حق تقرير المصير بين إشكالية المفهوم والواقع المأزوم

د. رامي كمال عطاالله

عوضاً من الاسترشاد بالمبادئ القانونية وروحيتها نعيش اليوم غمار تداعيات العبث بالمفاهيم الحقوقية الموروثة والتي من المفترض أن تكون ملاذاً لحل المعضلات، ليس فقط على المستوى القانوني إنما أيضا على المستوى السياسي.

هذا الترهل الذي أصاب الجسم السياسي لاقطار المعمورة أضفى على المشهد العام مزيجاً من اليأس وعدم الجدوى من ضرورة وجود نظام قانوني يحمي من جموح العنف الذي هو سمة المرحلة، ولعله الثقافة الوحيدة في أنماط عيش من يعبثون بالبشرية.

في العام ١٧٤٨، بحث المفكر الفرنسي مونتسكيو عن روحية القوانين، فإستشف من خلالها المبادئ العامة كي ترتقي البشرية لمصاف العيش بكرامة في ظل شرعية القانون لا غوغائية المفسدين. أما اليوم أضحى العالم يبحث عن الغوغائية ما بين سطور القانون متجاهلا صوابية المنطق، غارفا من حنايا ملذات العنف منطق الاستقواء، على أساس أن التسوية ستكون جاهزة في نهاية المطاف، كونها إحدى الوسائل المشروعة في حل النزاعات عبر التفاوض والوساطات.

إن النزاعات التي نشهدها اليوم وتداعياتها ترتبط بشكل مباشر بالرشد السياسي المطالب به، والذي هو بحق حق كل الشعوب. إنما السؤال الذي يطرح، هل أن هذا الحق ولد وبقي منذ قوننته في العام ١٩٦٠ وصفة سياسية، أم أن مرتكزاته تجد أساساً لها في القانون الدولي العام؟

أقرت الجمعية العامة للامم المتحدة القرار ١٥١٤ ( د-١٥) في العام ١٩٦٠، وكان بمثابة حجر الزاوية في تبني خيار الاستقلال من زاوية قانونية محصنة بميثاقية المنظمة الدولية. وعلى أثره دأبت الامم المتحدة على رسم خارطة طريق عبدت بمسارات تسوية ، فأنتجت في العام ١٩٧٠ القرار رقم ٢٥٢٦ الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ ٢٤ تشرين الأول، والذي قضى بإعلان مبادئ القانون الدولي المتصلة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاقها، والذي أعقبه القرار ٣٢/١٥٥ المؤرخ في ١٩ كانون الأول ١٩٧٧ من أجل تعميق وتدعيم الانفراج الدولي.

لعله من المجدي أن نستذكر هذه القرارات، والمؤكد أنها لا تسقط بمرور الزمن، لكن يظهر أن عبق الأزمات أرخى بظلاله عليها، فباتت منسية في الادراج تأخذ قسطاً من حقها من غبار الأزمان المذيلة بتوقيع صانعي الحروب.

إنبرى عقد الاستعمار وتمت تصفيته، ولكن أطل علينا إستعمار من نوع آخر، وتوصيفه المنطقي ووفق مقتضيات القانون “النظام العالمي الجديد” القائم على سياسة المصالح، وذرائعه متعددة وأهمها حقوق الانسان .

في العام ١٩٨٨، بدأ إنهيار الاتحاد السوفياتي، وكان التوجه العالمي يقترب أكثر فأكثر من فكرة الوحدة، وذلك لمواجهة الاخطار المحدقة، وبغية إرساء وئام وتآخي ما بين الشعوب، وليس هذا الانهيار وليد الصدفة أو واقع حال، إنما كان نتيجة حتمية لسياسات استراتيجية تداركتها الدول، فمنها من عمد إلى تأجيجها من باب حق تقرير المصير، ومنهم من عبر إلى الضفة الثانية غير آبه للتطورات الحاصلة، ومنهم من بقي عن قصد أو عن غير قصد على ضفته التي إما لا بديل له عنها، أو أنه على يقين بصوابية المحور.

هذه الضبابية جعلت من القانون سحابة صيف تسير وفق أهواء من يريد الاستظلال بها، أو إجتنابها بغية الافادة من حرارة الشمس والتمتع بصفاء السماء.

فبإسم الشعوب تُدمر المدن، وبعلة حقوق الانسان تُدار الحروب، ويبقى السؤال عن ماهية أساليب التعاون والصداقة، وعن الرشد السياسي الذي أضحى مقيداً أكثر فأكثر مما كان عليه إبان نير الاستعمار.

إن حق تقرير المصير يستدعي مستلزمات حددها القانون الدولي، وجميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة أكدت على مبدأ السلامة الاقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة وذات السيادة.

وإذا ما سلمنا بضرورة المضي في هذا الحق، فهل من الجائز المطالبة به من قبل الجماعات الاثنية والقومية؟

من الطبيعي إذا ما عمم هذا المبدأ، أننا سنشهد فوضى عارمة للنظام الدولي، حيث يندر أن تجتمع لدولة ما كافة عناصر التجانس ومقوماته. فلا ينبغي ان يفسر مبدأ حق تقرير المصير بإعتباره يرخص أو يشجع أي عمل من شأنه أن يمزق أو يضعف بصورة كلية أو جزئية السلامة الإقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة وذات السيادة، والتي تتصرف على نحو يتماشى مع مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير.

إذا يبقى هذا الحق مشروطا لاستخدامه، إذ أن الحكم الاستبدادي وغياب دولة القانون يشكلان سبباً جوهرياً للمطالبة بالديمقراطية على أساس الحق في تقرير المصير، ومن هنا وفق زاوية الوصاية السياسية تنهال التبعات المدمرة باستدراج عروض المكاسب السياسية، ومن ثم إنضاج الحلول عبر تسويات باهظة الاثمان.

مرة أخرى نستذكر القرار ٢٥٢٦ ونتساءل مجدداً عن كيفية وماهية أساليب التعاون والصداقة، ويصبح السؤال كالتالي:

هل أن المصالح السياسية وعبر التسويات ديباجتها تكون حتما نزاعات وأزمات؟

وهل أن هذا الامر أضحى عرفاً دولياً؟

وأين القيم الإنسانية من كل ما يجري؟

من تصفية الإستعمار إلى النظام العالمي الجديد مرورا بالانفصالات – الحركات التحررية – المقاومة – ١١ أيلول الأميركي – المشهد اليمني – المشهد الافريقي – الشرق أوسط الجديد – ١١ ايلول الاوروبي – إسقاط الطائرة الروسية…. تترنح مظلة القانون، ولعله من المجدي البحث عن تسوية القانون بدلا من إدارة الأزمات وفق مقتضياته.