).

3- مواجهتنا للوضع الدولي القائم وللصراع المتأزّم.

4- واقعنا الجغراسي.

5- مصالحنا الوطنية السياسية والإقتصادية الأساسية وكلّ سياسة خارجية لا ترتكز في النهاية إلى هذه العوامل الخمسة، سريعاً ما تجنح نحو الإنتهازية أو الحيرة، وبالتالي تفقد مقوّمات حياتها ومسببات نجاحها. فتتقلّص وتندثر مع الزمن في لولب تطوّره، وتسقط من حساب فعاليّة المجتمع، وتضمحلّ في ظفر التاريخ. ولكن قد يتمّ ذلك بعد أن تكون هذه الإنتهازية في السياسة قد ضللت الشعوب المعنية وأخرّت تقدّمها، وألحقت بها أكبر الأذى. وهو حال رجال الحكومات العربيّة اليوم الذين لا يدركون في الواقع ماذا يفعلون، وماذا يجب أن يفعلوا.

أما من حيث وجهة نظرنا للإنسان والدولة والحضارة، فلأنّ الإنسان، في اعتبارنا هو كائن موحّد الإمكانات، كلّ لا يتجزأ، متنوّع النشاطات والمقدورات في جميع مستويات الجسد والفكر، وما يعلق في شؤون الروح من مناقبية وتحقّق وحرية وشعور بالحق والوجود والسعادة والجمال. كلّ ذلك في تأليف موحّد الأقسام، منسجم المراتب، متوافق الأجزاء، متساو متوازن. فلا الفاشية أو القومية المتطرفة بما تجسمه من رضوخ الفرد الإجتماعية القطيع، ولا الرأسمالية وصونها وردّ فعلها الشيوعية، بما تضخّمه وتبرزه من سيطرة الإقتصاد والإنتاج والعقيدة والآلة على الإنسان، ولا محاولة الإعتزال والتكهّف والإنفالات من واجبات الحياة العادية في الإنخطاف، لا تعبّر جميعها في نظرنا عن وضع الإنسان، وهو على ما نميّزه، هذا المظهر الكوني الذي يتحوّل فيه ومن خلاله التيار الحيّ الزاخر بالمقدورات منذ فجر الحياة، إلى فكر وشعور وإشراق وقيم حق وحريّة ووجوديّة وسعادة.

الانسان

فالمجتمع في كلّ مؤسساته – ومنها الإقتصاد والسياسة- ليس في ذاته غاية، بل وسيلة إلى بناء هذا الإنسان.

وبالتالي، فالدولة، كما نتصوّرها، هي أداة لا أكثر تتكوّن لخدمته وتحقيقه، وتزول عندما تبطل ضرورات قيامها، أي في المرحلة النهائية من تقدّم الفرد وتطوّر الجماعة وزوال التناقض بين المواطن والدولة، وتوافق مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.

ونظرتنا للحضارة إذاً تنبثق من ذلك التصوّر، وتفرض علينا أن نوفّر أكبر قسط عملي من العدل الإنساني، وتحقيق أعلى مدنيّة، وأكثف حضارة معنوية، في آن واحد، ممكنة للمجتمع البشري الحاضر.

وإحدى مشاكل مدنيّة الغرب (الشيوعية والديمقراطية على السواء)، ومعضلة الأنظمة والمؤسسات المتفرّعة منها، هي أنّها لم توفّق بعد إلى الحلّ التأليفي Synthese الموافق الذي يزول فيه التناقض والتنافر بين أقطاب الإزدواجيات المتمثلّة فيها حركة الحياة ووفق التاريخ، والذي يكمل في الحقيقة كلّ قطب فيها ويتممّ القطب الآخر (الفرد والمجتمع، المواطن والدولة، المادّة والفكر، القانون والشرعة المناقبيّة، الدين وتحقّق الذات، الدولة والمتّحد الكوني…إلخ).

فالجواب على الموقف الشامل من الغرب ومن حضارته يحددّ في الأساس مبدأ وأسلوب نضالنا الخارجي وسياستنا الدوليّة.

وما أحرى بشعوب الشرق العربي والشرق الأوسط -مهد الحضارات المتتالية، ومصدر الأنظمة والمؤسسات الدوليّة والإجتماعية والإقتصادية والفكرية المتعاقبة، والمتعمّقة جذورها، والمتبلورة صورها في ذهن وحياة الإنسان الشرقي منذ آلاف السنين – أن تأخذ هذه الشعوب الحضارة الغربيّة، حيث أوصلها التطوّر الغربي، فتضفي عليها ألوان نتائج أختبارها التاريخي وتفهّمها المشبع بحكمة الأزمنة، والمتجسّد في تراث الشرق المعنوي، فتنفح مدنيّة الآلة روحاً لا تستطيع بدونها، هذه، أن تستمرّ وأن تحيا، وتصبح إذاك المدنيّة حقاً حضارة، وتزول الأزمات على تنوعّها، التي يعانيها اليوم الجنس البشري، والتي ما هي إلاّ انعكاسات هذه التناقضات والازدواجيّة التي أشرنا إليها.

فعلاقتنا بالغرب لا يمكن أن تكون كما يتصوّرها بعض “المستغربين” أو المستعمرين في عقولهم، والذين غفلوا عمّا هم عليه، أي لحاقاً بجار وانجذاباً وراء قيادة وتيّار، وانصهاراً في مدنيّة وقضيّة قائمة، بل يجب أن تكون محض اختيار الصحيح والقدرة على التمييز السليم والأخذ بكلّ ما نحن بحاجة إليه في سعينا لبناء الحضارة الجديدة التي نرقبها واقع الغد المقترب، والتي تتعدّى معاً في ما ستكون عليه حضارة الشرق والغرب القائمتين حالياً.

Untitled

وهذا الذي أوضحناه من موقفنا من الإنسان والدولة والحضارة يشكّل في نظرنا، ونظر المشتركين معنا من شعوب الأرض، المقوّم الأساسي لما يسموّنه ماهيّة ونهج القوة الثالثة.

أما من حيث مفهومنا للإشتراكية، فهو يتعدّى في الواقع النظرة الماركسية التقليدية ويتحرر منها، وبفضل هذا التجاوز والتعدّي ذاته – والماركسية هي مرحلة نظرية من مراحل تطوّر الفكرة الإشتراكية – يتاح لنا أن ننظر إلى الرأسمالية الغربية الفرديّة وردّ فعلها، وصونها الشيوعيّة الغربيّة الجماعيّة، أي رأسمالية الدولة، النظرة التي تتوافق مع وضع هذين النظامين الحقوقييّن من تطوّر التاريخ، وقد تعدّاهما في الحقيقة، وأخذ ينزع بصيرورته المحتومة إلى تحقيق الإشتراكية التي في سبيلها نسعى.

فهذه الإشتراكية تفرض علينا إذاً سياسة خارجيّة خاصة بها، مختلفة عن سياسة الغرب الديمقراطي، ومختلفة أيضاً عن سياسة الحزب الشيوعي، وغير مرتبطة جوهرياً لا عرضاً بهاتين السياستين، وقد انتقل في الواقع نضال الكتلتين إلى حدّ ما من صراع بين فكرتين ومبدأين وعقيدتين إلى نزاع قومي سافر بين هذه الدولة وتلك، من النوع الذي شهده عصر القوميّات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبذلك فقدنا فعاليتهما الخارجية.

والدليل البيّن على ذلك هو ما يبدو من تسابق الفريقين إلى اعتماد هذه السياسة الغريبة التي أضحت تفرض على الجبهتين الأساليب المتوافقة ذاتها، على ما بينهما من تناقض (القوّة العسكرية، والمظهر الجماعي للإقتصاد والإدارة، واضطهاد الحريّات، والدعاية الملفّقة، وروحيّة السيطرة، وتأمين المصالح القوميّة الخاصّة، وسواها…إلخ).

فسياستنا الخارجية يجب أن تأخذ بعين الإعتبار هذا الوضع الذي أشرنا إليه وأن تستوعبه على حقيقته، وأن تؤسس على ضوئه نهجاً لعلاقاتنا مع الجبّارين المتنازعين على السيطرة القوميّة وعلى سيادة العالم.

revolution

أمّا مواجهتنا للوضع الدولي القائم، وللصراع المتأزّم بين الجبهة الشيوعية والجبهة الأوروبية الأميركية، فإنّ موقفنا من النهج المتّبع في الكتلتين المتناحرتين، ذلك التناحر الذي أضحى إلى درجة ما لا يختلف جوهرياً واحده عن الآخر، وقد تحوّل إلى قيام حرب باردة متبادلة، وأنّه سيؤول في المستقبل القريب أو البعيد إلى اشتعال نار حرب طاحنة ثالثة، هو أننا ندرك مسؤوليتنا الخطرة إزاء هذه الحالة الشاذّة التي تأزم فيها الشعور واختلط، فشلّ العقل منطق الخوف المتبادل، هذا الخوف الذي يهدّد العالم بأكبر كارثة في مدى تاريخه.

وإنّه يهمّنا في هذا الباب، نحن الشعوب العربيّة، المشتركة بالأماني السلميّة والأهداف الشعبية مع جميع شعوب الدنيا، أن نعلن أنّه يترتّب علينا واجب كبير هو النضال في سبيل السلم، وإبعاد شعوبنا وبلداننا وبلاد العالم عن الحرب التي يهيؤون لها، وأن نسعى جهدنا، بجميع الوسائل، لتبديد هذا الجوّ من التخوّف والذعر المشترك، الذي يخلقه الفريقان في صفوف شعوبهما، إعداداً للصراع المسلّح، وأن نؤكد ثقتنا بضرورة وإمكانية التعايش السلمي فيه والتفاوض المستمرّ والحكم بين المعسكرين.

وفي رأينا أنّ الإنخراط في صفّ أحد المعسكرين، سياسياً وعسكرياً يشكّل بحدّ ذاته حافزاً لهذا المعسكر للاستمرار في سياسته المحمومة، ويؤلّف -بما يتضمنه من تطويق للقطب الآخر- خطوة جديدة تقرّبنا من انفجار النزاع المشؤوم. وفي اعتقادنا أن موقف الحياد الذي تكوّنه الدول العربية والشرقية والآسيوية، وسواها من دول العالم المتمسّكة بأهداب السلم، هذ    ا الموقف الحيادي هو في ذاته إحدى الضمانات الكبرى للسلم، لما يتضمنه التوسّط والتحايد والوقوف والفصل بين اثنين، من إضعاف مجالات الإحتكاك والتناحر والإيذاء بينهما، عدا ما يكون عليه موقف العاقل المتعقّل المطمئن للتصرف السليم، والمتفائل بالمصير من عبرة عفوية جاذبة لمن ركبه الهوس، أو أطاح به شذوذ التخيّل، أو أعماه عن الواقع هوى التحيّز.

ثمّ إنّ كلّ سياسة تطويق وتسليح وتهديد، تؤول إلى تأخير انهيار الديكتاتوريات السياسية الحزبية القائمة في البلدان الشيوعية، نظراً لما يفيده القيمون على الشؤون العامة في هذه البلدان من مساندة شعوبهم التي يوهمونها خطأ أو صواباً بالخطر الوطني المحدق بسلامتها ونظمها. وكلّ ما لدينا من معلومات يدلّنا إلى التطور الشعبي الخطر الذي تتمخض به الأوطان الشيوعية، نتيجة تعميم المعرفة والعمل والفنّ ورفع مستوى الجماهير، وتفتحها الواعي لحقوقها في الحياة، وفي طليعتها حرية الفكر والحكم السياسي.

الشيوعية

وإلى الأصوات الخافتة التي ترتفع هنا وهنالك في الشرق العربي مطالبة بالأحلاف أو تنفيذ سواها من مشاريع الإنضمام والإرتباط، أكان ذلك بالنسبة للمعسكر الشيوعي الغربي، أم بالنسبة للمعسكر الديمقراطي الغربي، نقول: “إن كل تحيّز، علاوة على أنّه يضعف من قوة مبادرتنا التاريخية في مجال تحقق النظام الجديد، فهو يوطّد النفوذ الأجنبي في بلادنا ويمهّد لانتشاره من جديد، نظراً لواقع الدول العربية الإقتصادي والإجتماعي والسياسي المتأخر، ويقودنا حتماً، واقعاً ونظرياً، إلى الوقوف في الصفّ الذي تقف فيه إسرائيل، وبالتالي يشكّل في منطقه الخطوة الإيجابية لتحقيق الصلح مع هذه الدولة المعنيّة، وما إسرائيل، في نهاية التحليل البصير، إلاّ مقدمة للإستعمار في ربوع الشرق، ومشروع من مشاريعه، ومعقل أمامي من معاقله قصد منه – في منطق التجزئة الذي هو منطق الإستعمار- فصل الشطر العربي الشرقي الآسيوي عن الشطر العربي الأفريقي، وتحويل جزء من الواقع الشعبي العربي الكبير إلى غير لونه وحقيقته. ومعضلة الأقلية اليهودية في فلسطين لا تحلّ في حدسنا – كمشكلة جميع الأقليات في الشرق العربي- إلاّ على أساس اشتراكي عربي.

وفي رأينا أن السياسة الصواب في هذا الباب هي في الإفادة القصوى من التناقض السياسي والإقتصادي القائم بين المعسكرين، كما تتوضح لنا مفاهيمه من خلال تطور تاريخ القضية الشرقية. وموقف الحياد هو الوسيلة لتنفيذ مثل هذه السياسة.

ويزيد في تأكيد ما نقول، التحوّل الأخير الذي رافق نموّ الحرب الباردة التي فرضت على المعسكرين، وبخاصة على الغرب الديمقراطي، سياسة المحافظة على أوضاع النفوذ الراهنة وتقويتها، وبالتالي برزت ونمت مصلحته بالتمسك، بكلّ ما له من سيطرة سياسية أو إقتصادية قائمة. فما هي مصلحة الشعوب العربية إذاً، في محالفة استعمار أضحى أكثر تمسكاً بركائزه من ذي قبل؟!

ثم إن الإنسياق في تيار الغرب السياسي يعني القبول بواقع ونظرية تجزئة البلدان -هذه التجزئة التي فرضتها سياسة الغرب، والتي هي، كما أشرنا، من منطق الإستعمار. والشعبوية والنفوذ الأجنبي في هذا المدخل يتلاقيان: فالأحلاف الدفاعية في العراق والأردن وفي مصر، قبل تعديل المعاهدة، كرست انفصال هذه البلدان بعضها عن البعض الآخر، وعن جاراتها.

ولا بدّ أخيراً من التوضيح أنّ موقف الحياد الذي نعني ليس هو بالسلبي، إلاّ في ما يتعلّق بعدم الإرتباط العسكري مع المعسكرين، وقد تكون سلبية -وهي مفهوم نسبي- في موقف هاتين القوتين من القوة الثالثة. بل إن الإيجابية كلها فيها بما توصيه من نهج واضح المقاصد، مفصّل الأهداف، منبثق من صميم واقع العالم الحياتي، وفي ما يفترضه هذا النهج ويسعى إليه من فتح بابا التعاون على مصراعيه، في حقول السياسة والإقتصاد والثقافة.

 فلا يكون هذا النهج فراغاً استراتيجياً، وخواءً سياسياً، كما يزعمون، بل هو برنامج عمل وحياة مفعم بالإمكانيات، مرتبط مباشرة بمصالح شعوب العالم الأساسية في الوحدة الإشتراكية، والسلم، وبأمانيها الحضارية. والفراغ كل الفراغ في تلك السياسة الجوفاء التي لا تهدف إلى إثارة الخوف، وبذر الشكً، وصقل السيف، وإعداد المدفع.

  • الواقع الجغرافي السياسي والإستعمار

أما من حيث واقعنا الجغراسي، فلأن البلاد العربية، علاوة على مواردها الإقتصادية المهمة، وفي طليعتها حالياً صناعة البترول، يقع شطرها الشرقي في الفسحة الدائرة القائمة بين قارات ثلاث، وبحار كبيرة وبرازخ وترع وخلجان ونقاط ارتكاز هامّة، وعلى خطّ تزاحم النوفذ التقليدي بين الدول الكبرى، ويقع الشطر الغربي منها على الضفاف الشمالية من أفريقيا. ولأجل ذلك تشكّل البلاد العربية نقطة استراتيجية كبيرة الأهمية، نظراً لما ستلعبه قارّة أفريقيا في نظر الغربيين من دور خطر في الحرب القادمة، بوصفها اللوحة الدائرة بين أميركا وآسيا وأوروبا، ونتيجة قربها  من القارة الأميركية وسهولة امتدادها بالجيوش والعتاد. فالشرق الأدنى هو في الواقع رقبة جسر وباب على آسيا، وأفريقيا الشمالية العربية هي قلعة الدفاع والهجوم على أوروبا عن أفريقيا بكاملها.

والعامل الجغراسي الآخر في الشرق العربي هو الاستعمار ونفوذه في جميع حقول الإقتصاد والسياسة.

الحرب-الباردة

وهو، وإن زال في بعض الدول من وجهة الوضع الحقوقي السياسي القائم، لا يزال أبداً نافذاً على يد الفئات الرجعية والكتل والشخصيات الإنتهازية التي ما فتئت، بتزويرها لإرادة المواطن، تتحكّم بمصير الشعوب العربية.

يجدر بنا بعد هذا العرض أن نتمسك بالسلم، وألاّ نتعرّض للحرب والسلم المسلّح على السواء. والحرب دمار شامل كاسح علينا، والتسليح والأحلاف تجعل بدورها الدول العربية ثكنات جبّارة  من العتاد والجنود والمواقع الإستراتيجية، لا يعود ليقوم في ربوعها استقلال لشعب، ولا تدوم له حريّة أو تحيا له ديمقراطية، وتضحي بلادنا ميدانياً طليقاً للنفوذ والاستعمار الأجنبي، وبروز الديكتاتوريات المدنية والعسكرية على تنوّعها، ولتوقويتها وجعلها شاملة خانقة لحريّات الأفراد ومعلّقة لحقوق الجماعات.

أمّأ من حيث مصالحنا الوطنية، فهي التي تتخلّص: بالإستقلال، والإتحاد، والإشتراكية، والديمقراطية.

ونعني بالاستقلال، السيادة الوطنية التامة الناجزة المحررة من جميع الارتباطات والقيود. وللأمر خطورته في الداخل كما في الخارج، نظراً لأوضاع الشعوب العربية السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتأخرّة.

والإستقلال يعني بخاصة أن يكون للشعوب العربية رقابة كاملة على إدارة جميع مرافقها الإقتصادية، فلا يكون نفوذ الشركات الأجنبيّة انتداباً داخلياً خفياً، ولا يمهّد لاستعمار جديد.

أما الإتحاد: فلأنه نزعة صميمية جوهرية في حياة البشر، أفراداً وجماعات، ولا يتمّ في الواقع إلاّ على أساس إشتراكي واضح الذهنية والمعالم.

والاتحاد الأوّل المفروض، هو بين الشعوب العربية ذاتها في الحقل الإقتصادي والسياسي.

ثم السعي الأوسع في سبيل تكوين اتحاد عالمي يضمّ جميع شعوب الأرض ويكون الأداة الفعّالة والوسيلة الوحيدة لضمان إبعاد خطر الحروب والمنازعات وتوطيد السلم بشكل نهائي على وجه هذا السيّار المتجوّل.

ولا بدّ لنا في هذا الباب إلاّ أن نرحبّ بسعي الأحزاب الإشتراكية والشعوب الآسيوية والأفريقية في سبيل تكوين جبهة للنضال ضدّ الإستعمار، والتعاون على نطاق إقليمي قاري تمهيداً لظهور الإتحاد العالمي المنشود.

ونعني بالإشتراكية، ورفيقتها الملازمة الديمقراطية، تلك القضية الجبّارة التي تتحرك وتتوجّه إليها شعوب العالم من خلال نضالها التاريخي، لتحقيق رمز طالما دغدغ خيال الأجيال: عالم حرّ وشعب سعيد.

ويتوجّب علينا، بخاصّة، أن لا نهمل الدفاع عن مصالحنا الشعبية والوطنية في وجه المحاولات الداخلية والخارجية ووضع العالم القائم، حيث لا تزال المصالح القومية تطغى فيه على سواها من الأهداف الشعبية البعيدة.

القرارات الأساسية في سياستنا الخارجية والإقليمية

إنّ جميع هذه المواجهات الواقعية التي أوردناها لماماً، تدفعنا إلى تقرير الأمور التالية بالنسبة للسياسة الخارجية:

1- إن السياسة الخارجية التي نعتمدها هي واقعية مثالية في آن واحد، أي أنها تعالج الأوضاع والظواهر كما تبدو لنا من خلال التحليل العلمي الموضوعي، على ضوء المبادىء المناقبية والمعنوية والنهج الثوري وأهداف التطوّر الإنساني الأخير، وجميعها كما نتصورها من خلال مفهومنا للكائن البشري والدولة والحضارة.

2- اعتماد سياسة ونهج القوة الثالثة – عنواناً للحضارة الإشتراكية التي نهدف إلى بنائها وأسلوباً ثورياً لتدعيم السلم العالمي، ولمباشرة التعاون والاتحاد الأوسع، وأداة لانتصار الإشتراكية وتحررّ الشعوب من الاستعمار. وينجم عن ذلك، بخاصة، شجبنا للأحلاف العسكرية، وللمعاهدات السياسية والدفاعية مع المعسكرين المتناصرين، وللمساعدات العسكرية، وللسياسة التي تنتسب إليها في الداخل. هذا مع ترحيبنا بالمعاهدات الإقتصادية المتكافئة، وبالتعاون السياسي مع جميع الدول لأجل تدعيم السلم وتحقيق أهداف التعاون والإشتراكية.

3- توحيد النضال الشعبي في البلاد العربية التي تحمل لواءه الأحزاب الإشتراكية العربيّة. وإنشاء جبهة نضال عربية موحدّة الأهداف، متناسقة النهج، مؤلّفة من جميع الأحزاب الإشتراكية وسواها من الأحزاب والشخصيات الوطنية، لمتابعة النضال ضدّ محاولات السيطرة الأجنبية، وفي سبيل تعميم الوعي الشعبين وإحلال التوافق، والتقريب بين وجهات نظر هذه الشعوب.

4- إعلان سياسة عربيّة واضحة المفاهيم تتضمن الجامعة العربية وتقويتها إضعافاً للتنازع بين الحكومات العربية، وللتباين الاقليمي والسعي لإنشاء إتحاد إقتصادي عربي، تمهيداً لقيام الإتحادات الإشتراكية العربية.

5- التعاون مع جبهة الأحزاب الإشتراكية الآسيوية، على اعتبار أنّ نضالنا هو جزء متمم لنضالها، وتأييد مبدأ تكتلّ الدول الآسيوية والأفريقية، واجتماعها الدوري، والمطالبة بإنشاء جامعة لها ورابطة على غرار جامعة الدول العربية.

6- تعزيز الإتصال مع الأحزاب الإشتراكية الأوروربية، وسواها من أحزاب أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية التي تتمثل فيها بعض اتجاهات القوة الثالثة.

7- ضرورة الإشتراك في الإشتراكية الدولية، ولو من قبيل الإفادة من هذا المنبر العالمي الكبير، ومحاولة التأثير على مقرراتها.

8- تعزيز الإتصال بالشعوب العالمية كافة، تنفيذاً لنهج الصداقة والتعاون والتفاهم المشترك الذي تعتمده الإشتراكية، وإفساحاً لمجال فهم مشاكل هذه الشعوب وتعريفها على مشاكلنا الخارجية والداخلية.

الامم المتحدة قديما

9- تقوية جهاز الأمم المتحدة على أسس تضمن السلم الجماعي وتبعد التناحر بين الدول الكبرى، وتحلّ المساواة بين الدول المشتركة فيها، وذلك بإلغاء حقّ الفيتو، بشكل خاص، إنشاء مجلس شعبي برلماني عالمي تنتخب شعوب العالم أعضاءه على أساس اقتراع شعبي مباشر، ويعود إليه أمر البتّ نهائياً بقرارات الأمم المتحدة.

10- متابعة النضال في سبيل السلم، والمطالبة بنزع السلاح الشامل للقوى العسكرية العادية والقنابل الذريّة تمهيداً لإزالة التناحر القائم.

11- اعتماد سياسة ترمي إلى تحقيق التبادل الحرّ للأفكار والسلع والأموال والأشخاص بين دول المعسكرين القائمين، على اعتبار أن مثل هذا التبادل هو من أنجح الوسائل الرامية إلى تبديد جوّ الإنقباض والخوف والتباعد المتبادل.

12- تدويل مصادر القوى الذريّة وتعميم معلوماتها، وتكوين الجهاز الدولي الذي يمكّن جميع الشعوب من الإفادة منها، وبخاصة شعوب البلدان المتأخرّة اقتصادياً.

13- اعتماد المبدأ القائل بأن التحرير الداخلي من الفقر والعوز يساعد على التحرير الخارجي.

14- تأييد قضايا مراكش والجزائر وتونس بمناسبة الثورة المندلعة في تلك البلدان. والطلب من الدول العربية أن تساهم في مدّ المعونة المالية والمعنوية لهذه الشعوب المناضلة في سبيل حريتها وكرامتها، والمطالبة بإنشاء صندوق عربي خاصّ لمكافحة أعمال الاستعمار تشرف عليه الجامعة العربية.

——————————–

(*) المصدر: كمال جنبلاط، “المرتكزات الفكرية والدينية للعالم العرب”، الدار التقدمية، الطبعة الأولى، نيسان 2012، ص 60-72