هل قيم الحريّة والديموقراطيّة في خطر؟

رامي الريس (النهار)

كثيرة هي الأوصاف التي أُطلقت على حوادث باريس الأخيرة، ولكن مهما تعددت التسميات فإنها تبقى بمثابة أعمال إرهابية بربرية تمس بمفهوم الإنسانية ولا سيّما أنها مرتكزة على أفكار جهنمية إنتقامية وحشية لا تمت بصلة إلى أي دين أو فكر.

كثيرة أيضاً هي التساؤلات حيال المفاعيل التي ستتولد مستقبلاً عن العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب مع تنامي مشاعر الحقد والكراهية وتصاعد موجات العنصرية والتعميم المطلق الذي يرفض مذهباً أو ديناً فقط لأن بعض مَن يدّعون حمل إسمه يمارسون أبشع الفظاعات وأكثرها وحشية، وبعضهم ممّن لم يلمس أو يقرأ صفحة من هذا الكتاب أو ذاك!

لكن السؤال الأكثر إلحاحاً يتصل بمدى القدرة على التوفيق بين الحفاظ على الأمن لدى الدول الأوروبية التي تتعرّض للإرهاب وبين حماية القيم السياسيّة والإنسانية والأخلاقية التي ولّدتها الثورات الغربية وفي طليعتها الثورة الفرنسية. سواءً اتفق المرء مع السياسات الأميركية أو الأوروبية أو اختلف معها، لا يستطيع إلا أن يحترم المبادئ السياسية التي تجذرت مع الفكر الفلسفي السياسي الغربي وثبّتتها الدساتير الأوروبية وكرّستها داخل بلدانها بالفعل.

0001
طبعاً، هذا لا يلغي على الإطلاق أن الغرب تغاضى لعقودٍ عن الشعارات التي رفعها مع حلفائه حول العالم وغضّ الطرف عن استبداد البعض منها وتوتاليتارية البعض الآخر. هذه الإزدواجية كانت لها آثار بالغة السلبية وخصوصاً في المجتمعات العربية التي عانت من الظلام والطغيان لعقود وعقود ولم يكترث بها الغرب فقط لأن مصالحه السياسية والإقتصادية مؤمنة مع الأنظمة القمعية من دون أن يرف له جفن حيال الحقوق المهدورة للنخب والشعوب في مواقع مختلفة حول العالم، وفي طليعتها المنطقة العربية!

بعد حوادث الحادي عشر من أيلول 2001، شددت الولايات المتحدة الأميركية إجراءاتها الأمنية في مطاراتها وبواباتها البرية ومختلف مرافقها ولا سيما أن الاعتداءات شكلت خرقاً أمنياً كبيراً لدولة اعتُبرت، ولا تزال، الأقوى في العالم. مع صدور قانون Patriot Act الشهير الذي يتعلق بتسهيل إجراءات التحقيقات والتنصت والتفتيش، يمكن القول إن جانباً مهماً من “الحرية الأميركية”، إذ صح التعبير، قد انتُهك وأصبحت معه تلك الحرية “أقل”. مع إعلان باريس تطبيق حال الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر للإنقضاض الإستباقي على أي شكوك مبنية على معلومات استخباراتية بالتوازي مع إجراءات أخرى، يمكن القول إن “الحرية الفرنسية” ستصبح، في مكانٍ ما، “أقل” أيضاً.

إنها إشكالية معقدة. المواءمة بين الحرية والأمن ليست بالمسألة السهلة ولا سيما عندما تنفتح الساحات الدولية بعضها على بعض، فردّ المجموعات المتطرفة من سوريا على التدخل الفرنسي في أفريقيا حصل في قلب باريس، تماماً كما انقضت الولايات المتحدة على أفغانستان رداً على ما حصل في نيويورك، وكما تدخل الطيران الروسي في سوريا لتحقيق مكتسبات في آسيا الوسطى، كما في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم!

وإذا كانت العلاقة إشكالية بين الحرية والأمن، فإنها أكثر تعقيداً بين الحرية والدين، وهي مادة سجالية شغلت الفلاسفة على مدى قرون. في كتابه المرجعي، “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة”، يقول الباحث الفرنسي أوليفييه روا إن العلمنة والعولمة أرغمتا الأديان على الإنفصال عن الثقافة، ويعتبر أن “فشل الديني السياسي (إسلاموية، حكومة دينية) ينجم من أنه أراد منافسة العلمنة في ميدانها الخاص: الفضاء السياسي (أمّة، دولة، مواطن، دستور، نظام قانوني)”. ويخلص إلى أن الجهل المقدس هو الإعتقاد بالديني المحض الذي يتبين خارج الثقافات، شارحاً لماذا أصبح الكهنة الأفارقة أشد المحافظين ضمن الكنيسة الأنغليكانية، ولماذا تحول العديد من المسلمين إلى المسيحية، وأسباب اجتذاب الحركات الإسلامية السلفية شباناً أوروبيين فضلاً عن النمو الذي تشهده البوذية في أوروبا، والبروتستانتية في كوريا الجنوبية، مؤكداً أن نظرية صدام الحضارات قاصرة عن تفسير هذه الظواهر ولا سيما أن “ظاهرة الإنتعاش الديني ليست تعبيراً عن هويات ثقافية تقليدية إنما هي نتيجة للعولمة ولأزمة الثقافات”.

يا له من مفهوم عميق، ذاك المفهوم أو المصطلح المسمى “الحرية”، وهو أساس البنية السياسية والإجتماعية في المجتمعات الديموقراطية، وهو المبدأ الذي يرنو اليه ويناضل في سبيله الثوار والثورات.

033

كتبت حنة آرندت في مؤلفها الشهير، “بين الماضي والمستقبل” كلاماً مهماً حول الحرية وقالت: “الحرية هي في الواقع السبب الذي من أجله يعيش الناس في أي نظام سياسي على الأطلاق، ومن دونها لا معنى للحياة السياسية كحياة سياسية. إن السبب المبرر للسياسة هو الحرية، ومحكّها هو العمل”. وهي الحرية التي وصفها جون ستيورات ميل بأنها “ملكوت الوعي الباطني”.

على الرغم من أن حدة هائلة حصلت عبر التاريخ في إطار الصراعات على السلطة واتخذت كل أشكال العنف والدموية وحتى السادية (كما يحصل في سوريا اليوم حيث أن بقاء السلطة والنظام هما الأهم ولو على أشلاء مئات الآلاف من السوريين)، فإن الصراع حول القيم والمفاهيم لن يكون أقل حدة وضراوةً (وهو يعبّر عن نفسه في بعض الصراعات الدائرة حالياً) وقد اتخذ أشكالاً ومنعطفات جديدة ستتمخض عنها تحولات كبرى. فصراعات السلطة قد تكون محصورة ضمن إطار دولتي- جغرافي معيّن، لكن صراعات القيم لا تحدّها حدود هذه الدولة أو تلك، بل هي عابرة للقارات والمجتمعات واللغات. فكما أن المحافظين في اليهودية والإسلام والمسيحية قد يلتقون في رفض ظواهر معينة (المثلية الجنسية على سبيل المثل) إلا أنهم يتناقضون في قضايا جوهرية أخرى ليست أقلها نظراتهم المتبادلة بعضهم إلى بعض وفهمهم غير المكتمل أو حتى المشوه للتعاليم الدينية التي قامت في جزءٍ منها، بعضها على نقيض بعض، بخلاف ما قد يدّعي بعض علماء الدين أو الفلاسفة. فكما سبق للشيوعية أن قدّمت نفسها على أنها، في بعض جوانبها، نقيض فكري وفلسفي للمسيحية فاندلعت لها صراعات مشهودة مع الكنيسة و”الغرب المسيحي” إذا صح التعبير، فإننا ربما نشهد اليوم ولادة منظومة جديدة للتيارات المتطرفة لهدم كل المنظومات الأخرى التي تقف على طرفي نقيض مع مشروعها وأهدافها.

كان الأمل أن تتجه المنطقة العربية، رويداً وريداً، ولو بأكلاف باهظة، نحو الحرية، وأن توسع مساحاتها في هذا الإتجاه، فإذا بالبلدان التي “منحت” مساحات واسعة للحرية تذهب رويداً رويداً نحو تضييقها. السبب غياب الوعي والإبتعاد عن الحرية والمسؤولية. إنه الجهل والفقر والقهر التي ولّدتها الديكتاتوريات العربية التي تغاضت عنها الديموقراطيات الغربية! إنه الثمن الذي يُدفع اليوم من كل أبناء الكرة الأرضية نتيجة عدم انتشار مبادئ الحرية والعدالة الإجتماعية والديموقراطية. فكم أصبحت ضيقة هذه الكرة الأرضية!