المفكر اليساري كريم مروة: القهر والظلم يتحكمان بلحظة التغيير (5/1)

يرى اليساري العتيق المفكر كريم مروه أن ما شهدته الدول العربية، يخرج عن إطار الحراك المدني، ويرتقي إلى مستوى الثورة. وفي قراءته لهذه الثورات، تناول أسبابها وما تخللها من خلل. وإعتبر أن الظلم والقهر كانا السبب الرئيسي لخروج الجماهير للمطالبة بالتغيير. وبما خص الحراك الذي يشهده لبنان، إعتبر الأستاذ مروة  في حديثه لجريدة “الأنباء الإلكترونية”، أن هذا الحراك يحتاج لوعي ورتقاء في تحركه، وتالياً في مطالبه التي يجب أن يكون عنوانها الأساسي الضغط لانتخاب رئيس للجمهورية. فإلى حديثه.

*كيف تنظر للحراك المدني الذي شهدته الدول العربية؟

– لا أعتبر ما حصل في الدول العربية حراكاً. لقد سبق وأطلقت صفة “الثورة” على ما شهدته تونس، ومصر وليبيا، واليمن وسوريا. ولا زلت حتى هذه اللحظة أعتبر ما يحصل هو ثورة، لأنه لأول مرة، ومنذ زمن طويل، تطرح قضية أساسية من خلال هذا الحراك الثوري طرحت ولا تزال قضايا تتعلق بالتغيير. صحيح أن بداية التغيير عنوانه “لم نعد نستطيع، ولا نقبل العيش كما كنا نعيش”، و”نريد حرية وكرامة وعيشاً كريماً”، مرفقة في بعض البلدان بعنوان ينادي بـ”إسقاط النظام الاستبدادي القمعي القائم”، لكن بداية التغيير هو ثورة. فعندما تطرح قضايا من هذا النوع، وبمعزل عن التفاصيل، فإننا امام ثورة وليس مجرد حراك. وقد كتبت عن هذا الموضوع، وألقيت محاضرات، وحضرت ندوات، ما مجموعه 15 في لبنان، وتونس، ومصر، والعراق، وفرنسا، وكانت جميعها عن هذه الثورات.

* لما تتحدث عن ثورات وليس حراك؟ ما ملاحظاتك عليها؟ وبالتالي، ما الذي يدفعك لاعبتارها ثورة؟

– ما حصل في هذه الدول ثورات قامت بها فئات شعبية، بعدما بات إحساسها بالقهر والظلم عميق. عبّرت هذه الفئات عن رغبتها في إزالة الظلم القهر، من دون مخطط، وبرنامج، ووسائل محددة يحتاجها التغيير، ومن دون قيادة. وعندما أقول قيادة، لا أتحدث عن قائد، لما لدي من موقف واضح ضد القادة التاريخيين. أتحدث عن قيادات، بمعنى مجموعات تتشكل في ما بينها، لا عن قائد واحد يصبح مستبداً وإن لم يكن يرغب بذلك.

Untitled

* وهل تعتقد ان هذه الثورات حققت أهدافاً؟

– كنا ولا نزال أمام ثورات يعتريها خلل أدى إلى عدم نجاحها كما كان يريد أصحابها. ومرد هذا الخلل يعود إلى أن النظام القديم عمره طويل جداً، وعميق ومتجذر. وبالتالي، فإن المظاهرات التي رفع فيها شعارات التغيير لم تغير بالواقع. وإني دائماً أستشهد بالثورة الفرنسية التي تحققت شعاراتها بعد 150 عاماً على إطلاقها. من هذا المنطلق، حرام علينا محاكمة هذه الثورات لأنها لا تزال بسيطة وفتية. لكن أهمية هذه الثورات يكمن في رد الفعل عليها، والتي كانت شرسة، إذ أن النظام القديم إرتعب منها بمجرد خروج جماهير تطالب بالتغيير، فجاء الرد عليها شرساً. إختلفت الشراسة بين بلد وآخر. كانت الشراسة أقل حدة بتونس ومصر، وفي اليمن بالمراحل الأولى من الثورة إلى أن تحولت إلى ما هي عليه الآن. أما في ليبيا، فكانت دموية وكارثية، بظل تسجيل تدخل خارجي. والأمر نفسه ينطبق على سوريا. أما البحرين، فقد سبق وتحدثت عن خلل إعترى ثورتها، وكان واضحاً جداً. إن المطالب التي رفعتها الجماهير في البحرين، هي مطالب محقة، ولكن الدور الإيراني الخارجي أساء إليها كما أساء إلى اليمن في ما بعد.

* ماذا عن الحراك في لبنان؟ وهل يشبه ما شهدته الدول العربية؟

– يختلف الأمر في لبنان، لأنه لا يوجد نظام مستبد، إنما هناك نظام مستبد برؤوس متعددة، وإسمها بصفة أساسية الطائفية والمحاصصة باسم الطائفية. أصدرت قبل فترة بياناً باسم “بيان من اجل يسار لبناني جديد، حركة شعبية حاملة مشروع ديمقراطي للتغيير”. وأشرت فيه إلى بداية الخلل في المسألة اللبنانية في لحظة الاستقلال، وبعد 23 عاماً على ما عرف بـ”الانتداب الفرنسي” و”لبنان الكبير”، وقد تجلى هذا الخلل حين وضع أبطال الإستقلال أساس لبنان الإستقلال على أساس طائفي بحث. وقلت أنه عندما أعطوا للمسيحيين الحق بإمتيازات في الدولة، أعطيت لهم بصفتهم طائفة من الطوائف اللبنانية لكونها تمثل العدد الأكبر من الطوائف الأخرى. والخطأ الفادح الذي سجل لأبطال الاستقلال انهم تعاملوا مع المسيحيين على هذا النحو، ولم يعودوا إلى التاريخ، وتحديداً إلى القرن التاسع عشر، حيث كان المسيحيون قادة سياسيون، ومفكرون، وأدباء، وفنانون، وإعلاميون، ومؤسسات تعليمية. كانوا الأكثرية الساحقة ومن مواقعهم أبطال، ورواد حركة نهضوية تنويرية. وكان من بينهم علمانيون، وفي ما بعد إشتراكيون وصولاً إلى الشيوعيين في مطالع القرن العشرين الماضي.

مظاهرات

* كيف كان ينبغي التعامل معهم بعد لحظة إعلان إستقلال لبنان؟

– كان يجب أن يتم التعامل معهم في تلك اللحظة التاريخية كمؤسسين للبنان الجديد من الذين حملوا لواء الاستقلال، وليس كطائفة مسيحية. كان مفترضاً أن يحملوا إلى الاستقلال فكرة أن لبنان هو ملتقى الثقافات والحضارات. وما حصل أعتبره خللاً أدى بنا منذ ذلك التاريخ عبر الحروب الأهلية، إلى ما نحن فيه اليوم.

* برأيك، كيف تتكون ظروف لحظة التغيير؟

– كما سبق وأشرت عن مصر وغيرها من البلدان العربية، أنه في لحظة معينة يصل القهر إلى حد لا يستطيع المرء تحمله. أعرف جيداً ما كان عليه الوضع في مصر وتونس، وكيف كان يعيش الشعب. كما وأعرف الوضع في ليبيا واليمن، وكيف كانت الشعوب تتحمل، علماً أن هذه البلدان لم تشهد قيام حركات سابقة، بل نضالات معينة. قد تكون سوريا البلد الوحيد الذي شهد في العام 2000 قيام معارضة أصدرت بياناً طالبت بالتغيير، لوجود وعي متقدم لدى بعض النخب السورية من دون أن تكون هناك قوى شعبية داعمة له. وصلت القوى الشعبية السورية في العام 2011 متأخرة، وبعد تونس ومصر. لذا، فإن لحظة التغيير تحل عندما يصبح الشعب غير قادر على تحمل عناصر الظلم والقهر. هذه مناسبة ليست عامة وجماهيرية بالمطلق، بل ينتمي إليها قسم من الجمهور.

* كيف ذلك؟

– إذا أخذنا مصر، فإن الملايين التي ظهرت في المظاهرات هي جزء من 90 مليون نسمة، علماً أن 80 مليون على أقل تقدير يعيشون حالة القهر. لكن من تحرك هو بين 3 و30 مليون ممن خرج ضد النظام. أما الجمهور الأكبر الذي يعيش الظلم ينتظر من خرج ليعرف ما إذا خرجوا من أجل التغيير أهل للسير خلفهم من جهة، ومن جهة أخرى ما إذا كانوا فعلاً قادرين على تحقيق التغيير ليتحركوا وراءهم. عندما لا يظهر للجماهير الكبيرة عدم توفر شروط الثورة، يرضخون لواقعهم. وهنا أروي منا قاله لي صديق مصري، وما مفاده أن أحد رجال الأعمال سأل عامل مصري عن راتبه، فأجابه 10 جنيه. عندها، قال له رجل الأعمال أدفع لك 25 جنيهاً، فاستمهله المواطن للتفكير بالأمر. وبعد أسبوع، جاءه الجواب أنه يفضل البقاء حيث هو. وعند استيضاحه، اجابه العامل بأنه نظم حياته على العشرة جنيه، فيما إذا إعتاد على الـ25 جنيهاً، ومن ثم لم تعد تدفع، ماذا أفعل؟ هذه السالفة، مفادها أن الشعب لا ينتقل إلى مرحلة جديدة إلا بعد تكون قناعة لديه بإستمرارية وديمومة ما ينتظره في المرحلة الجديدة.

Egyptian

* مما لا شك فيه أنه إلى تكون لحظة أحداث التغيير، ثمة عناصر مطلوبة لانجاحه. ما هي؟

– أفضل الحديث عن الحراك في لبنان، حيث خرج اللبنانيون في البداية ضد الفساد، وقالوا “طلعت ريحتكم”، فيما آخرون نادوا بـ”بدنا نحاسبكم”. فعلاً، طلعت ريحتكم، وعملياً يجب محاسبة الفاسدين. لكن، لم يكن هناك من وضوح. كيف سيحاسبون؟ طالبوا باستقالة وزير البيئة. لنفترض أنه استقال وبقيت الحكومة، ما كان سيحصل؟ أدرك الحراك بعد فترة أن المسألة لا تتعلق فقط بإستقالة وزير، بل بكيفية حل أزمة النفايات. لذا، بدأ الحراك يرتقي تدريجياً لجهة كيف نطلب من الدولة وضع خطة مستدامة وحقيقة وصحيحة للنفايات. هذه معركة صحيحة. إرتقى الوعي لكيفية الضغط من أجل حل هذه الأزمة. كما بدأوا بالتفكير بالفساد، فطرحوا مسألة الكهرباء والمياه. هذا الأمر يشير إلى أن التغيير لا ينحصر بتحقيق مطلب واحد، بمعنى معالجة مشكلة النفايات والمياه والكهرباء. ماذا بعد؟ ينادون  بانتخابات نيابية للانتهاء من التمديد، علماً أن الانتخابات النيابية ينبثق عنها رئيس جمهورية وحكومة.

* لكن ألا ترى أن الحراك يغفل عن مطلب أساسي ألا وهو إنتخاب رئيس للجمهورية؟

– إن عدم ذكر رئاسة الجمهورية، في تقديري خطأ، لأن وضع قانون انتخابي ديمقراطي، وما إذا سيكون ديمقراطياً أم لا، وقدرة هذا الحراك أن يفرض على النواب الحاليين الممدد لهم إنتاج قانون ديمقراطي، هو موضع شك. أعتقد أن وعي الحراك المدني لم ينضج بعد. عليهم البدء من حيث الإمكان والذي هو الضغط لانتخاب رئيس للجمهورية، ولو من قبل المجلس الممدد له، لأننا بحاجة لرأس في السلطة. عندما ينتخب رئيس، يفرض انتخابه على المجلس النيابي المباشرة بنشاطه، على أن تكون مهمته الأولى بعد حكومة جديدة، أن يعمل وتحت ضغط الجماهير على وضع قانون إنتخابي ديمقراطي. لكن الحراك حتى اليوم لم يصدر عنه أي كلمة واحدة حول ما سيكون هذا القانون، وما هي صيغته. ينبغي أن يقترن هذا المطلب مع شعارات أخرى، منها على سبيل المثال اللامركزية الإدارية، التي من شأنها أن توصلنا إلى انتخاب مجالس محلية، تصبح حكومات محلية. ومثل هذا الأمر يتطلب تحديد مجالس محلية على صعيد توسيع المحافظات والأقضية.

هناك حاجة لأن يرتقي وعي الحراك كي يدخل بتحديدات دقيقة. يطرحون شعار “لا لخصخصة الكهرباء”. ما هذا الشعار؟ علينا البحث عن حل للكهرباء بخصخصة أو غير خصخصة. هناك في العالم ما يعرف بالـ”BOT”، بحيث تكلف مؤسسة خاصة لفترة محددة شؤون قطاع معين، فتجني أرباحاً تحت رقابة الدولة التي تجبي منها الضرائب، على أن تعيد قطاع الكهرباء للدولة بعد إنقضاء العقد. ومثل هذا الأمر، ينطبق على المياه والسدود، والمياه النهرية، والاحراج، والشواطئ والنفط الذي لليوم لا نعرف ما إذا لدينا نفط أم لا؟ إنهم يتحدثون عن المحاصصة قبل فعل التنقيب عن النفط.

* ما يعني أن الحراك ليس واعياً؟

– لنقل أن كل ما سبق وعددته يتطلب إرتقاء بوعي الحراك، وتحديد القضايا التي نحتاجها، قضية تلو قضية، بعد دراستها وعرضها أمام الجمهور. من المهم أن يصل الحراك إلى تحديد المهمات المطروحة، والقضايا التي يشكو منها المواطن. القضية الأساسية هي المحاصصة الطائفية، ويجب النضال ضدها بوسائل متعددة، قبل الوصول إلى إلغاءها. يجب تهيئة الشروط التي تجعل الجمهور قادراً على الخروج التدريجي من هذه المحاصصة.

* يبقى، ما هو الخط الفاصل بين الحراك والفوضى؟

– أنا ضد هذه المقولة. ماذا نعني بفوضى؟ هل يعني نزول المواطنين إلى الشارع وإحتلاله؟ من الذي إحتل الشارع؟ هل الحراك الذي يطالب بالتغيير أم الذين إحتلوا وسط المدينة وعطلوا الحياة الاقتصادية فيها لأكثر من سنة؟ ما حصل كان فوضى، بينما  في الحراك، يخرجون لساعات بمظاهرات، ويطالبون بقضايا عامة ثم ينسحبون.

—————————-

(*) حاورته: نضال داوود